«كوردستاني نوي».. مسيرة شاقة بدأت على ظهر البغال

رئيس تحرير الصحيفة: معظم الصحافيين تخرجوا من مدرستها

ستران عبد الله رئيس تحرير صحيفة «كوردستاني نوي»
TT

الكوادر الإعلامية التي تدربت بجبال كردستان خلال سنوات النضال الثوري ضد النظام العراقي من بعد منتصف السبعينات وصولا إلى بداية التسعينات، والتي تحررت فيها كردستان من قبضة ذلك النظام عام 1991، كانت تحمل إرثا كبيرا في تحمل المشقات وخوض الصعاب لتأدية دورهم الإعلامي في إيصال المعلومة إلى المتلقي.

وكانت الوسائل البدائية التي اعتمدوا عليها لإيصال أخبار الثورة إلى الشعب داخل المدن الكردستانية من الإذاعة وإصدار النشرات السرية، وكيفية الحصول على موادها الأولية عن طريق التهريب من بلدان الجوار، وغالبا ما كانوا يستخدمون البغال لينقلوها عبر الجبال الوعرة بعيدا عن رقابة الثكنات العسكرية الإيرانية والعراقية والتركية، كل تلك المشقات مرنتهم على تحمل جميع أنواع الصعاب وهم يخوضون مغامرة إصدار أول جريدة يومية في إقليمهم المتحرر بعد نجاح الانتفاضة.

لقد كانت كردستان تخضع في تلك الفترة إلى حصار دولي فرضته الأمم المتحدة على العراق نتيجة غزو نظامه للكويت، وحصار داخلي فرضه النظام على كردستان بعد سحب إداراته وقواته العسكرية منها، وأصبحت الأوضاع في كردستان شبيهة بفترة النضال الثوري، حيث سدت جميع المنافذ بوجه توريد أي مواد استهلاكية في مقدمتها مواد الطباعة.

ولأن القائمين على إصدار الصحيفة كانوا يمتلكون خبرات طويلة في التخفي والنفاذ من بين الثكنات وأجهزة الرقابة العسكرية، فقد خاطروا بتوريد مواد الطباعة من إيران بحملها على ظهور البغال وسلوك طريق المهربين ليلا متخفين لإيصال تلك المواد إلى المطابع بالمدن المحررة. بهذه الصعوبات الكبيرة ولدت تجربة أول صحيفة كردية يومية في إقليم كردستان العراق في 12-1-1992.

شقت صحيفة «كوردستاني نوى» طريقها في ظل ظروف بالغة التعقيد، فكما يشير صاحب فكرتها كوسرت رسول علي نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يمول الصحيفة «الفكرة راودتني مع محمد توفيق رحيم الذي كان أحد أعضاء قيادة الاتحاد الوطني في تلك الفترة (ينضم حاليا إلى حركة التغيير المعارضة)، وحملنا الفكرة إلى الأمين العام جلال طالباني الذي وافق على الفور، وأوعز بالشروع في الترتيبات لإصدار الصحيفة».

وأضاف «كانت أياما صعبة، لأن كردستان كانت في تلك الفترة تحت تهديد مباشر من النظام البعثي، وكانت أي كلمة حرة تصدر في الصحافة ترعبه، أضف إليها قلة الإمكانات حيث لم تكن لدينا موارد مالية، وكذلك قلة عدد الكوادر الصحافية المتمرسة، ولكن مع ذلك أصررنا على المجازفة وتمكنا من إصدار أول جريدة يومية في تاريخ الصحافة الكردية بإقليم كردستان».

وقارن القيادي الملا بختيار مسؤول الهيئة العاملة للاتحاد الوطني الذي يتولى إصدار الصحيفة بين تاريخ نشوء الصحافة الكردية والصحافة العربية على العموم. وقال «إذا نظرنا إلى تاريخ نشوء الصحافة العربية، سنجد أن الصحافة الكردية لم تتخلف عنها سوى ببضعة عقود قد لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة، فأول صحيفة كردية صدرت منذ أواخر القرن التاسع عشر بعد فترة قصيرة من ظهور الصحافة العربية، ولكن الظروف السياسية حالت دون توثيق التاريخ الصحيح للشعب الكردي، ورغم كل التحديات والإنكار القومي استطاعت الصحافة الكردية أن تشق طريقها طوال سنوات القرن الماضي، وصدور (كوردستاني نوي) كان تتويجا لتاريخ الصحافة الكردية المليء بالإنجازات الكبيرة».

وتصدر الصحيفة حاليا عدة ملاحق، منها ملحق أدبي، وملحق رياضي يومي يعد بمثابة أول جريدة رياضية يومية، وملحق للدراسات الإنسانية، والملحق العلمي، وإدارة موقع إلكتروني. وتطبع الصحيفة 5250 نسخة يومية توزع في كردستان وكركوك وبغداد.

