ميمي شاكاروفا لـ «الشرق الأوسط»: الأفلام الوثائقية لا بد أن تبتعد عن أي «أجندة» تخفي الحقيقة

المخرجة الحائزة جائزة دانيال بيرل للصحافة الاستقصائية: قضيت 7 سنوات لتوثيق بشاعة الاتجار بالنساء

مخرجة الأفلام الوثائقية الاستقصائية ميمي شاكاروفا
TT

تقول مخرجة الأفلام الوثائقية الاستقصائية ميمي شاكاروفا، عن سر نجاح صناعة الأفلام الوثائقية «دع النظرة النمطية والأفكار المسبقة حول موضوع الفيلم جانبا، لأنك ستندهش بما ستواجهه من حقائق». وهي ترى أن سم هذه الأفلام هي أن تكون وراءها «أجندة» تروج لمصالح مختلفة تؤدي لإخفاء الحقيقة.

وقد أمضت هذه الصحافية الشابة (33 سنة) أكثر من سبع سنوات في عمل فيلم وثائقي يوثق وحشية جريمة الاتجار بالنساء، استحقت عنه الحصول على جائزة «دانيال بيرل» للتميز في تنفيذ التحقيقات الاستقصائية، التي أعلن عنها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. والجدير بالذكر أن هذه الجائزة السنوية تكرم ذكرى صحافي «وول ستريت جورنال» الأميركي دانيال بيرل الذي خطف وقتل على يد تنظيم القاعدة عام 2002.

فيلم شاكاروفا وهو بعنوان «ثمن البغاء» اعتُبر استثنائيا في إعطاء نظرة عميقة لعالم لا يرغب كثيرون في رؤيته، إذ حمل الفيلم النظام الرأسمالي و«العولمة» مسؤولية استمرار مشكلة الاتجار بالبشر التي يقع ضحيتها سنويا مليونا شخص، 80 في المائة منهم من النساء والأطفال. وأظهر الفيلم الطابع الإنساني بمنتهى الشفافية من خلال اللقطات التي جاءت سريعة ومؤثرة، وأثرتها مقابلات مع نساء كن ضحايا للاتجار.

وما يجدر ذكره أن شاكاروفا حاصلة على عدة جوائز في التصوير الصحافي، وتعمل مراسلة في مركز الصحافة الاستقصائية، وهي منظمة غير ربحية تكشف الظلم وتعزيز الديمقراطية عبر وسائل الإعلام. كما تقوم بتدريس التصوير الفوتوغرافي منذ عشر سنوات في كلية الصحافة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. وفيلمها الوثائقي الآن قيد الاستخدام من قبل وزارة الخارجية الأميركية التي تستخدمه كأداة تدريبية لتوعية العاملين في جميع أنحاء العالم حول جريمة الاتجار بالبشر.

الجدير بالذكر أن شاكاروفا حصلت على جائزة أفضل فيلم تلفزيوني وثائقي ورشحت لجائزة «إيمي» للأخبار والأفلام الوثائقية. كما أنها مستفيدة من منح «موراث لانغ» التي تمنح للنساء تحت سن الثلاثين تمويلا لهن لإنجاز الأعمال الوثائقية الطويلة، هذا بجانب فوزها بجائزة «ويبي» التي تمنحها سنويا الأكاديمية الدولية للفنون والعلوم الرقمية للتميز للأفلام عبر الإنترنت.

وفي ما يلي جانب من حديث شاكاروفا مع «الشرق الأوسط» في العاصمة البريطانية لندن.

* لقد اخترت قضية الاتجار بالبشر، وتحديدا تشغيل النساء في «تجارة البغاء»، موضوعا لفيلمك الوثائقي.. ما الأسباب التي دفعتك لهذا الاختيار؟

- لقد ولدت في بلغاريا، وتحديدا في إحدى القرى التي تشهد هجرة عدد كبير من النساء الباحثات عن فرص عمل تؤمن لهن لقمة العيش، لكنهن يقعن ضحايا للاستغلال. تنفسنا الهواء ذاته وحاصرتنا الظروف ذاتها، وهو ما يجعلني أعلم تماما ما يعنيه أن يكون الإنسان لاجئا أو أن يكبر وهو لا يملك مالا. من يعلم لربما كنت سأصبح إحداهن، لهذا السبب قررت العمل خلال السنوات السبع الماضية على عمل فيلم وثائقي يصور بعمق ما يحدث لهؤلاء النساء من فتيات جيلي بسبب الفقر، والثمن الذي يدفعنه حينما تفتح الدول حدودها. في الحقيقة، وعلى الرغم من التقدم والديمقراطية والمواثيق التي تحمي حقوق الإنسان فإنها لم تحد من هذه التجارة. هناك ملايين الأشخاص يتم الاتجار بهم سنويا ويرغمون على ممارسة البغاء القسري. أنا لا أتحدث هنا عن النساء اللاتي يخترن ذلك، بل من يجري استعبادهن استغلالا لحاجتهن لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

