هل من السهل أن تكون صحافيا أجنبيا في موسكو؟

قنبلة «الغلاسنوست» أدت إلى كثير من التغييرات شملت مختلف مناحي الحياة وأطاحت بالكثير من الرؤوس الإعلامية

ناتاليا تيماكوفا الناطقة الرسمية الحالية للكرملين
TT

هل من السهل أن تكون صحافيا أجنبيا في موسكو؟ هذا السؤال نقتبسه من عنوان أشهر فيلم وثائقي سوفياتي أقام الدنيا ولم يقعدها لسنوات طوال إبان حكم الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف في أعقاب إعلانه عن برنامجه «البريسترويكا وسنوات التفكير الجديد» وما تلا ذلك من إعلان لسياسات الغلاسنوست، أي العلانية والشفافية. وكان الفيلم «هل من السهل أن تكون شابا؟» تناول نواقص الحياة السوفياتية وسياسات الكرملين في أعقاب الغزو السوفياتي لأفغانستان من واقع مشاهدات ومعايشة الشباب ممن كانوا يسوقونهم إلى أتون الحرب ضد المجاهدين الأفغان ليعود منهم من تقيض له النجاة والحياة محملا بأعباء نفسية جسام تجعله يسب الدنيا ومن فيها ويكره استمراء العيش في وطن كفر بقيمه ومبادئه.

ومن منطلقات مشابهة نتساءل: هل من السهل أن تكون صحافيا أجنبيا في موسكو؟ أن تكون صحافيا محترفا تمثل صحيفة أو جهازا إعلاميا، رسميا كان أو غير رسمي، ذلك لا يكفي لأن تمارس عملك وتستمتع بما تقوم به إعلاء لحرية الكلمة وقدسية المعلومة. ولن تكون المهنية والخبرة والكفاءة كافية لممارسة العمل الصحافي في روسيا. فأنت في حاجة إلى أشياء أخرى.. لا تباع ولا تشترى. ولنتذكر أيام الأمس القريب.. بل والبعيد أيضا أي إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق.

