الصحافة في 2011.. متهم غاب محاموه عن الجلسة

تحقيقات «ليفيسون» تصدرت المشهد الإعلامي بادعاءات في اتجاه واحد

فضيحة التنصت أطاحت بصحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» المملوكة لروبرت مردوخ («الشرق الأوسط»)
TT

أهم أحداث 2011 صحافيا كان تشكيل مفوضية القاضي ليفيسون للتحقيق في «سلوك الصحافة»، بعد مناقشات برلمانية في فضيحة تنصت الصحافة الشعبية على رسائل المشاهير الصوتية.

المرحلة الأولى من جلسات المفوضية (رفعت مؤقتا لإجازة أعياد الميلاد) أغرقها شلال من ادعاءات في اتجاه واحد يحمل في طياته تهديد إصدار البرلمان تشريعات قد تنهي دورا لعبته الصحافة منذ القرن الـ18 كسلطة رابعة، استقلالها هو الضامن الأخير للديمقراطية البرلمانية.

مفارقة الديمقراطية البرلمانية تمييعها الخط الفاصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أي «حكومة» ولها أغلبية برلمانية، مما يتطلب ضوابط وتوازنات (checks and balances) كالقضاء المستقل. لكن القضاة يحكم سلطتهم قوانين تستطيع الأغلبية البرلمانية (أي الحكومة) تغييرها لصالحها. مجلس اللوردات (الشيوخ) من حكماء الأمة غير منتخبين، مما يمنحهم استقلالا عن زعماء الحزب الحاكم. الديمقراطيون الأحرار (وهم في الائتلاف الحاكم) يشاركون اليسار جهود تحويل اللوردات إلى مجلس منتخب سيفقده الاستقلالية عن الحزب الحاكم. ولذا فالمحافظة على رفض الصحافة لصدور تشريعات تنظم عملها هو مسألة حياة أو موت لأعرق الديمقراطيات، لأن استقلالية السلطة الرابعة تجعلها محكمة الرأي العام التي تمثل أمامها الحكومة، خصوصا وأن أغلبيتها ستمكنها من الإفلات من المحاسبة البرلمانية. الساسة يبالغون في «تجاوزات» الصحافة الشعبية لتأليب الرأي العام تمهيدا لإصدار تشريعات تحول الصحافة إلى مجرد أداة لدعم استقرار الحكومة أثناء الدورة البرلمانية.

تشريعات تمنع نشر تحقيقات ككشف «الديلي تلغراف» 2009 تلاعب النواب في لوائح المصروفات الإضافية والحصول على آلاف من أموال دافعي الضرائب كمصروفات لا يستحقونها (القضاء أودع عددا من النواب السجن في مخالفة التلاعب في المال العام).

أظهرت مبالغات «الشهود» أمام لجنة ليفيسون أن مطالبتهم بإصدار قوانين رقابية منها «تنظيم الصحافة»، وراءها دوافع سياسية وآيديولوجية إلى جانب مصالح تجارية وذاتية لمن ينتمون إلى معسكر من غالبية الساسة واليسار ونجوم السينما والتلفزيون.

في المقابل معسكر الصحافيين (بدوافع مهنية خالصة)، وأنصار حرية التعبير وحقوق الإنسان، وقلة من الساسة المسنين، قلقون على سلامة الديمقراطية البرلمانية.

جاء معظم الشهادات من جانب واحد وبدت استعراضات النجوم - وأغلبهم ممثلون أجادوا أدوار الضحايا المضطهدين - في منصة الشهادة كحفلة رقص مقاتلي قبائل بدائية حول جثة الفريسة، دون أن تتاح فرصة الاستماع لقصة المطاردة والصيد من زوايا ورؤية تخالف رواية الصيادين بأن الفريسة جلبت الموت على نفسها واستحقت الرماح التي جندلتها لتشكيلها خطرا على القبيلة برمتها.

الجلسات تمت في دار القضاء العالي والمفوضية تضم محامين مشهورين، ورغم ذلك لم يستجوب أحدهم، قضائيا، النجوم والمشاهير والكتاب اليساريين الذين وصلت مبالغات اتهاماتهم أحيانا حد الخيال العلمي. ولم تشهد محكمة إنجليزية من قبل شاهدا يدلي بما شاء من أقوال دون أن يخضعه المحامون لـ«cross examining»، أي إعادة الاستجواب ومضاهاة أقواله بالأدلة المتاحة، والمنطق العام، وأقوال الشهود الآخرين، فكانت المرة الأولى التي يمطر فيها مدعٍ (صحاب الاتهام)، من منصة الشاهد، المتهم (الصحافة) في غياب محاميه عن الجلسة، بوابل من الاتهامات بلا مراجعة أو تفنيد.

