بريطانيا.. النشر من أجل الصالح العام

صراع بين شيوخ الصحافة الملتزمين بالتقاليد وتحالف اليسار والساسة والمشاهير

TT

بدأ الأسبوع الحالي بإحراز نجوم الفنون الاستعراضية عدة أهداف في مرمى شارع الصحافة المفتوح بلا حارس؛ في مباراة الصراع بين شيوخ الصحافة الملتزمين بالتقاليد وبين تحالف اليسار والساسة والمشاهير الساعي إلى فرض قوانين على الصحافة.

أهم التقاليد حرية الصحافة واستقلالها في فرض احترام المهنة ذاتيا بمؤسسات كمفوضية الشكاوى الصحافية Press Complaint Commission ومصلحة ترخيص الاتصالات Office of Communication، بلوائح تنظيم وضعها الصحافيون أنفسهم، لا مشرعو القوانين، وبالتنافس عبر تعدد وسائل الصحافة. وعلى الرغم من أن دوافع صحيفة أو شبكة تلفزيون لمراقبة تجاوزات الآخرين هي المنافسة على القراء والمشاهدين، فإنها تحقق هدفا طيبا وهو رفع مستوى الصحافة؛ كما حدث في كشف صحيفة «الغارديان» لتنصت محققين استأجرتهم صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» على تليفونات مشاهير. فدافع «الغارديان» بالطبع زيادة التوزيع بموضوع خاص مثير، وأيضا بتحويل تعاطف قراء صحيفة منافسة بعيدا عنها بتدمير مصداقيتها عند القراء.

المحاكمات القضائية أثبتت صلاحية القوانين العادية لحماية الأفراد من التشهير وتشويه السمعة، وحماية حقوق الأفراد والجماعات والأقليات، وفرض العقوبات على صحافيين خرقوها، بغرامات وبالسجن؛ ولذا لا حاجة لقوانين جديدة.

المطالبون بقوانين جديدة لتنظيم الصحافة تحالف لا يتصور مؤلف لروايات المؤامرات اتفاقه أبدا. فنانون ومشاهير بدأوا الهجوم في شهادتهم أمام لجنة اللورد ليفيسون للتحقيق في أداء الصحافة البريطانية، التي شرحنا مهمتها الأسبوع الماضي.

المعروف أن الفنان يختنق بلا حرية التعبير. المفاجأة أنه في الأسبوع الذي فقد فيه مصورون صحافيون مصريون بصرهم (ولم يفقدوا بصيرتهم) في سبيل حرية نقل أحداث ميدان التحرير، طالب فنانون، كالنجم الهوليوودي البريطاني الجنسية هيو غرانت بقوانين تخضع الصحافيين «لغرامات وعقوبات» إذا تجرأوا ونشروا تفاصيل ما يعتبره أمورا خاصة.

ارتكزت اتهاماتهم للصحافة على guessing by deduction أو التخمين الاستنتاجي، ولم يقدموا أدلة مادية مقنعة، مثل نشر خبر عن علاقة غرامية لأحدهم بفتاة أميركية، مدعيا أن الصحيفة ما كانت لتعلم إلا بالتنصت على مكالماته، لكنه لم ينف وجود العلاقة أو الفتاة. ولأن أي صحافي مثابر يمكنه الحصول على المعلومات بطرق متعددة، فقد نفت الصحيفة بالطبع اتهامات النجم، متسائلة: لماذا لم يلجأ للقضاء ولديه القدرة المادية على توكيل أمهر المحامين؟

صحيفة منافسة عوضت ممثلة مشهورة، واعتذرت عن نشر رسائلها الصوتية المسروقة معترفة بالمخالفة.

ضمن تحالف فرض الرقابة بعض «بروفسورات» الصحافة في معاهد تدريسها، التي لم يعرفها جيلي عندما تعلمنا الصحافة بالخبرة «كصبيان» نعدو بين ماكينات التيكرز، وصالة الأخبار، وورشة الجمع والمطبعة، وكان التلكس أهم وسائل الاتصال، فالفاكس (في حجم الفريجيدير) غير متاح للأغلبية.

التقليديون الرافضون لفرض القوانين اتهموا الأكاديميين المنظرين بالافتقار لخبرة العمل الحقيقي في شارع الصحافة، ومصلحتهم تعقيد عمل الصحافة بالقوانين التي تبرر وجود معاهد تدريس تمنح شهادة القدرة على التعامل مع القوانين المقيدة للصحافة.

عدد معتبر من الساسة انضم لتيار تقييد حرية الصحافة. والمقصود بالسياسي في بريطانيا هو الشخص المنتخب، سواء على المستوى المحلي في المجالس البلدية، أو قوميا كأعضاء البرلمان (الوزراء تلقائيا نواب برلمان منتخبون).

