هل أفرطت شبكات التلفزة في عرض المشاهد الدموية لمصرع القذافي؟

خبيرة في مركز ويلسون واشنطن لـ «الشرق الأوسط»: الصور جاءت لتأكيد أن من قتل هو في الحقيقة القذافي

TT

لم تتوقف التلفزة والصحف من مختلف دول العالم عن بث صور ومقاطع تسجيلية مسربة عبر هواتف نقالة كشفت عن اللحظات الأخيرة لحياة العقيد الليبي معمر القذافي ونجله قبل لفظ أنفاسهما الأخيرة بطريقة لم يُكشف عن ملابساتها حتى اليوم. وفي حين لا يمكن الجدال حول القيمة الخبرية والدور الحيوي الذي لعبته الصور في توثيق هذا الحدث التاريخي، فإن هناك تساؤلات تُطرح حول ما إذا كانت وسائل الإعلام قد تجاوزت المعايير التي تقتضيها أخلاقيات الصحافة باستمرارها في بث مشاهد «مروّعة للقذافي صريعا بين أيدي الثوار الأسبوع الماضي»، وتحديدا المعايير المختصة بما يندرج تحت مصطلح decency and tasfulness - أو الذوق العام التي تشدد عليها مواثيق النقابات والاتحادات الدولية للصحافيين فيما يتعلق بصور الجثث والمغتصبين والمستضعفين.

وبالنظر لمسألة عرض صور الدم وأشلاء الجثث في وسائل الإعلام فإنها تعتبر محط جدل. ففي بريطانيا مثلا، صور وجوه الموتى تعد «تابوهات» واختراقا للذوق العام، وعليه فإن غرامات مالية تطالب بها وسائل الأعلام إذا ما تبين أن الصور صادمة وتبريراتها غير مقنعة، هذا عدا عن أنها تستثير سخط العامة.

وربما يعد ظهور صورة مطرب البوب الراحل مايكل جاكسون ميتا على نقالة مستشفى عبر الصفحة الأولى لصحيفة «الصن» الشعبية البريطانية في يوليو (تموز) 2009 أقرب مثال على ذلك، فهذه الصورة أثارت سخط الجمهور الذين اعتبروا وجودها على الصفحة الأولى في مختلف الدكاكين التي يدخلها الأطفال والمراهقون «تجاوزا غير لائق».

وبصرف النظر عن هذه الواقعة، فمن الصعب تلخيص قانون واحد يُلزم مؤسسات الإعلام باتباعها لا سيما أن هذه المؤسسات هي وحدها من يرسم مبادئها وأخلاقياتها لتمارس من خلالها دورها الإعلامي. في حين لا يمكن تجاهل القوانين العامة التي تصوغها كل من اللجان والنقابات الصحافية للمحافظة على معايير الصناعة والتي تندرج تحت مصطلح «مدونة قواعد السلوك journalism code of conduct التي تضع الإطار العام لعمل المؤسسات الإعلامية. هذه اللجان تشدد على ضرورة الحفاظ على مشاعر المشاهد وأن أي اقتراح لتضمين صور عنف أو جنس أو لغة بذيئة في نشرة الأخبار أو التقارير الوثائقية يحتاج لقرار متأن. كما تمنع الاستعانة بورق حائط أو خلفية للاستوديو الإخباري يصور مشهدا غير لائق».

كل ذلك يضع وسائل الإعلام في مواجهة «معضلة» تتمثل بدورها في نقل الخبر والحفاظ على مشاعر مشاهديها في ذات الوقت خصوصا وسط وطأة منافسة لم تشهد لها مثيلا في ظل وجود وسائل الإعلام الاجتماعي التي يعتبر من خلالها كل خبر وصورة وتسجيل صوتي ومقطع مرئي أمرا متاحا، الأمر الذي يجعل هذا الأمر صعبا.