كان يكفي لصحيفتك التي تعمل بها أو معها أن تحرر خطابا رسميا إلى «قسم الصحافة لدى وزارة الخارجية السوفياتية» تطلب اعتمادك مراسلا لها في الاتحاد السوفياتي وترجو مد يد المساعدة لممارسة عملك الصحافي مع نبذة موجزة عن المطبوعة ومراسلها المقترح اعتماده. هذه الصيغة المقتضبة التي حملها خطاب مجلة «صباح الخير» المصرية ثم مجلة «المصور» هو ما احتجنا إليه لبداية نشاطنا من موسكو منذ ما يزيد عن ربع قرن. ولم يكن المركز الصحافي التابع للوزارة يماطل كثيرا في منح الاعتماد اللازم في غضون أقل من شهرين بموجب القوانين المعمول بها والتي يتجاهلها اليوم بعض من عهدت إليهم موسكو بمفاتيح كرار الصحافة والصحافيين في وزارة الخارجية الروسية.هناك تحديدا تصادف اليوم من يتعمد المضايقة وممارسة الكثير من التعسف والبلطجة المهنية دون مبرر منطقي أو سند قانوني. هناك يتواصل «العبث» لما يزيد عن العشرة أعوام أذكر أننا تكبدنا خلالها الكثير من المشقة والعنت والذي بلغ يوما حد المطالبة بالرحيل أو بقول آخر «التهديد بالطرد». هناك صادفنا من يتعمد تعطيل الاعتماد الصحافي لما يزيد عن الخمسة أشهر منتهكا المادة 4 من قانون الحكومة الروسية رقم 1055 بتاريخ 13 سبتمبر (أيلول) 1994 التي تنص على ضرورة البت في طلب الاعتماد في غضون فترة لا تزيد عن شهرين. هناك أيضا يتعمد المسؤول فرض طلبات لا علاقة لها بما ينص عليه القانون من وثائق حيث يطلب رسميا خطابا من المؤسسة الصحافية تأكيدا على أن مراسلها من العاملين المقيدين بالمؤسسة الصحافية إلى جانب خطاب آخر يفيد ضمانه ماليا خلال فترة عمله وهو ما لا ينص عليه القانون المشار إليه لتنظيم عمل الصحافيين الأجانب في روسيا في نفس الوقت الذي يكشف فيه الموقع الإلكتروني للخارجية الروسية عدم طلب ذلك من ذوي الحظوة ممن يمثلون صحفا وهمية لا وجود حقيقيا لها ونذكر منها «المواسم» السورية و«التعاون» المصرية إلى جانب آخرين ممن تزين أسماؤهم قائمة مديري مكاتب الصحافة الأجنبية المعتمدين في روسيا الاتحادية حتى نهاية يونيو (حزيران) الجاري. هناك ثالثا تجد من يتعمد منح البطاقة الصحافية لمدة عام واحد رغم أن القانون يسمح بصرفها لمدة تصل حتى عامين وهو ما كان معمولا به منذ صدور القانون في عام 1994 وهو ما يطبقونه مع آخرين من ذوي الحظوة ما يعني تأكيد الرغبة في الإبقاء على آليات المضايقة وخاصة إذا علمنا أنه ما دامت بطاقة الاعتماد تصرف لمدة عام فإن كل ما يصدر عن المؤسسات الروسية من وثائق شخصية يرتبط بهذا التاريخ ما يعني بدء مسيرة تجديد كل الوثائق الثبوتية الأخرى قبل انتهاء المدة بشهرين أو ثلاثة الأمر الذي يقلص مدة الاعتماد عمليا إلى 7 - 8 أشهر لا غير. نشير كذلك إلى خرق الخارجية الروسية للكثير من القوانين التي تحرص على نشرها على موقعها لتنظيم عمل الصحافيين الأجانب في روسيا وبما يسمح لـ«الأصدقاء» بمزاولة المهنة والحصول على مختلف الامتيازات بما فيها العينية في إطار «المصالح الدائمة وربما المتبادلة» خصما من قانونية المادة 21 من قواعد تنظيم عمل الصحافة الأجنبية الصادرة على أساس القانون 899 بتاريخ 4 أغسطس (آب) 1999. ولعل هناك في أروقة الخارجية وخارجها من يظل يذكر أسماء الكثيرين من أصحاب المطاعم والأكشاك والمؤسسات التجارية ممن كانوا يتدثرون حتى الأمس القريب وربما حتى اليوم بدفء بطاقة اعتماد الصحافي الأجنبي ورعاية المسؤولين عن صرف هذه البطاقة. ونتوقف عند هذا الحد مغفلين الكثير من المضايقات التي يمكن إدراجها تحت بند «الصغائر» وما يعيد إلى الأذهان بالكثير من الأريحية والارتياح مآثر المسؤولين السابقين عن المركز الصحافي لوزارة الخارجية الروسية ممن كانوا حريصين على الترحيب بالأعضاء الجدد في «فيلق الصحافة الأجنبية» كما كانوا يسموننا آنذاك. ونذكر أن المسؤول عن الصحافيين العرب كان يبدي حرصا خاصا على الاتصال بالصحافيين للاستفسار عن أوضاعهم وما يريدون القيام به من مهام صحافية في الوقت الذي كان المركز الصحافي يعج فيه باللقاءات والمؤتمرات الصحافية لأبرز نجوم السياسة والثقافة والاقتصاد في الاتحاد السوفياتي السابق. كانت الأجواء تنذر بالتغيير وكان الكثيرون من موظفي المركز الصحافي ودودين يعرضون مساعدتهم في تنظيم اللقاءات الصحافية مؤكدين أن ذلك من صميم مهامهم. صحيح أننا كنا نعلم أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك من يعمل لصالح «توثيق عرى الصداقة والتعاون». لكننا كنا على يقين أيضا من أن أحدا لن يحول دون التفرغ للمهام الصحافية بحثا عن الحقيقة والمعلومة مستفيدين من أجواء الشفافية والعلانية التي أعلنها في منتصف ثمانينات القرن الماضي ميخائيل غورباتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي في إطار سياسات «البريسترويكا والغلاسنوست». ونذكر أن غورباتشوف وما أن فجر قنبلته الإعلامية تحت اسم «الغلاسنوست» حتى تداعت النتائج تغييرات هائلة شملت مختلف مناحي الحياة والمجالات بوتائر عالية لتطيح ضمنا برئيس قسم الصحافة في وزارة الخارجية السوفياتية بعد أن أطاحت بعميد الدبلوماسية العالمية أندريه جروميكو أقدم وزير خارجية في العالم في انقلاب مخملي جاء بإدوارد شيفارنادزه سليل جهاز أمن الدولة والأمين الأول للحزب الشيوعي الجورجي في ذلك الحين سلفا له ليدير الوزارة بأساليب جديدة. آنذاك وقع الخيار على جينادي غيراسيموف رئيس تحرير «أنباء موسكو» في نسختها الإنجليزية ليعهدوا إليه برئاسة إدارة الصحافة والإعلام لدى وزارة الخارجية السوفياتية والقيام بمهام أول ناطق رسمي باسم الرئيس على نحو غير مسبوق في تاريخ السياسة السوفياتية. وتوالت المؤتمرات الصحافية وتحولت قاعة المركز الصحافي التي سرعان ما أعادوا تجهيزها بأحدث الأثاث والمعدات إلى خلية عمل لا ينقطع كثيرا ما زارها أبرز رؤساء البلدان الغربية والدبلوماسية العالمية من أمثال مارغريت ثاتشر وهيلموت كول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك إلى جانب أساطين الحزب الشيوعي السوفياتي ممن كانت أسماؤهم وحدها تثير الرهبة والفزع في الأوساط الصحافية والسياسية الداخلية. كانت مؤتمرات أو إيجازات «بريفنج» المتحدث الرسمي وضيوفه من كبار المسؤولين مفتوحة أمام القاصي والداني دون مكاتبات رسمية أو قيود شكلية على عكس ما نشهده اليوم في موسكو.