الساسة يرون الصحافة أهم أداة تواصل؛ لأنها لا تتيح للناخب متابعة نشاطهم وتنفيذ وعودهم الانتخابية بأدائهم في البرلمان فحسب، بل تتصيد أخطاءهم، وهو ما يخشونه، فالأخبار السلبية تجذب القارئ/ الناخب وتعلق بذهنه طويلا؛ ويعيد الخصوم نشرها في الحملة الانتخابية.

المخضرمون من الساسة يؤيدون الصحافة التقليدية في رفض قوانين جديدة. بقية الساسة يغلفون سعيهم لتقييد الصحافة بحماية خصوصية الناس البسطاء من تطفل الصحافيين. الهدف غير المعلن منع الصحافة من تكرار ما كشفته قبل عامين بما يعرف بفضيحة المصاريف الإضافية لنواب البرلمان، خاصة من تغالوا في استعادة مصاريف من الخزانة اتضح أنها لكماليات، أو مصروفات شخصية كثير منها لا علاقة له بالعمل البرلماني أو بخدمة الناخب في الدائرة. وإذا صدرت القوانين التي يطالب بها تحالف الفنانين، المشاهير، والساسة (وللغرابة) مثقفي اليسار، فلن يكون بإمكانية الصحافيين كشف مثل هذه التجاوزات؛ لأنها كانت على قرص إلكتروني سربه أحد العاملين في مكتب المصاريف النثرية لصحيفة الـ«ديلي تلغراف» مقابل مكافأة مالية.

لكل من هذه الأطراف المتناقضة سياسيا مصلحته الخاصة في تحجيم نشاط الصحافة.

ومثل النجوم والمشاهير، فإن مصلحة الساسة تطرح قضية قديمة قدم الصحافة نفسها سيظل الجدل حولها دائرا.

المشاهير، سواء كانوا نجوم استعرض أو فنانين أو نجوم مجتمع، لم ولا تكون لهم شهرة أصلا لولا الصحافة. وعند تصوير أول فيلم، أو مصاهرة شخصية مشهورة، يكتسب من كان مغمورا لا يعرفه أحد، شهرته بين القراء والمشاهدين عبر الصحافة.

النجم يرى الصحافة بكل أشكالها كطريق اتجاه واحد وليس اتجاهين، فشهرته محيطها ملايين من مستهلكي السلعة الصحافية (هي أخبار النجم، وصوره، وتحركاته) قراء ومستمعين ومشاهدين يعتبرون السلعة انتقلت لملكيتهم (عاطفيا) عند شراء الصحيفة أو مشاهدة التلفزيون. النجم في خيلاء الطاوس يعتبر الصحافة أداة كالماكياج والملابس التي تكمل شخصيته في أذهان الجماهير. يريد فقط الأخبار الطيبة، كترشيحه للأوسكار أو نجاح فيلمه الجديد، النجمة تريد صورا لا تظهر الشعر الأبيض أو زحف التجاعيد على وجهها، وتغضب إذا نشرت صحيفة خبر إجرائها عملية تجميل. النجم يتهم الصحيفة بالتدخل في حياته الخاصة إذا ما نشرت خرقه للوائح المرور أو قيامه بعمل مناقض للصورة العامة التي رسمها لنفسه.

الصحافة تجادل بأن النشر للمصلحة العامة، خاصة أن كثيرا من المراهقين من الجنسين يتخذون من النجوم قدوة مثلى. تعريف المصلحة العامة محل جدل جعل مثقفي اليسار يناقضون موقفهم من حرية التعبير، ويطالبون بقانون يحد من حرية الصحافة في الاستقصاء.

ما هي المصلحة العامة التي تبرر خرق القانون، كبيع قرص مصاريف النواب النثرية للصحيفة، أو رشوة كوافير نجمة مشهورة؟

إذا كان استراق السمع خرقا لقانون الخصوصية، أفلم يكن حصول ويكيليكس على وثائق البنتاغون، خرقا للقانون بسرقة ممتلكات وزارة الدفاع؟

«الغارديان» التي تقود حملة اليسار لتدمير مصداقية صحف مجموعة مردوخ المنافسة (مما قد يؤدي لقانون يحد من حرية الصحافة) نشرت وثائق ويكيليكس المسروقة، وبررت ذلك بأنه نشر للصالح العام. قراء «الغارديان» لا يصلون 400 ألف، بينما يشتري 12 مليونا الصحافة الشعبية التي تعتبر كشف تناقض ما يفعله المشاهير وراء الأبواب لما يدعون معجبيهم إلى ممارسته، نشرا للصالح العام.

من أكثر تعبيرا عن المزاج العام للشعب: 400 ألف مثقف أم 12 مليونا من الناس العاديين؟

التقليديون تساءلوا ما إذا كان تفسير النشر للصالح العام حكرا على مثقفي اليسار وحدهم.

والإجابة لم تحسم بعد.