حروب إعلامية ساخنة في باكستان

«جيو جانغ غروب» بـ4 محطات تلفزيونية وصحيفتين تنتقد الحكومة وتتابع الفساد الإداري

وجيه ساني وسنا ميرزا يقدمان برنامجا إخباريا على شاشة تلفزيون «جيو» (واشنطن بوست)
TT

في بلاد كثيرا ما تبدو منغمسة في الراديكالية الدينية، يقر فيلم باكستاني أفكارا تبدو، قياسا إلى المعايير المحلية، شديدة الليبرالية؛ منها الزواج بين أبناء الطوائف المختلفة، وحقوق المرأة، وتنظيم الأسرة.

إلا أن اللافت أن جهة غير محتملة للمشاركة في هذه النوعية من الأعمال تتولى توزيع الفيلم، وهي أكبر مؤسسة إعلامية في باكستان تشيع الإشارة إليها باسم «جيو جانغ غروب»، التي تتعرض لانتقادات مستمرة لاستغلالها أربع محطات تلفزيونية محلية وصحيفتين كبريين في الترويج لأفكار مختلفة تماما؛ منها التطرف الإسلامي، والعداء للولايات المتحدة، وكراهية الحكومة.

يذكر أن الحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس آصف علي زرداري، الذي يتابع «تلفزيون جيو» عن كثب فساده المزعوم، يهاجم المؤسسة رسميا ويصورها كعدو للديمقراطية. كما اتهمتها السفارة الأميركية بتأجيج نظريات المؤامرة. إلا أن «جيو» - أبرز أذرع المؤسسة - لا تزال مستمرة في مزجها البرامج الحوارية المفعمة بروح الفكاهة بأنباء عاجلة مثيرة وبعض البرامج ذات الفكر التقدمي.

وتعمل نجاحاتها، ورسائلها المختلطة، بمثابة مقياس للأذواق المتغيرة للطبقة الوسطى الباكستانية المتنامية ونفوذ المحطات التلفزيونية الخاصة في بلاد غالبا ما تبدو فيها المؤسسة العسكرية والملالي القوتين المحركتين للأجندة الوطنية.

وتتميز «جيو» بنفوذ واسع لدرجة أن الولايات المتحدة، رغم شكواها، تدعمها، حيث تتلقى «جيو» أجرا مقابل إذاعة مقتطفات من إذاعة «صوت أميركا» الحكومية الأميركية أربع ليال أسبوعيا، وهو ترتيب سعت السفارة الأميركية لإنهائه عام 2008 بسبب ما وصفته بـ«خطاب الكراهية الفج والتغطية غير الدقيقة وغير المسؤولة عمدا» التي تنتهجها المحطة، طبقا لما ورد في برقية حصل عليها موقع «ويكيليكس». إلا أن هذه المحاولة فشلت، حسب ما أفاد مسؤولون أميركيون.

في هذا الصدد، قال المتحدث الرسمي باسم السفارة الأميركية ألبرتو رودريغيز: «إننا نعتبرهم.. أكبر وأكثر المؤسسات الإعلامية نفوذا بالبلاد، فكيف لا نتعاون معهم؟».

اضطلعت «جيو» بدور رائد في الثورة التلفزيونية بباكستان، التي ظلت بها محطة تلفزيونية رسمية واحدة حتى تم تخفيف قيود القوانين المنظمة للإعلام عام 2002. اليوم، لدى ثلث سكان باكستان البالغ عددهم 180 مليونا القدرة على مشاهدة قرابة 100 قناة خاصة عبر الكابل والقمر الصناعي. وتدعي «جيو» أنها تبث 70 من بين أعلى 100 برنامج في نسبة المشاهدة، علاوة على إصدارات «جانغ» المتنوعة، التي يرابط مراسل لها على مسافة كل أربعة أميال داخل البلاد.