ولم تكن مثل هذه الأجواء لتنتج إلا أطنانا هائلة من المقالات والتحقيقات والتقارير الصحافية والمواد الوثائقية بعد تساقط كلمتي «سري للغاية» اللتين لم تكونا تتصدران فقط الكثير من الوثائق السرية بل والإعلامية التي لم تكن تحمل في طياتها أي أسرار تستحق الذكر. غير أن ذلك لم يكن يعني أيضا أن تلك الفترة الذهبية للصحافة السوفياتية والعالمية خلت مما كان يعكر صفو أجوائها بعد أن اضطرت الأجهزة الخاصة إلى الكشف عن بعض ممن قالوا بتورطهم في أعمال لا تتفق ووضعيتهم الصحافية، وهو ما أماطت عنه موسكو ومثيلاتها من العواصم العالمية اللثام بعد أن تبادلت طرد الدبلوماسيين والصحافيين مع لندن وواشنطن ممن كان البسطاء من أمثالنا يفغرون أفواههم إزاءه متسائلين.. هل كان هؤلاء حقا عملاء وجواسيس؟ وبغض النظر عن مدى حقيقة الاتهامات والمبررات نمضي لنقول إن التقليد الذي سنه غورباتشوف وسمح بمقتضاه بإطلاق طائرة «الغلاسنوست» لمرافقته في حله وترحاله تحمل من الصحافيين الأجانب من توفده صحيفته أو مجلته وتتكفل بتغطية نفقات سفره وإقامته، كان انفراجة كبرى مهدت لعلاقات مثمرة بيننا معشر الصحافيين الأجانب مع صانعي القرار في الاتحاد السوفياتي ممن كانوا يرافقون غورباتشوف في رحلاته الخارجية ضمن مجموعات الاتصال. ونشهد أن أيا من هؤلاء لم يكن يضن على أي من مرافقي غورباتشوف من الصحافيين الأجانب بحديث أو معلومة في الوقت الذي كانت فيه المراكز الصحافية السوفياتية المؤقتة التي تقام على عجل في العواصم الأجنبية أشبه بخلايا نحل لا تهدأ تفرز الكثير مما كان يتعطش إليه محبو المعرفة والطامحون إلى المعلومة من مصادرها. ونذكر أن «الشرق الأوسط» كان لها حظ الكثير من السبق الصحافي بعد أن تمكنت من خلال رحلات موفدها مع غورباتشوف وبعده بوريس يلتسين من توطيد اتصالاتها وعلاقاتها الوثيقة مع الكثير من صانعي القرار ممن تسنموا لاحقا الكثير من قمم السلطة في الكرملين في السنوات التالية التي شهدت أكبر قدر من الانفتاح والعلانية. ونذكر أن ذلك ساهم إلى حد كبير في تنقية الأجواء وسمح مع نهاية ثمانينات القرن الماضي بأمرين جللين نذكرهما بوصفهما البداية الحقيقية للطفرة التي عادت على عالم الصحافة الأجنبية في الاتحاد السوفياتي ثم في روسيا بالكثير من النتائج: الأمر الأول تمثل في إسقاط قرار تحديد إقامة الصحافيين الأجانب وحظر مغادرتهم لموسكو لمسافة تزيد عن أربعين كيلومترا دون تصريح كتابي أو بقول آخر «تأشيرة»، وهو القرار الذي كان الاتحاد السوفياتي يطبقه بموجب التعامل بالمثل مع كل من واشنطن وباريس ولندن وبقية العواصم الغربية.