وبلمحة سريعة حول ما تناولته وسائل الإعلام الكبرى من مواد مرئية صاحبت إعلان خبر اعتقال وقتل القذافي يتضح أن معظم القنوات والصحف الغربية تجنبت الاستمرار ببث صور جثة القذافي بشكل مقتضب. فاكتفت قناة «ABC» الأميركية على سبيل المثال بعرض فيديو واحد يظهر فيه القذافي يخطو عدة خطوات قبل الوقوع مرتميا على أحد الجنود وفد لطخت الدماء وجهه، بجانب لقطة مأخوذة عن بداية فيديو آخر يصور ابن القذافي المعتصم فيه فاقدا للحياة. في حين رفضت «سكاي نيوز» عرض غلاف صحيفة «الديلي ميرور» البريطانية في تغطيتها لموضوع تناول الصحافة لمقتل القذافي باعتباره مزعجا وغير ملائم للنشر.

ومن واشنطن تبرر كيرل ميرفي الصحافية والخبيرة بالشؤون العامة في مركز ويلسون واشنطن لـ«الشرق الأوسط» عرض مشاهد وأشرطة الفيديو للقذافي وهو على قيد الحياة ومن ثم جسده ميتا عبر شاشات التلفزة الأميركية بأنه جاء لتأكيد الخبر - أي إنه من قتل في الحقيقة. وتقول: «أعتقد أن المشاهد ذات قيمة فكل وسيلة إعلامية مستقلة لديها ثقلها الإخباري مسؤولة أن تظهر العالم كما هو».

أما الكاتب في صحيفة «الغارديان» والبروفسور المتخصص في شؤون الصحافة والمجتمع روي غريبزليد في جامعة «سيتي لندن» فيقول بأن عرض الصور الدامية مبرر لا سيما أن الصور تقتضيها المصلحة العامة أو ما يعرف بلغة الأعلام بـpublic interest defence، وهذا الدفاع هو غالبا ما تلجأ له وسائل الإعلام لتبرير اختراقها قانونا ما كاختراق قانون الخصوصية مثلا. ولكنه في الوقت ذاته انتقد طريقة بعض الصحف في بريطانيا في نقل الخبر والتي بدا عليها لهجة انتقامية واستهزائية.

ويؤكد أن السياق التحريري للخبر كفيل بتهيئة المشاهد على توقع صور قتل أو موت تخدم الخبر، ويضيف «توجد مصلحة عامة تسمح بتمرير صور القذافي الدموية فهذا الحدث كان ينتظره العالم وأعين الجمهور. ومن الضروري اغتنام توفر أي صورة لعرضها لأنها إن لم تكن متوفرة عبر وسائل الإعلام فستكون متاحة في أماكن أخرى على الإنترنت».

ويتابع «أخلاقيات البث في القرن 21 اختلفت للغاية حالها حال الصحافة التي تغيرت وتطورت على مدى سنوات عديدة، فبعد أن كانت الصحيفة المصدر الرئيسي للأخبار نمت لأشكال مختلفة مثل التلفزيون والإذاعة، والشبكات الاجتماعية والإنترنت، وهذا ما يجعلها أكثر تنافسية وتبحث للعثور على طرق جديدة لنقل الخبر بدقة وهذا ما يجعل في بعض الأحيان حتميا تخطي الخطوط الفاصلة بين الأخلاقي واللاأخلاقي وأحيانا حتى على حساب تحقيق مصالح أخرى. حيث إن وسائل الإعلام فضلت بث صور جسد القذافي الملطخة بالدماء للمصلحة العامة التي يقتضيها الحدث وذلك على حساب عدم الإساءة إلى المشاهد الذي يمكنه اختيار المشاهدة أو عدمها». في حين ذكر أن الصحف لم تلتزم الحياد أثناء تغطية الخبر وتحديدا صحيفة «الصن» البريطانية التي نشرت صور القذافي مقتولا تحت عنوان «هذا عن لوكيربي وعن ايفون فليتشر وضحايا متفجرات الجيش الجمهوري الآيرلندي». وهو أمر يدل على لهجة انتقامية واستهزاء يفترض أن تبتعد عنه الصحافة.

