ديفيد منثورن: الـ«ستايل بوك».. كتاب مقدس للمراسلين والمحررين

خبير أسلوب الكتابة لدى «أسوشييتد برس»: الكتاب من أعلى الكتب مبيعا

ديفيد منثورن خبير الصرف والنحو وأسلوب الكتابة لدى «أسوشييتد برس»
TT

في صورها الحديثة الرقمية تتحول الكتابة أحيانا إلى حديقة غير مقصودة، وتتطفل عليها كائنات غير مرغوب فيها، مثل رسائل «تويتر» ورسائل إلكترونية، مما يخلق حالة من الفوضى.

لذا يمكننا التفكير في ديفيد منثورن كبستاني لغوي يعكف على تخليص النص من هذه الحشائش والنباتات الضارة، على أمل استعادة بعض النظام، وربما الخروج بنص جميل في النهاية.

وتدور مهمة منثورن حول التأكد من سلامة قواعد النحو الإنجليزية، ومراقبة علامات الترقيم، وفرض أسلوب متناغم مميز لواحدة من كبرى المؤسسات الإخبارية على مستوى العالم. وباعتباره نائب محرر شؤون القواعد والمعايير داخل «أسوشييتد برس» فإنه يعد بمثابة عالم البلاغة والأسلوب الأول داخل الوكالة، وهو الشخص الذي يهرع إليه الجميع للرد على مختلف أنماط التساؤلات الصغيرة المرتبطة باستخدام الألفاظ، مثل: هل ينبغي كتابة «بريد إلكتروني» (email) بالإنجليزية باستخدام شَرطة في المنتصف بين حرف «e» وباقي الكلمة أم لا؟ هل ينبغي كتابة لفظ «هاتف ذكي» (Smartphone) بالإنجليزية مدمجة أم منفصلة؟ هل ينبغي كتابة «حزب الشاي» (تي بارتي) بأحرف كبيرة في البداية أم صغيرة؟ من وجهة نظر منثورن، الخيار الثاني هو الأصح في كل الحالات السابقة.

وجمع منثورن خلاصة خبرته في كتاب «أسوشييتد برس ستايل بوك»، الذي يعد بمثابة كتاب مقدس بالنسبة للمراسلين والمحررين، وكان من بين أعلى الكتب من حيث المبيعات على امتداد العقود الثلاثة الماضية. وتولى تحرير الكتاب منثورن بالتعاون مع اثنين من زملائه، داريل كريستيان وسالي جاكوبسون. وقد قضى الثلاثة عاما بأكمله في مناقشة العناصر التي ينبغي تضمنيها في الكتاب، وتحديثه بحيث يضم الكلمات والجمل والتراكيب الجديدة، مثل «unfollow» (وقف المتابعة) و«Internet - connected TV» (تلفزيون مرتبط بالقمر الصناعي).

على امتداد السنوات القليلة الماضية تولى منثور أيضا كتابة «اسأل المحرر» لدى «أسوشييتد برس»، وهي خدمة يتمكن من خلالها القراء من شتى أطياف المجتمع (ومختلف أنحاء المعمورة) من طلب مشورته في أمور ملحّة، مثل الاستخدام الصحيح لعلامات الترقيم وعلامة الفاصلة العليا. ومنذ توليه مسؤولية هذا العمود الصحافي خلفا لمؤسسه نورم غولدستاين، رد منثورن على أكثر من 8000 سؤال من هذه النوعية، ونجح في طرح إجابات موجزة وحاسمة على تساؤلات مثل:

* «ما جمع كلمة (meatloaf)؟ هل هو (meatloafs) أم (meatlaves)؟ هذا غير موجود في القاموس». ورد منثورن بأنه تبعا للأسلوب المميز لـ«أسوشييتد برس» فإن الجمع المناسب هو «meatloaves»، مشيرا إلى أن «هذا الاختيار يبدو منطقيا بالنظر إلى أن جمع لفظ «loaf» في القاموس هو «loaves».

* «من الشائع الحديث عن اللغة الصينية المندرينية، هل هناك من يستخدم مصطلح الصينية الكانتونية؟». وأجاب منثورن بأن الإشارة إلى الصينية المندرينية كافٍ.