وكان ذلك يعني بداية انطلاقة الفضوليين من الصحافيين في ربوع البلاد وما أسفر عن ذلك من انفراجة إعلامية ساهمت في تقريب وجهات النظر وإسقاط الكثير من سلبيات الستار الحديدي. أما الأمر الثاني فزف إلينا نبأه غينادي غيراسيموف مدير إدارة الصحافة والإعلام في كلمات مقتضبة تقول بحقنا نحن الصحافيين الأجانب في تأسيس منظمتنا النقابية التي سرعان ما ظهرت إلى النور تحت اسم «منظمة المراسلين الأجانب في الاتحاد السوفياتي» في ربيع عام 1990.

هذان الإنجازان كانا في مقدمة أسباب الصحوة المثيرة والانطلاقة المحمودة لعمل الصحافيين الأجانب في مختلف ربوع البلاد وما وراء حدودها التي كانت تحملنا إليها بعثات صحافية دورية طالما ساهمت وكالة أنباء نوفوستي القديمة في تنظيمها دون مقابل في أغلب الأحيان. رغم أن الكثير من نشاط وكالة نوفوستي كان ينطلق في معظمه من ثوابت عقائدية فقد تراجع وانحسر تدريجيا بعد أن اعترى الوهن ثوابته ودعائمه تحت تأثير سيل المتغيرات التي توالت حتى سقوط الدولة ورحيل الزعيم. وكان مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي في مايو (أيار) 1989 خطوة هائلة نحو تأكيد العلانية وإسقاط الثوابت والكشف عن المستور في تاريخ البلاد بما في ذلك ما تعلق بالتاريخ والجغرافيا حيث سرعان ما أماط المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي اللثام عن بعض أسرار الحرب العالمية الثانية ومنها وثيقة مولوتوف - روبنتروب أو بقول آخر ما يعرفه العالم اليوم تحت اسم تواطؤ ستالين مع هتلر والتآمر على تقسيم أوروبا وهو ما تناقلت الصحافة الأجنبية تفاصيله وأسراره في حينه.