مذيعة تلفزيون معروفة اتهمت الصحافة بـ«التطفل» على خصوصيتها بعد وفاة ابنها الرضيع لأن أحد رؤساء التحرير أراد استغلال تجربتها لتأسيس جمعية خيرية، تترأسها هي، لتمويل البحث في أسباب وفاة الأطفال الرضع. المذيعة طالبت في مقابلة مع الـ«بي بي سي» (مديرها السابق يضعها في معسكر اليسار) بإخضاع الصحف المكتوبة للائحة شروط البث الصادرة عن «off - com» مصلحة تراخيص الاتصال السلكي واللاسلكي، «أسوة بمحطات التلفزيون». أي منح رخص تصبح كسيف ديموقليس فوق رؤوس الصحافيين والصحف، كما تفعل ديكتاتوريات العالم الثالث كالبعث في سوريا أو الكولونيل القذافي.

التراخيص أصدرتها المصلحة في الأصل لموجات البث لشركات التليفون وشركات الخدمات اللاسلكية ثم التلفزيون بعد اختراعه. طورت اللائحة لحماية الأسر - خصوصا الأطفال - لوجود التلفزيون داخل المنزل، بعكس الصحف التي تشتريها الأسرة باختيارها.

المذيعة نفسها كانت نصبت كمينا أثناء انتخابات 1992 للزعيم السياسي دينيس هيلي وفاجأته على الهواء بتهمة تلقي زوجته، العجوز في السبعين، جراحة إصلاح كسر عظام الحوض في مستشفى خاص، وليس في مستشفى مجاني، وسخرت من اعتراضه بأن علاج زوجته العجوز (غير المشتغلة بالسياسة) مسألة خاصة. وإلى جانب ازدواجية المعايير فإن اليسار البريطاني انتقائي في دفاعه عن حرية الصحافة، ونخبوي (elitist) برفضه حق غالبية الشعب (المتهم بـ«ضحالة الثقافة») في اختيار صحافته، ويرى في مفوضية ليفيسون فرصة للقضاء على الصحافة الشعبية.

المفارقة أن انتشار الصحافة الشعبية يوفر، اقتصاديا، لشركات النشر فرص دعم الصحف الرصينة (فأرباح توزيع «الصن»، التي يكرهها اليسار، هي ما يدعم «التايمز» العريقة التي تخسر ماديا).

«الغارديان» اليسارية كشفت فضيحة تنصت «نيوز أوف ذي وورلد» المملوكة لـ«نيوز إنترناشيونال» المنافسة.

ما قلب الرأي العام ضد الصحيفة (يمتلكها روبرت مردوخ الذي يتمني اليسار شنقه مهنيا على أقرب شجرة) اتهامات «الغارديان» الأخلاقية، كالحصول على الملفات الطبية لابن رئيس الوزراء السابق غوردن براون، وادعاء مسح مخبري الصحيفة للرسائل الصوتية لتلميذة في الرابعة عشرة اختفت (حوكم مخبول شرير بقتلها في ما بعد)، مما أعطى الانطباع بأنها على قيد الحياة بدليل مسحها لرسائلها أثناء البحث عنها.

اضطرت «الغارديان» إلى الاعتذار (في زاوية صغيرة في صفحة داخلية) عن عدم صحة الخبر الأول بعد شهادة رجل عثر على الملفات الطبية وباعها للصحيفة، التي سلمتها لأسرة مستر براون، بينما أفادت شركة التليفون الجوال أن الخدمة مبرمجة لمسح الرسائل أوتوماتيكيا بعد 72 من تسجيلها إذا لم يفرغها المشترك بنفسه.

وبدلا من الاستفسار من شركة خدمة التليفون الجوال ألصق محرر «الغارديان» تهمة مسح الرسائل الصوتية بصحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» (مما أغضب الرأي العام وأدى إلى إغلاقها وفقدان 300 من أكثر الصحافيين خبرة أرزاقهم). وعندما اتهم بـ«الفبركة» في مقابلة في الـ«بي بي سي»، طالب أن يغفر له «استنتاجه» التهمة من أجل الصالح العالم.

الصحافيون يبررون نشر ما يعتبره المشاهير والساسة «خصوصيات» (كمذيعة التلفزيون مع جراحة زوجة هيلي) من أجل الصالح العام. شكوى النجوم والساسة أمام مفوضية ليفيسون كانت من نشر «الخصوصيات» وليس من «الفبركة»، فلم يتهم أحدهم الخصوم (الصحافيين) بنشر أخبار من النوع الذي نشرته «الغارديان» ثم اضطرت إلى الاعتذار عنه.