* «هل الصيغة المختصرة من (michrophone) هي (mic) أم (mike)؟»، ولأجاب منثورن بأن الصيغة الموجزة غير الرسمية هي «mic». (جدير بالذكر أن «واشنطن بوست»، التي يوجد بها لجنة متخصصة في استخدام الكلمات والأسلوب، تلتزم باستخدام «mike»، بغض النظر عن الكلمة المستخدمة على صناديق الأجهزة الإلكترونية). في الواقع، يواجه منثورن أسئلة متكررة حول كيف يمكن طرح عناصر مفخخة، كتلك الواردة في الأسئلة السابقة، في خطاب أو تقرير رسمي. وقال منثورن، الذي يتميز بأدبه الجم: «أشعر بواجب تجاه الرد على أكبر قدر ممكن من هذه النوعية من الأسئلة. وعلى الرغم من أني لا أجيب عليها جميعا فإنني أبذل قصارى جهدي. إن الناس تراودهم رغبة حقيقية في المعرفة».

وأضاف: «نتلقى مئات المقترحات بإدخال تغييرات سنويا. ونقر التغييرات المقترحة عندما نرى أن المطالبات بها وصلت إلى أعداد كبيرة».

والواضح أن منثورن (69 عاما) يمارس نفوذا خفيا، وإن كان قويا، على أسلوب ظهور الكلمات بالصورتين المطبوعة والإلكترونية عبر الإنترنت. ويعمل كمصدر توجيه لمراسلي «أسوشييتد برس»، وهو أمر ليس بالهين. يذكر أن الوكالة الإخبارية التي تتخذ من نيويورك مقرا لها، عبارة عن مؤسسة تعاونية غير هادفة للربح، تمتلكها مؤسسات إعلامية أخرى، ويبلغ عدد موظفيها 3700 موظف، موزعين على 300 مكتب بمختلف أرجاء العالم. وتدعي الوكالة أنه في المتوسط يعاين مواضيعها نصف سكان المعمورة.

ونظرا لحضورها الواسع فإن كتاب «قواعد النظام» الذي وضعه منثورن يعد بمثابة قانون عالمي لكيفية استخدام اللغة الإنجليزية.

على خلاف الحال مع أي قانون آخر، يوجد لهذا القانون فئة خاصة به يعمدون لانتهاكه، فقد أدت البيانات الأوليمبية الصادرة عن «أسوشييتد برس» لظاهرة عبر موقع «تويتر» أطلق عليها «أسلوب (أسوشييتد برس) الزائف»، التي ربما تمثل السبيل الوحيدة التي تمكن من خلالها الكثيرون من التعرف على وجود ما يعرف باسم «(أسوشييتد برس) ستايل بوك» (كتاب أسلوب «أسوشييتد برس»).

وتسخر قواعد «أسوشييتد برس» الزائفة على «تويتر» من الأسس والمبادئ التي يجلها الصحافيون. وتناقلت «فيك (أسوشييتد برس)» الزائفة عبر «تويتر» تعليمات باستخدام لفظ «مزعوم» لتجنب اتهامات الانحياز، وسخرت منها بعبارات مثل «السم ذو التأثير السام المزعوم». إلا أنه ربما حتى من يستمتعون بهذا التلاعب اللفظي المازح يلجأون إلى «(أسوشييتد برس) ستايل بوك» عندما يتعين عليهم اتخاذ قرارات مهمة على صلة بالتراكيب والقواعد اللغوية.

من جهته قال توم كنت، الرئيس المباشر لمنثورن: «لا يمكنك تخيل الشعور بالطمأنينة الذي يسيطر على المسؤولين لدى علمنا أن ديف منثورن بنفسه سيتولى تحرير مذكرة أو موضوع صحافي للوكالة. إن الموقف يشبه أن تحل مسألة رياضية وتجد أينشتاين يراجعها لك».

الملاحظ أن أكثر التساؤلات التي تطرح على عمود «اسأل المحرر» شيوعا تدور حول استخدام الأحرف المائلة وعلامات الاستفهام في الكتب والأفلام أو البرامج التلفزيونية. وتأتي الأسئلة من نوعية: «هل ينبغي على المرء استخدامها في بعض العناوين دون أخرى، أم يتعين تجنب استخدامها تماما؟»، وجاءت إجابة منثورن على النحو التالي: «تضع (أسوشييتد برس) أقواسا حول العناوين، ولا تلجأ إلى استخدام الحروف المائلة مطلقا، الأمر الذي يعود لأسباب عملية، ذلك أنه ليس بمقدور جميع أنظمة الحواسب الآلية إرسال أو استقبال مثل هذه الحروف».

تأتي الأسئلة التي يتعرض لها منثورن من العامة من كل مكان وأي شخص، حيث يكتب إليه محررون بصحف، ومسؤولون تنفيذيون بمجال العلاقات العامة، وطلاب ومدرسون ومسؤولون بشركات تجارية، وآخرون عسكريون، ومسؤولو مكتبات.