ونذكر أن نواب جمهوريات البلطيق استونيا ولاتفيا وليتوانيا صالوا وجالوا في أروقة المؤتمر ما كان بداية للحركات الانفصالية وتأسيس الحركات الشعبية التي خرجت من معطف «تأييد البريسترويكا» ومنها «روخ» في أوكرانيا و«سايوديس» في ليتوانيا. ولا يغيب عن الذاكرة أيضا أن المؤتمر كان بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها الحركات القومية وفي رحمها تشكلت «مجموعة النواب الإقليمية» التي قادت مسيرة الانفصال وبعدها الاستقلال بزعامة بوريس يلتسين الذي طالما شرفنا بصحبته سيرا على الأقدام في شوارع موسكو بعد انتهاء عمل جلسات المؤتمر تقديرا منه للصحافة الأجنبية التي آزرته ودعمته إبان محنته ومعركته مع غورباتشوف. ولم يكن كل ذلك لينتج إلا مادة خصبة للصحافة والصحافيين ممن سعدوا بمرافقة وزمالة هؤلاء النواب الذين سرعان ما تولوا قيادة ورئاسة بلدانهم بعد إعلانها الاستقلال الحقيقي مع نهاية عام 1991.

ونأتي إلى العلامة الفارقة الثانية في حياة الصحافيين الأجانب وهي تأسيس منظمة الصحافيين الأجانب. آنذاك احتدم الجدل حول ميثاق المنظمة واختيار قياداتها وتحديد فترات رئاسة هذه القيادات للمنظمة، فضلا عن وضعيتها القانونية وعلاقاتها مع الهيئات والمؤسسات السوفياتية، وتبدي ما يشبه الإجماع حول ضرورة حماية استقلال هذه المنظمة بعيدا عن هيمنة «جهات بعينها» وأهمية اختيار صحافيين أكفاء من ذوي الأسماء المعروفة لقيادتها بوصفهم الممثلين للصفوة من الصحافيين الأجانب. وقد تسنى للهيئة المؤسسة الاتفاق بعد طول عناء على اختيار مدير مكتب «الغارديان» البريطانية جوناثان ستيل كاول رئيسا للمنظمة وهو ما كان ضمن أسانيد اختياره ممثلا عن الصحافيين الأجانب ضمن الوفد المرافق للقيادات السوفياتية التي سافرت منتجع فوروس على ضفاف البحر الأسود للإفراج عن غورباتشوف بعد انقلاب أغسطس 1991. وقد سارت الأمور على نحو محترم ومناسب كفل للمنظمة موقعا متميزا في أروقة الأوساط السياسية والصحافية وبما كان يسمح باستضافة الكثيرين من القيادات السوفياتية المرموقة للحديث إليهم في أجواء شفافة بعيدا عن أجهزة التسجيل وكاميرات التصوير. ونذكر أن ضجة هائلة سادت الأوساط الصحافية السوفياتية حين بلغها نبأ اتفاقنا مع بوريس بوغو وزير الداخلية ليكون في مقدمة ضيوف المنظمة وهو ما كتبت عنه صحيفة «الازفيستيا» في حينه تحت عنوان «إذا كنت صحافيا أجنبيا عليك الاتصال بسامي عمارة لحجز مكانك للعشاء مع بوغو مقابل خمسين روبلا» في إشارة ساخرة لتميز الصحافيين الأجانب عن غيرهم من الروس ممن لا يستجيب وزير الداخلية السوفياتية لمثل دعوتهم.

