الإعلام المصري في مأزق المصداقية

منابره تعددت بعد الثورة.. وطالته الشائعات

في ظل الانهيار في معايير الصحافة يجب الرجوع إلى مصادر مؤكدة حينما يتعلق الأمر بخبر مشكوك في صحته («نيويورك تايمز»)
TT

رغم تعدد منابره وقنواته، وما يشهده من منافسة محمومة في تقديم الوقائع للجمهور من زوايا ورؤى متعددة، وفي جو بدا أكثر انسيابية وحيوية، أصبح يتسم به، وبخاصة بعد الإطاحة بنظام الرئيس المصري السابق، حسني مبارك.. رغم ذلك يبدو أن الإعلام المصري في مأزق جديد، فبينما كان قطاع الإعلام أكثر القطاعات التي استفادت من ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، حيث استقبل المصريون فضائيات وصحفا جديدة، بعد شهور من التضييق الحكومي خلال عام 2010، سبقته ترسانة من القوانين المقيدة لحرية الصحافة والإعلام خلال 30 عاما من حكم مبارك، فإن حالة الانفتاح المفاجئة وضعت الصحف ووسائل الإعلام الأخرى أمام أسئلة المصداقية والمهنية، ويرى مراقبون وخبراء أن النتائج حتى الآن لا تبدو مبشرة بما فيه الكفاية.

وأثارت عدة أخبار تم تكذيبها خلال الفترة الماضية أزمات ألقت بظلالها على الساحة السياسية التي تتسم بحسب مراقبين بـ«التوتر الشديد.. والقابلية للتأثر بالإشاعات»، كان آخرها ما تسببت به التصريحات المزعومة لهيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بإرسال قوات لحماية دور العبادة في مصر، وهو الخبر الذي تناقلته مواقع إلكترونية وصحف مصرية منسوبا إلى شبكة «سي إن إن» الإخبارية وهو ما نفته السفارة الأميركية في القاهرة.

وبعد اتهامات بتحمل الإعلام المصري مسؤولية تأجيج عدد من أحداث العنف الطائفي، استطلعت «الشرق الأوسط» ما يدور في أروقة المؤسسات الصحافية وآلياتها للتحقق من صدق المعلومات، ودقة الخبر ومصداقية المصادر.. الكاتب الصحافي حلمي النمنم، رئيس تحرير مجلة «المصور»، يؤمن بالحقيقة الإعلامية الراسخة التي تقول إن الخبر لمصدره. وحول ذلك يقول النمنم لـ«الشرق الأوسط» لا بد من الرجوع إلى مصادر مؤكدة حينما يتعلق الأمر بخبر مشكوك في صحته، خصوصا في ظل ما نعيشه من انهيار في معايير الصحافة المهنية، مما تسبب في خلق بيئة ملائمة لتنامي الشائعات.. وهو ما يؤثر على الأخبار المحلية والخارجية.

ويضرب النمنم مثالا على ضعف المعايير المهنية بالأخبار التي تتعلق بتضخم ثروة شخص ما، قائلا: «انتشرت هذه الأخبار كالنار في الهشيم عقب الثورة. وهناك معايير مستقرة في العمل الصحافي، لكن للأسف لا يفكر أحد في مراجعتها، فأمام خبر كهذا عليك العودة إلى جهاز الكسب غير المشروع فورا، والاتصال بالشخص المعني، هذه بديهيات». ويضيف النمنم أن «تفقد قصة صحافية أهون من الاضطرار لتكذيب خبر»، مشيرا إلى أن المشكلة الحقيقية في الصحف، هي مشكلة الكفاءات المهنية، فهناك الكثير من الأخبار المأخوذة عن مصادر إخبارية أجنبية، تنشر من دون دقة في الترجمة في الصحف المصرية والعربية، بالإضافة إلى الترجمات الملونة التي تحاول فرض سياق مختلف للقصة الخبرية.

ويرى الدكتور محمود علم الدين، أستاذ الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة، أن حالة تخبط الإعلام المصري الحالية ناتجة عن خضوعه لقوانين «الإعلام الجديد»، واضعا التطبيقات المتعددة مثل المدونات والشبكات الاجتماعية دخول صحافة المواطن وتحول الجمهور من موقف المتلقي إلى صانع الخبر والمادة الإعلامية، في دائرة الشكوك التي تلاحق أداء الإعلام. ويقول: «مع تسارع الأحداث وانتشار المعلومات المختلقة يتم خلق ظروف ضاغطة قد يقع ضحيتها الصحافي، إذا ما قام بالنقل عن وسائل الإعلام الجديدة، فالجرائد أصبحت كما نقول (أخبار الأمس)، والوسائل الجديدة وضعت القديمة في مأزق حقيقي، ونحن في عصر جديد يحتم إلغاء كل القواعد الإعلامية النظرية التقليدية الكلاسيكية، ولا بد من قراءة جديدة لها، فقد أصبح الخبر محادثة بين ناقل ومحرر». ونوه علم الدين بأنه في عهد الثورات الاجتماعية الكبرى، هناك الكثير من التضليل الإعلامي، حيث تصدر تصريحات رسمية ثم تسحب وفقا لردود الفعل، أو تصريحات تخرج في إطار الحروب الدعائية بين الدول، بهدف دعم مصالح معينة.