وفي إطار مسح أجراه «معهد بيو للأبحاث»، ومقره واشنطن، في مايو (أيار) الماضي، قال 76% من الباكستانيين إن وسائل الإعلام تؤثر بالإيجاب على البلاد، بينما أرجع 20% فقط منهم هذا الدور إلى الحكومة المدنية المدعومة من الولايات المتحدة. وأعلن حزب الشعب الباكستاني الحاكم أن هذا الوضع يعود لعدة أسباب منها حملة «جيو» لتشويهه.

عن ذلك، قالت فاراهناز إسبهاني، المتحدثة الرسمية باسم زرداري، رئيس حزب الشعب ذي التوجهات العلمانية: «إنهم يبدون اللين تجاه الإسلاميين والشدة تجاه الليبراليين». في المقابل، يرفض مسؤولو «جيو» و«جانغ» هذه التعليقات باعتبارها انتقادات من قبل أشخاص لا يتقبلون النقد.

داخل مكتبه الواقع على أطراف صالة تحرير تعج بالحركة في جنوب كراتشي، شدد الرئيس التنفيذي لـ«جيو» مير إبراهيم رحمن على أن الشبكة تدعم التسامح وأنه ليس أمامها ما تكسبه من وراء تقويض الديمقراطية. وأضاف أن السنوات الأولى من النقاش الحر داخل أي دولة دائما ما يضخم الصراعات والفساد، مشيرا إلى رسم بياني عكف على دراسته خلال درس للإحصاء بجامعة هارفارد، حيث نال درجة الماجستير العام الماضي.

وقال رحمن، الذي أسس جده «جانغ»: «في نهاية الأمر، سيهدأ الغبار وتصبح لدينا غرفة أنظف، وبلاد أنظف». وقد عمدت «جيو» إلى تلميع صورتها كمنارة للصوت الشعبوي عام 2007 عندما أغلق برويز مشرف، رئيس باكستان آنذاك، الشبكة لمدة شهرين في خضم التغطية النشطة التي قدمتها للمظاهرات التي أدت إلى الإطاحة به في النهاية.

اليوم، ترسم المحطة لنفسها صورة من يقوم بدور رائد على الساحة السياسية الباكستانية من خلال تغطية معاركها مع الحكومة. وتتهم «جيو» السلطات بوقف بثها على الهواء في عدة مناسبات؛ منها بعد تغطيتها الصيف الماضي لباكستاني ألقى حذاءه على زرداري في لندن.

من جهتهم، يتهم مسؤولون حكوميون والبرقية الدبلوماسية الأميركية سالفة الذكر الصادرة عام 2008 «جيو» بتدبير قطع البث لاستغلال ذلك في التنديد بالرقابة الحكومية. في المقابل، ينفي مسؤولو «جيو» ذلك، رغم اعترافهم بأن الصدامات مع الحكومة تصب في خدمة نشاطهم التجاري.

في هذا الصدد، قال رحمن: «في كل مرة يغلقون فيها أبوابنا، تتنامى مصداقيتنا، ونتمكن من فرض رسوم أعلى مقابل خدماتنا». وظل هذا الوضع قائما رغم الفضائح التي يستشهد بها نقاد باعتبارها دليلا على سعي «جيو» لتأجيج التشدد والتطرف. عام 2007، لعبت «جيو» دور الوسيط بين المسلحين المتحصنين داخل «المسجد الأحمر» في إسلام آباد وقوات الجيش المحاصرة لهم.

عام 2008، جرى توجيه اللوم على نطاق واسع إلى التعليقات المفعمة بالكراهية من جانب ضيوف أحد البرامج الحوارية التي بثتها «جيو» عن اغتيال زعيمين لطائفة الأحمدية.

العام الماضي، ظهر تسجيل من المزعوم أنه لحديث دار بين حامد مير، مقدم برنامج شهير على «جيو» ومسلح يتبع «طالبان» حيث كان يمده بمعلومات عن جاسوس سابق كان محتجزا حينها لدى «طالبان». وقال مير إن تسجيل المحادثة جرى التلاعب فيه من قبل مسؤولين استخباراتيين غاضبين منه بسبب كشفه عمليات اختطاف برعاية الدولة، وأضاف أن تحقيقا داخليا دعم روايته.