وقد شاءت الأقدار أن يكون بوغو ضمن المجموعة التي أقدمت على تدبير انقلاب أغسطس ضد غورباتشوف في أغسطس 1991 ليصدر الأمر باعتقاله ما دفعه إلى الانتحار وقرينته بطلقتين من مسدسه. ومضت الأمور على ذات المنوال ما جعل المنظمة تكتسب مصداقية ومكانة مرموقة خلال السنوات التالية التي شهدت تدوير القيادة حسب ميثاق المنظمة الذي كان ينص على أن فترة الرئاسة لا تزيد عن عام واحد لا يحق للرئيس بعدها الترشح لذات المنصب. غير أن تدهور الأوضاع وانشقاق الصف سرعان ما ساهما في سقوط المنظمة فريسة للأهواء الشخصية والعائلية وهو ما أودى بها إلى شرك وبراثن شخصيات وأجهزة وجدت مرادها في تبادل المصالح والمنافع.

ومع ذلك فقد خفف من وطأة مثل هذه السلبيات انصراف الكثيرين إلى الاستفادة من فورة النشاط والحريات الصحافية التي تمتع بها الصحافيون الأجانب في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين والذي لا نذكر أنه تعرض لصحافي بنقد أو سمح لأي من ممثلي الأجهزة المعنية بتجاوز حدوده أو الحد من حرية تداول المعلومات. وقد سارت أمور الصحافة والصحافيين في خط صاعد بعد أن سن الكرملين تقليد المؤتمرات الصحافية الدورية وفتح مساعدو الرئيس للصحافة والإعلام أبوابهم للصحافيين بأسئلتهم وتساؤلاتهم. ونذكر أننا وجدنا في الكثيرين ممن تبوأوا هذه المواقع الدعم والعون ونذكر منهم الصديق أندريه غراتشوف الذي قام بمهمة مساعد الرئيس ومستشاره الصحافي بعد انقلاب أغسطس خلفا لسلفه فيتالي أغناتينكو الذي يشغل ومنذ ذلك الحين منصب مدير وكالة أنباء «تاس». ولكم كان غراتشوف كريما معنا ويسر لنا الكثير من اللقاءات سواء مع الرئيس غورباتشوف أو آخرين من كبار رجال الكرملين ما عكسناه في حينه على صفحات «الشرق الأوسط». ونذكر أيضا بافيل فوشانوف أول متحدث رسمي باسم رئيس روسيا الاتحادية وخلفه فياتشيسلاف كوستيكوف صاحب السيرة المثيرة للجدل ونظراءهم في الخارجية الروسية ومنهم سيرجي ياسترجيمبسكي قبيل توليه منصب سفير بلاده في سلوفاكيا والذي عاد منه لتولي ذات المنصب في الكرملين ليكون على مقربة من يلتسين ومن «العائلة». ونذكر أن المتحدثين باسم الخارجية الروسية كانوا دوما حريصين على عقد مؤتمراتهم الدورية للإجابة على تساؤلات الصحافيين بعيدا عن مثل تلك الشكليات التي تحد من رغبة وحرص الصحافيين الأجانب على التعامل مع إدارة الصحافة والإعلام في الخارجية الروسية، فليس من المعقول أن تصر الخارجية الروسية اليوم على ضرورة تحرير الرسائل والمكاتبات لمجرد طلب الإذن بحضور «البريفنج» الدوري وفي حال رغبة الصحافي في توجيه سؤال أو استفسار يطلبون أن يوجزه مكتوبا في رسالة أخرى خاصة يبعث بها إلى مكتب السيد مدير إدارة الإعلام في موعد سابق لتاريخ عقد المؤتمر الصحافي. أيضا لن يستطيع الصحافي الفوز بفرصة توجيه السؤال في أي مؤتمر صحافي ما لم يكن مكتوبا ومتفقا حوله ومقدما مسبقا إلى «الموظفين» الذين يجوبون قاعة المؤتمر قبل انعقاده متسائلين عمن يريد السؤال وعن الموضوع الذي تريد أن تسأل عنه. مثل تلك «الشكليات» وغيرها من المضايقات تؤكد ضمنا انحسار العصر الذهبي للمتحدثين باسم الخارجية الروسية من أمثال جريجوري كاراسين النائب الحالي لوزير الخارجية ونظيره ألكسندر ياكوفينكو الذي شغل منصب نائب وزير الخارجية قبل انتقاله سفيرا لروسيا اليوم في لندن وغيرهما من الأسماء الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى لكنها لا تشمل المتحدثين الرسميين باسم الكرملين منذ عام 2000 وحتى تاريخه ممن لم يحرص أي منهم على عقد اللقاءات الصحافية الأسبوعية الدورية مثلما كان يفعل أسلافهم وهو ما يمكن أن نتناوله في موضوع لاحق يستعرض تاريخ مؤسسة الناطقين الرسميين في روسيا بين الماضي والحاضر.