وفند علم الدين حالة وسائل الإعلام ووسائلها في نقل الخبر إلى مدرستين: «(مدرسة المسافة)، التي تضحي بالخبر والسبق في سبيل الحفاظ على سمعة الصحيفة، وتأخذ فرصتها للتحقق من الخبر وصحته وتراهن على الدقة. أما الثانية فهي (مدرسة اللحظة) وهي التي تسعى وراء إشباع رغبات الملايين من القراء في الحصول على السبق وتنشر الخبر فور معرفته، ثم إذا ثبت ما يشوبه فإنها تنفيه أو تكذبه».

ويسرد علم الدين الحلول التي تجنب الصحف الوقوع في تلك الأخطاء ببساطة، قائلا: «أولا: لا بد من الوقوف على منطقية الخبر. ثانيا: مصدره ومصداقيته. ثالثا: البحث عن مصادر أخرى للتأكيد على نفس الخبر وكشف ما إذا كان خبرا مختلقا أم شائعة (عفوية أو غير عفوية)، كذلك ينبغي وضع الخبر في السياق العام للمجتمع».

ويتفق مع النمنم، الكاتب وائل قنديل، مدير تحرير جريدة «الشروق»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «أفضل تجاهل الخبر عن شهوة وغواية السبق»، فهي تؤدي لعواقب وخيمة وخطيرة لعدم استيفاء القصة عناصرها، حتى إذا اضطررت للكتابة بين قوسين «أنباء لم نتمكن من التأكد من صحتها»، فهذا يمنع شبهة الترويج للشائعات.

وأكد قنديل أن «المهنية والأخلاقيات لا ينفصلان، فلا بد أن يكون لدى الصحيفة ميزان أخلاقي أو مسطرة أخلاقية، ونحن في جريدة (الشروق) لدينا إطار أخلاقي يحكم عملية النشر». ولمح قنديل إلى وجود انفلات إعلامي وفوضى إعلامية كبيرة بعد 25 يناير، قائلا: «البعض يركن إلى أنه لا توجد جهات محاسبة، كما نعاني من طوفان من قضايا الفساد والاختلاس والإهدار للمال العام التي انفجرت بعد الثورة، ولكن يجب أن لا تنساق الصحيفة وراء بلاغات حركها محامون ضد أشخاص تتهمهم بالفساد، ولكن علينا أن ننتظر حتى تأمر النيابة بمباشرة التحقيق في قضية ما لنبدأ بالنشر عنها، مع الحفاظ على سمعة الأشخاص».

واستشهد قنديل بواقعة موظف البنك الذي أشيع أنه المسلم الذي استشهد في «أحداث ماسبيرو»، وقال: «نشرت القصة على جميع المواقع والصحف ولا أعفي (الشروق) منها، واتضح في نهاية الأمر أن هناك خلافات عائلية أدت إلى قتله، فلا يجوز أن أقول زوجته قتلته أو أقدمت على قتله دون تجريمها من قبل القضاء، حتى منطوق الحكم يقال فيه (أدانت المحكمة فلانا بالقتل)، فلا ينبغي على الصحف أن تجلس على مقعد القاضي». وفي رأي مدير تحرير «الشروق» فإن مسألة الصياغة هي الأخطر، فلا يمكن الأخذ بكلام التحريات التي تجريها المباحث على أنه اتهام.

وحول جمع الصحافيين للأخبار عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي مثل «الفيس بوك» و«تويتر» وغيرهما، ومدى مصداقيتها لدى مسؤول التحرير في الجريدة، قال قنديل: «أعتبرها مادة خام للأخبار أو مشاريع أخبار، فلا بد من تقليبها على وجوهها والوصول إلى الشخص صاحب الخبر، أو أسرته، والتأكد من أن هذا الشخص هو بالفعل من يدعي على حسابه أم أنه حساب وهمي». وشاركهم في الرأي، الكاتب الصحافي عبد الحكيم الأسواني، نائب رئيس تحرير «المصري اليوم»، الذي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن حالة الانفلات الإعلامي كانت موجودة قبل الثورة، إلا أنها في زيادة مستمرة بعدها، وذلك مرجعه إلى البيئة الحاكمة للعمل الصحافي التي تحاصرها قيود عدم تداول المعلومات ومحاصرة حق الصحافي في الحصول على المعلومة الموثقة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات المعلومات المجهلة وعدم توثيقها، وهو تحد كبير أمام الصحافيين.