* لكن ما هي الشريحة التي يسعى الفيلم لمخاطبتها.. النساء بشكل عام، أم الحكومات، أم منظمات حقوق الإنسان؟

- الفيلم يخاطب العالم بمؤسساته وحكوماته وأفراده. إنه لا يهدف لعرض قصص مأساوية لنساء ربما نسمع بوجودهن، بل يسعى ليكون دافعا لاتخاذ قرارات على مستوى الحكومات والمؤسسات، أو التبرع بالنسبة للأفراد. نحو 80 في المائة من البشر الذين يتم الاتجار بهم هم من النساء والأطفال، هؤلاء وبسبب الانسياق نحو الرأسمالية والعولمة يعانون من الفقر واليأس قبل أي شيء آخر يدفعهم إلى هذا العالم المظلم. لقد التقيت بـ50 امرأة خلال إعداد الفيلم، وتبين لي أن هؤلاء النساء كلهن يعانين فقرا مدقعا، ونسبة كبيرة منهن يعانين من إساءة معاملة أزواجهن أو أحد أقاربهن. هذا الرقم يحتاج لأن يلتفت إليه العالم وليس شريحة محددة فحسب. ربما يرى البعض أن صور النساء وهن يتحدثن خلال الفيلم حزينة، لكن الرؤية البصرية التي نفذناها تجعل العمل مناسبا لفصول المدارس الثانوية والجامعات لرفع مستوى الوعي بأن هذا العمل إجرامي ويقضي على عدد كبير من الفتيات والنساء.

* لكن، لماذا استغرق العمل على الفيلم هذا الوقت الطويل نسبيا؟

- يعود ذلك لطبيعة موضوع الفيلم، الذي لا أحد يريد الحديث عنه، بجانب الحاجة للحصول على إذن رسمي للتنقيب حوله على مستوى الدول التي زرتها. وإجراء التحقيقات اللازمة وتناول القضية من مختلف الجوانب تطلب سنوات.

* هناك عدد من الأفلام الوثائقية التلفزيونية تناولت موضوع الاتجار بالبشر، وتحديدا «النساء».. بماذا تميز فيلمك عن تلك الأفلام لينال جائزة «دانيال بيرل»؟

- ربما أن بعضها كان يفتقر إلى العمق، كما لا يتناول جميع أبعاد القضية، ويرجع ذلك إلى أن العمل على هذا النوع من القضايا يحيطه الخطر ويصعب الكشف الكامل عنه بالصورة والصوت. ربما يدرك كثيرون أن الفقر هو أحد الأسباب التي تدفع النساء للعمل في الخارج، لكن لماذا هؤلاء النسوة يعشن فقرا؟.. وهل طرقن أبوابا للتغلب عليه؟.. ولماذا فشلن؟.. الفيلم لا يعرض الأسباب الجذرية للاتجار بالنساء فحسب، وإنما يكشف أيضا عن بلدان المقصد التي تستغل النساء وهي في الغالب بلدان تغيب فيها المساءلة.

* ما هي الصعوبات التي واجهتك خلال إعداد الفيلم؟

- التحدي الأكبر كان كسب ثقة الشابات اللاتي قابلتهن طوال سنوات، وإقناعهن بأهمية أن يروين قصصهن للعالم عبر الكاميرا. كن يرغبن في التحدث عن مأساتهن، لكنهن لا يرغبن في الظهور والكشف عن ذلك للمشاهد. أعترف بأن كوني امرأة ساعدني على الوصول لهؤلاء النسوة اللاتي تعرفت عليهن على المستوى الشخصي وبشكل حميم. كان لديهن شوق للوثوق بأحد ما والتحدث إليه. بعدما كنت أتحدث مع إحداهن وأسألها عن أمر ما كانت تعود لتقول إن هذه القصة حدثت لصديقتها وتسأل «هل تريدين الاتصال بها؟». إلا أنني كنت أشعر أحيانا بأن هناك خطرا سيحيط بي لا سيما حين الاتصال والالتقاء بأشخاص يظهرون أنهم يرغبون في مساعدتي وإيصالي بآخرين، إذ لم أكن متأكدة من نواياهم.

* ما هو أبرز ما يميز صناعة الأفلام الوثائقية عن وسائل الإعلام الأخرى؟

- الأفلام الوثائقية التلفزيونية مرتبطة بـ«المكر»، وهنا أقصد استخدام أساليب مرئية - صوتية لجذب انتباه المشاهد. وبمجرد دخوله هذا الإطار الموسيقي والتصويري عندها نمارس دور الإعلام الحقيقي الذي هو «تثقيف المشاهد». عندما يعلم المشاهد بأمر ما من خلال برنامج أو صحيفة يعني ذلك أنه أكثر قابلية بل ومسؤولية للعب دور في التغيير أو اتخاذ موقف. دعيني اقتبس مقولة للداعية المناضل مارتن لوثر كينغ «من يقبل الشر من دون أن يحتج عليه، فيعني ذلك أنه متعاون معه». كثيرا ما نتظاهر بأن المجاعات والعنف والكوارث أمامنا لا وجود لها لأن التفكير فيها يقلق راحتنا.. هذا أمر غير مقبول.