وقد نجح منثورن وكريستيان وجاكوبسون في تحقيق إنجاز مؤخرا باتفاقهم على الإشارة للرسائل الإلكترونية بكلمة «email» بدلا من «mail-e». وقد اعترض المعسكر المؤيد للصورة الثانية للفظ، لكن خبراء الكتابة والأسلوب داخل «أسوشييتد برس» أعلنوا أن الشَّرطة الفاصلة ليست لها ضرورة، خصوصا أنها تبطئ من حركة الكاتب. وقال منثورن: «نقضي كثيرا من الوقت في النقاش حول نقاط كتلك». (يذكر أن «واشنطن بوست» تستخدم «mail-e»).

على النقيض، قرر الخبراء الثلاثة أن الكتابة المناسبة لعبارة «مبيت وإفطار» (Bed and Breakfast) هي «Breakfast Bed - and -»، وهو موقف أسعد بالتأكيد مؤيدي الشَّرطة الفاصلة.

ودار جدال أيضا حول جمع كلمة «octopus» (الأخطبوط). من جهته يفضل منثورن «octopuses»، لكن بالتأكيد هناك معسكر من مؤيدي «octopi».

بغض النظر عن الأحكام التي يصدرها منثورن، فإنها لا تأتي جزافا، ذلك أنه يملك خبرة 42 عاما من العمل لدى «أسوشييتد برس» كمراسل ومحرر. إضافة إلى ذلك فإن الأحكام التي يعلنها لا تعبر عن آرائه فحسب، وإنما يستشير مراجعا، مثل «قاموس أكسفورد الموجز» و«موسوعة رودجيت» وكتاب «ذي إليمنتس أو ستايل» الذي يتناول الأساليب البلاغية للتوراة والإنجيل والقرآن.

وربما يبدو كثير من الأسئلة الموجهة إلى منثورن لا قيمة لها في عالم يتحرك سريعا خارج الإطار اللغوي الرسمي، لكن الأمر لا يبدو لمنثورن كذلك. وفي هذا الصدد أكد أنه «نتناول الأمر بجدية بالغة. نحن لسنا مجموعة من العجائز القابعين في برجهم العاجي، وإنما ندرك التغييرات والأفكار الجديدة. ولدينا شعور حقيقي بأن الكلمات والتغييرات التي تطرأ على اللغة تعكس الثقافة وتمنحنا مؤشرات على المسار الذي يتخذه المجتمع».

من جهته أشار مايكل أورسكيس، المحرر الإداري البارز لدى «أسوشييتد برس»، إلى أن الدقة والوضوح و«العناصر الأخرى المميزة للأسلوب المناسب» تعد جميعا أمورا حيوية لعصر تتضاءل فيه يوما بعد آخر أهمية القواعد. أوقات التغيير هي تلك التي تكتسب فيها المعايير أهمية كبرى. كلما مرت العين سريعا عبر الكلمات، زادت أهمية أن تكون اللغة واضحة. وعالم الصحافة محظوظ بأن ديف يعمل به. إنه أصل ثمين للمهنة بأكملها.

يعود تاريخ عشق منثورن للكلمات إلى صباه، عندما كان يرتاد مدرسة ليكسايد في سياتل، حيث بث فيه اثنان من كبار أساتذته، فريدريك بليكني وجورج تايلور، عشق الكتابة والقراءة. وبطبيعة الحال دفعه ذلك إلى الحصول على درجة علمية في اللغة الإنجليزية (ويتمان كوليدج عام 1964)، ثم حصل على درجة الماجستير في الصحافة (جامعة أورغون عام 1965).

وعلى امتداد مشواره المهني نال إعجاب وتقدير الكثيرين بما هو أكبر من مجرد إتقانه الإنجليزية. وخلال فترة عمله الطويلة لدى «أسوشييتد برس»، عمل طيلة 16 عاما مراسلا في دول أجنبية، منها 12 عاما في ألمانيا، حيث التقى زوجته. وأتقن الألمانية، والآن يتبادل الرسائل عبر «تويتر» بالألمانية بانتظام.

من جهته قال أورسكيس: «لدى كل إنسان عشق تجاه أمر ما. وينصب عشق ديف على الكتابة. إنه مؤمن بحق بقوة العبارات المصاغة بدقة، والتراكيب الصحيحة. إنه يحدد القواعد التي يسعى الباقون منا إلى الارتقاء إلى مستواها».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»