* ناتاليا تيماكوفا في سطور

* ناتاليا تيماكوفا، ولدت في كازاخستان في أبريل (نيسان) 1975. وعلى الرغم من صغر سنها نسبيا، فقد حققت خلال سنوات معدودات ما لم يحققه غيرها على مدى عقود طويلة، حيث استطاعت أن تقفز إلى قطار «الصحافة الرسمية الكبرى» ولم تكن قد أنهت بعد دراستها في كلية الفلسفة جامعة موسكو. ثمة من يقول إن ذلك تحقق من خلال زوجها الذي تعرفت به خلال عملها في صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» في عام 1995. ومن «موسكوفسكي كومسوموليتس» انتقلت تيماكوفا إلى «كوميرسانت» ومنها إلى وكالة أنباء «إنترفاكس» قبل اختيارها للعمل بالجهاز الصحافي للحكومة الروسية في عام 1999 بعد أن عهد الرئيس الأسبق يلتسن رئاسة الحكومة إلى بوتين، وهي مسيرة تدير الرؤوس وتدفع إلى الدهشة التي سرعان ما تتراجع لتبدو أمرا طبيعيا مع انتقالها إلى الكرملين بعد تولي بوتين لمقاليد الرئاسة. وهناك سرعان ما تدرجت من نائبة رئيس إدارة الصحافة إلى رئيسة الجهاز الصحافي مع ديميتري بيسكوف النائب الأول لمساعد الرئيس والسكرتير الصحافي لبوتين. وحين اختار بوتين الدبلوماسي المحترف ديميتري بيسكوف للانتقال معه متحدثا رسميا باسم رئاسة الحكومة في عام 2008، أعلن الرئيس ميدفيديف عن تعيين تيماكوفا متحدثة رسمية باسم الكرملين ولم تكن قد تجاوزت 33 عاما بأكثر من شهرين.

* بيسكوف الناطق الرسمي باسم رئيس الحكومة الروسية

* يكاد يكون الوحيد في مؤسسة الناطقين الرسميين الذي يمكن نسبته إلى عائلة المستعربين. ولد عن أب مستعرب هو سيرغي بيسكوف أول سفير لروسيا لدى السلطة الوطنية الفلسطينية والسفير الحالي لبلاده لدى باكستان. وكان ديميتري شأن والده قد تخرج في معهد آسيا وأفريقيا في عام 1989، حيث أجاد العربية والتركية إلى جانب الإنجليزية، مما أهله للعمل بعد تخرجه في جهاز وزارة الخارجية الروسية التي سرعان ما أوفدته للعمل في السفارة الروسية لدى تركيا في عام 1990، حيث خدم هناك لمدتين متواليتين انتهت الأخيرة منهما في عام 2000. ومع أولى سنوات عمل بوتين في الكرملين، أي في عام 2000، وقع خياره أيضا على ديميتري بيسكوف الذي كان تولى مهمة الترجمة إلى جانبه خلال إحدى زياراته لتركيا.