ويؤكد الأسواني أنه «بعد الثورة وجدنا بلاغات يومية كثيرة بالفساد وأخذنا قرارا بعدم نشرها قبل تحويلها للقضاء والمحاكم للحد من مسألة الانفلات في اتهام البعض للبعض الآخر في ظل أجواء الثورة». ولفت الأسواني إلى أن الصحف تحاول أن تقلل نسبة الأخبار المجهلة المصدر أو الفاعل في ظل انهمار آلاف الأخبار كل لحظة من كل أنحاء العالم، التي تطل علينا عبر الوكالات والمواقع الإخبارية والإذاعات والشبكات التلفزيونية وغيرها من وسائل الإعلام الجديدة.. «هنا نعول كثيرا على دور الصحافي في إعادة التحقق من الخبر واستكمال المعلومة والاتصال بمصادر عديدة للوصول إلى الدقة».

وذكر الأسواني أن «المجلس الأعلى للصحافة في تقارير له قبل 25 يناير أشار إلى أن هناك 10259 ملاحظة مهنية ترتبط بالأخبار المجهلة، وهذا الحجم يشكل 49.9 من الملاحظات التي تم تسجيلها على أداء الصحف، وذكرت التقارير أن هناك 20840 ملاحظة مهنية، وهو رقم يعكس ضرورة تطوير التشريعات التي تحمي حق الصحافي في الحصول على المعلومة». ويضيف الأسواني: «السؤال الذي يطرح نفسه علينا يوميا في غرفة الأخبار بـ(المصري اليوم) هو كيف يمكن تحري الدقة وتوثيق المعلومات، لذا قمنا بتعليق المعايير التحريرية للخبر في كل ركن من أركان الجريدة، لنغرس في المحرر الموضوعية والدقة حتى يمكننا الانتقاء من بين الكم الهائل من الأخبار، وننشر منها الأخبار الموثقة التي تهم المتلقي، فالتدقيق يعني تثمين مجهود الغير من حيث الإشارة إلى المصدر والتوقيت».

ويقول الأسواني إنه «في (المصري اليوم) نبتعد تماما عن الشائعات والفضائح والأخبار المجهولة ونضحي بتلك الأخبار، حتى وإن فاتنا السبق حفاظا على مصداقية الجريدة، وهو ما نضعه دائما نصب أعيننا».

وحول واقعة تصريحات كلينتون في «أحداث ماسبيرو»، قال الأسواني: «انجرف وراءها الكثير من وسائل الإعلام، لكن في تلك الحالة مسألة التحقق أمر بسيط وهو يمكن بمجرد الرجوع للمواقع الإخبارية الموثوق في مصداقيتها، كذلك الرجوع لموقع وزارة الخارجية الأميركية، أو قيام مراسل الجريدة في واشنطن بالتحري عن الخبر من وزارة الخارجية الأميركية أو الاتصال بمكتب هيلاري كلينتون».

في السياق نفسه اتفقت الدكتورة سونيا دبوس، أستاذة الإعلام في الجامعة الأميركية، مديرة تحرير جريدة «الأخبار»، وشددت على ضرورة عدم الانسياق وراء الشائعات وضرورة تطبيق ميثاق الشرف الصحافي ومحاسبة المحرر عن نشره أخبارا غير مؤكدة وتثير البلبلة أو الفتنة في المجتمع. وركزت دبوس على أهمية حاسة التدقيق وقنص الأخبار الخاصة الموثوق منها، وهذه الحاسة لا بد من توافرها في الصحافي حيث من دونها لا يمكنه الاستمرار في المهنة.

أما في حال وقوع الخطأ في القصة الإخبارية، فيرى النمنم أنه «يجب التحقق من مصدر الخطأ، هل هو خطأ ترجمة، أم انحياز ومحاباة من المحرر؟ وإذا ثبت أيا من ذلك فلا بد من إحالته لمقاعد التدريب، أما إذا كان الخطأ متعمدا فلا بد من إحالته للتحقيق وفصله فورا». وأشار النمنم إلى أن بعض الأخبار الخارجية تكون مدسوسة بغرض معين لكي تستفيد منها دولة أو لوبي معين، كاللوبي الصهيوني. وحول سحب بعض المصادر لتصريحاتها، ذكر النمنم أحد المواقف التي واجهها أثناء عمله الصحافي حيث صرح له الدكتور مصطفى الفقي أثناء عمله في مؤسسة رئاسة الجمهورية حول مقتل الدكتور حامد ربيع، أستاذ العلوم السياسية، بشكوكه في تورط المخابرات العراقية في مقتله ودس السم له، بسبب كثرة انتقاده لصدام حسين، وملابسات الحادثة من سفر زوجته العراقية وقت مقتله إلى العراق.. ويقول النمنم: «الفقي طلب مني عدم نشر التصريحات عن لسانه، وكانت وقتها الشائعات تثار حول قتل (الموساد) له، لكني فضلت عدم نشر المعلومات التي لدي حتى لا أكون في موضع تكذيب من العراق أو من الجهات الأمنية، رغم يقيني من تلك المعلومات».