* وماذا عن عناصر نجاحها؟

- أعتقد أنها جملة عناصر مجتمعة. البناء الدرامي مثلا، فمهم جدا أن يعرف الجمهور خلفيات القصة وجذورها، كما يلعب الفن البصري (الفوتوغرافيا) دورا كبيرا في انسجام الجمهور. وهناك أفلام وثائقية تحمل موضوعا مهما، إنما ذلك لا يكفي وحده. الفيلم الوثائقي يحتاج إلى صياغة صحافية ورواية فنية بصرية. بالمناسبة ساعدتني نشأتي في أحد بلدان شرق أوروبا على تصور الجانب المظلم للهجرة هناك. ولكن، لا يعني هذا بناء الفيلم تماما على فكرتي أو الصورة النمطية التي أحملها. لقد اضطررت خلال إعدادي للفيلم للتظاهر بأنني واحدة من هؤلاء النساء حتى أستطيع الدخول لعالمهن عن قرب، وأستطيع التوثيق وتصوير حقيقة ما تحمله هذه التجارة البشعة.

* من وجهة نظرك، ما هو أكبر فخ قد يقع فيه صانع الأفلام الوثائقية الاستقصائية؟

- أعتقد أن ما يقتل الفيلم الوثائقي هو أن يكون وراءه جدول أعمال أو «أجندة» تروج أو تسعى لخدمة مصالح معينة تدفع القائمين على الفيلم لإخفاء الحقيقة بدلا من أن يكونوا منفتحين تماما لاستكشاف الخبر. هنا تنتفي المهنية والمصداقية. باختصار، إذا كانت لديك مشاعر قوية أو أفكار مسبقة فدعيها جانبا وتفاعلي مع ما ستواجهينه من حقائق ستحصلين عليها خلال عملك على فيلم وثائقي. الأفلام الوثائقية متنوعة، إنما الاستقصائية منها تتطلب وقتا زمنيا طويلا بجانب عدد من الموارد البشرية. حقا لقد عمل معنا عدد كبير من الصحافيين والمنتجين والمستقلين.

* لقد كرست الكثير من مشاريعك لتصوير الفئات المستضعفة من مختلف بلدان العالم كلها، مثل كوبا وكشمير والهند وجنوب أفريقيا.. لماذا؟

- هناك انتهاكات تمارس على مستوى دول العالم. حتى في الدول الغربية حقوق الإنسان تتهدد أحيانا. والمسؤولية ليست بالضرورة مسؤولية حكومات، بل إن الأفراد مطالبون بالوقوف ضد الظلم وتصحيحه، وهذا ما يؤمن به الصحافيون السينمائيون الذين كرسوا جهودهم لإبراز هذه الانتهاكات.

* كيف أثرت مهارتك في التصوير الفوتوغرافي في إظهار الفيلم بصورة لافتة؟

- ما يستهويني في التصوير هو فكرة أن جزءا واحدا من الثانية قادر على كشف ما تعجز آلاف الكلمات عن وصفه. شخصيا أرفض أن تعرض علي صورة لأستهلكها لأنني أفضل أن أرى كل شيء بأم عيني، وربما هذا ما يدفعني عند البدء في مشروع وثائقي أن أقرأ كل ما ينشر حول الموضوع، وذلك للابتعاد عما أستهلك وألا يكون أساسا لقصتي. وعندما لا أجد أنني قادرة على إضافة قيمة للخبر فإنني أفضل الانسحاب. مثلا خلال إعصار «كاترينا» لم أشعر بأنني ملزمة بالذهاب والتصوير، فكثيرون من الزملاء المصورين قاموا بتغطية مدهشة حقا.

* تعتبرين من الصحافيين المحظوظين الذين حصلوا على عدد من الجوائز في مجالات الصحافة والتصوير الفوتوغرافي، حدثينا عنها، وعما أضافت لك مهنيا وشخصيا..

- أتذكر عندما حصلت على جائز «نيستور الميندروس» للشجاعة في صناعه الأفلام كنت قلقة قبل الظهور على المسرح ومخاطبة الجمهور. عندها تذكرت النساء اللاتي ظهرن معي في الفيلم. وبالفعل لم أستطع مقارنة شجاعتي بشجاعتهن. لقد حصلت على عدد من الجوائز، إنما ما يهم هو أن فيلم «ثمن البغاء» لا يزال يحظى بالاهتمام، فقد عُرض في نحو 27 دولة حتى الآن. ولهذا فقد قررت التفرغ عام 2012 للتوعية وتوزيعه عبر مختلف بلدان العالم للحصول على أكبر عدد من الناس والمنظمات التي ترغب في استخدام الفيلم كأداة للتغيير.

* أخيرا، ما المهارات الجديدة التي لا بد لصحافي اليوم تعلمها؟

- بالتأكيد الوسائط المتعددة، بدءا من كيفية جمع المعلومات وانتهاء بكيفية الإنتاج بطريقة متماسكة وصادقة، هذا طبعا بجانب الأخلاق وفهم تحديات العمل.