بالمقابل، غرقت شاشة «الجزيرة» التي انفردت بالعرض الحصري لصور مقتل القذافي الأولية بسلسلة من تسجيلات فيديو بصور دموية تم بثها كاملة على مدار الساعة دون توقف. وفيما تستحسن مدونة قواعد السلوك الصحافي الإشارة قبل تقارير تحتوي على صور مزعجة قبل عرضها؛ وقفت مذيعة «العربية» نجوى قاسم ووراءها خلفية تحمل صورة للقذافي وتخترق رقبته رصاصة بمثابة «خلفية» عبر شاشة «العربية»، الأمر الذي ينظر إليه على أنه إفراط في البث الدموي.

ويبرر المتحدث باسم قناة «العربية» ناصر الصرامي لـ«الشرق الأوسط» تجاوز القناة لسياستها التحريرية تجاه المشاهدين التي تمنع بشكل صارم عرض الصور القاسية للجثث المشوهة والإعدامات والدماء بأنه «في قضية قتل القذافي وابنه والقيادات العليا من نظام ليبيا البائد فإن الحدث هو الصورة، وهو حدث تاريخي يجب عرضه. وبسبب الجدل حول مقتله ومن قتله؟، والكيفية؟، كان لا بد من استثناء الصور بالسماح ببثها لأنها الحدث». لافتا إلى أن تلك الصور المروعة جدا بثت لنشرات محدودة ثم أوقف بثها فقط لاستيفاء ضرورات الخبر.

في حين ترى الكاتبة في شؤون الشرق الأوسط في جريدة «ذا إيفنينغ ستاندرد» نبيلة الرمداني أن استهلاك المشاهد الدموية من دون مبررات تخدم الخبر من شأنه تحويل نشرات الأخبار إلى «نشرات دموية»، بحسب تعبيرها ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من الصراع والعنف إذ إن استمرار الشاشات ببث صور قاسية ربما يروج لطغيان العنف كوسيلة للتعبير عن الذات كما أنه يخلق شعورا باللامبالاة لدى الأفراد عبر تكرارها.

الجدل حول مسألة التغطية الإعلامية لمشاهد الدم والموت ليس بجديد، فعلى الرغم من وجود صور موثقة لقتلى الحرب العالمية الأولى والثانية فإن التساؤلات حول شرعية عرض الصور غير اللائقة بدأ منتصف السبعينات من القرن الماضي وتحديدا حرب الولايات المتحدة على فيتنام التي بدورها أبرزت الجدل حول ما إذا كانت مشهد القتلى والجرحى أمرا مقبولا للنشر. وكانت صورة «فتاة النابالم»، الصورة الفوتوغرافية التي فازت بجائزة بوليتزر عام 1972، هي أكثر الصور جدلا آنذاك لأنها صورت طفلا قاصرا وعاريا لتمثل اللقطة التي صورت فظاعة الغزو الأميركي. ولم يكن نشر الصورة على الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز» سهلا إلا أن المحررين في الصحيفة قرروا التضحية لتوضيح صورة هذا الصراع لخدمة الصالح العام.

هذا ولا يمكن إغفال أن طبيعة القناة أو البرنامج قد تلعب دورا أساسيا في تقبل الجمهور لما يبثه. فمثلا قناة «الجزيرة» كانت قد عرضت العديد من الصور القاسية خصوصا خلال أحداث تعذيب سجن أبو غريب عام 2006. ولا يقتصر ذلك على القنوات العربية فقط فسلسلة برامج «بانوراما» عبر شاشة «هيئة الإذاعة البريطانية» غالبا ما بنت علاقة ثقة مع جمهورها جعلتهم أكثر تقبلا لاستخدام الصور العنيفة لشرح القصص والتحقيقات بطريقة قد لا تكون مقبولة في برامج أخرى.

من جهته يرفض المصور المستقل أندريا زانفيتور التركيز على مسألة الرقابة على بث الصور التلفزيونية لأن «اللغة البصرية هي عين الحقيقة، وهي الطريقة الأمثل لكشف الحقائق وفضح الظلم والإهمال». مشيرا إلى أن الرقابة في هذه الحالة هي تعد على مهنة التصوير الصحافي.