وقال بعض أعضاء فريق التحرير لدى «جيو جانغ غروب» على الصعيد غير المعلن إنه كان ينبغي فصل مير. أما عمران إسلام، رئيس «جيو»، فأشار إلى أن جهودا تجري للاستعانة «بمحللين سياسيين أكثر رزانة وحصافة»، بينهم نجم سثي، الصحافي اليساري البارز الذي يتولى تقديم برنامج جديد الآن.

وقال محمد مالك، مقدم برامج في «جيو» ورئيس تحرير الصحيفة اليومية الصادرة بالإنجليزية عن المجموعة؛ «ذي نيوز»: «لقد انتقلت المجموعة من نشاط الأخبار إلى نشاط البرامج الحوارية، وينبغي أن تعود لنشاطها الأول».

في بعض الأحيان، تناولت «جيو» قضايا تقدمية لم يجرؤ سوى القليل من السياسيين على تناولها. عام 2006، نظمت الشبكة حملة ضد القوانين التي تساوي بين الاغتصاب والزنا، وهي جهود يعترف حتى نقادها بأنها أدت إلى تعديل القانون. وتنظم حاليا حملة لتشجيع الناس على دفع الضرائب، وأخرى تروج للسلام مع عدو باكستان اللدودة؛ الهند، الأمر الذي قد يسهم في تحقيق توسع هائل في سوق «جيو». وطرح في الصيف فيلم عائلي حقق نجاحا هائلا ويروج لفكرة تنظيم الأسرة، التي تثير غضبا عارما في أوساط المسلمين المحافظين.

ويرى ليبراليون أن هذه الحملات، رغم إيجابيتها، تشتت الانتباه عن مراقبة واحدة من أكثر المؤسسات التي تؤجج التشدد الديني والمغالاة في الوطنية، وتحرص على تحسين صورة المؤسسة العسكرية. يذكر أن هناك اعتقادا واسع النطاق بأن الجيش متورط في الفساد ويدعم بعض الجماعات الإسلامية المسلحة، لكن «جيو»، مثل منافسيها، تتجنب إجراء تحقيقات عميقة في هذا الصدد.

في هذا الصدد، قال عاصم ساجد، مساعد بروفسور علم الاقتصاد السياسي في جامعة «قائد عزام» في إسلام آباد: «تعمل وسائل الإعلام الخاصة بوجه عام على استرضاء المؤسسة العسكرية بشتى السبل».

إلا أن هذا تبدل بعض الشيء بعد الغارة الأميركية التي قتلت أسامة بن لادن في مايو (أيار) الماضي، التي دفعت بعض أكثر مقدمي البرامج لدى «جيو» شوفينية لتوجيه انتقادات لاذعة للمؤسسة العسكرية. ويؤكد فريق المحررين لدى «جانغ» أن المجموعة لا تلقى قبولا كبيرا من جانب العسكريين، بينما اعترف آخرون بأنهم يتوخون الحذر بعد خضوع البلاد لعقود من الحكم العسكري.

على سبيل المثال، قالت رنا جواد، رئيسة مكتب «جيو» في إسلام آباد: «إذا قد يجري القبض على جميع أعضاء الحكومة المدنية. ولن تكون هناك محاكم تسمع شكواك». وخلصت البرقية الدبلوماسية الأميركية الصادرة عام 2008 إلى أن سياسة «جانغ غروب» تحركها أجندة واحدة: معدلات المشاهدة. بعد ثلاث سنوات، قال رحمن إن مثل هذه الاعتبارات تدفع «جيو» لإعادة النظر في شراكتها مع «صوت أميركا»، فمع تفاقم مشاعر كراهية الولايات المتحدة والغضب إزاء هجمات الطائرات من دون طيار التي تشنها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، ربما تتهم الشبكة بالولاء للولايات المتحدة، حسب ما أضاف. وقال عن إذاعة محتويات أميركية: «هذا أمر ينطوي على مخاطرة بالغة بالنسبة لنا».

* شارك في التقرير شيق حسين • خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»