ويتحدث ستران عبدالله رئيس تحرير الصحيفة الذي كان من أوائل كتابها في بدايات تأسيسها لـ«الشرق الأوسط» قائلا «إن الجريدة ولدت في ظل ظروف عصيبة وبالغة الحساسية، حيث كان النظام الديكتاتوري السابق ما زال قائما في بغداد ويشكل تهديدا خطيرا لكردستان، وكان البلد عموما يعاني من آثار حصار اقتصادي دولي خانق، وكردستان ترزح تحت حصار إضافي فرضه ذلك النظام، وبذلك واجهت الجهود التي بذلتها كوادر الاتحاد الوطني في البداية صعوبات وعراقيل كثيرة، ولكن لأن إرادة التحدي كانت في أروع أشكالها لدى هؤلاء الكوادر وكان معظمهم ممن خاضوا ظروفا أصعب في نضالهم بمقارعة الديكتاتورية في جبال كردستان، تمكنوا من مواجهة جميع تلك الصعاب، واستطاعوا إصدار هذه الصحيفة التي شكلت نقلة نوعية في تاريخ الصحافة الكردية، حيث انتقلت صحافة الجبل من اللغة والخطاب التعبوي، إلى مرحلة جديدة وهي التعبير عن هموم الجماهير وحاجاتها، ونقل الخطاب الإعلامي الكردي من الجبل إلى الحضر والانتشار وسط شرائح أوسع من المجتمع الكردستاني».

ويشير عبد الله «كان صدور الصحيفة بمثابة تحد إعلامي كبير للنظام البعثي، فهذه الصحيفة استطاعت أن تستقطب وتحتضن العشرات من الكوادر الصحافية التي كانت تعمل بصحف النظام السابق وتكرس جهودها لخدمة الإعلام الفاشي، ونجحت بذلك بقطع علاقتهم بذلك النظام الديكتاتوري وإعادة تأهيلهم لخدمة قضية شعبهم، وعليه يمكن القول بأن صدور (كوردستاني نوى) أعاد تنظيم الإنتاج الثقافي بكردستان، وأعاد إليها أجواء الحرية التي كانت سائدة قبل انقلاب حزب البعث على السلطة في العراق، وولادة هذه الجريدة تزامنت مع سقوط المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، ولذلك اهتمت الصحيفة بنشر المفاهيم الجديدة للديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، ووجهت خطابها الإعلامي نحو المزيد من الانفتاح الثقافي والديمقراطي رغم أنها كانت بالأساس صحيفة حزبية تأسست على أيدي كوادر الجبل الذين خاضوا نضالا مسلحا ضد النظام».

وحول المحطات الرئيسية لهذه الصحيفة يقول رئيس تحريرها ستران عبد الله «بالنسبة للصحافة الكردية وللشعب الكردي عموما، كان صدور (كوردستاني نوى) يشكل نقلة نوعية حتى في الخطاب السياسي الكردي، فمنذ بداياتها روجت الصحيفة لمسألة الفيدرالية بديلا عن مطلب الحكم الذاتي الذي نادى به معظم أحزاب الثورة الكردية، وقد تم تبني هذا المبدأ وأصبح فيما بعد برنامجا انتخابيا للاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يرعى الصحيفة، وفي أول دورة للبرلمان الكردستاني تم إعلان الفيدرالية كمطلب أساسي للشعب الكردي، بالإضافة إلى ذلك ساهمت الصحيفة في إشاعة مفاهيم التعددية والديمقراطية، وينبغي القول بأن (كوردستانى نوى) أصبحت اليوم تحمل ذاكرة التاريخ الكردي طوال السنوات العشرين الماضية من عمرها بما قدمته للمكتبة الكردية من نتاجات إبداعية».

ويضيف «رغم هذه المسيرة الممتدة عبر عشرين عاما من عمر الصحيفة والتي حققت خلالها نجاحا في تقديم إنتاج ثقافي وفكري للمجتمع، ولكنها لم تخل أيضا من إخفاقات رافقت تلك المسيرة، في مقدمتها تحولها أثناء ظروف الحرب الداخلية إلى التخندق المضاد، وكادت أن تكون جزءا من الإعلام الحزبي الموجه، ولكن الحمد لله لم تصل إلى هذا الحد حيث انتهى القتال الداخلي بكردستان، وعادت الصحيفة إلى موقعها الأصلي والأساسي كصحيفة ذات توجه مستقل على الرغم من أنها كانت تصدر بتمويل من مكتب الإعلام المركزي للاتحاد الوطني».

وحول ما إذا استطاعت الصحيفة أن تنافس الصحف الأهلية والمستقلة التي صدرت منذ أواخر التسعينات ولقيت ترحيبا حارا من القراء في كردستان، قال رئيس تحرير الصحيفة «مما لا شك فيه أن ظهور الصحف المستقلة والأهلية كان يشكل بدوره تحديا كبيرا لكوردستاني نوى، فتلك الصحف استطاعت أن تسحب جزءا من القراء من السوق وتكسبهم لصالحها، ولكن مع ذلك دخلت صحيفتنا مجال المنافسة مع تلك الصحف من خلال التركيز على هموم الجماهير والاقتراب أكثر من وسط شرائح المجتمع، كان صوت كوردستاني نوى أكثر سماعا من بقية الصحف باعتبارها أقرب إلى السلطة، وبذلك أصبحت الصحيفة قناة تواصل مباشرة بين الجماهير والسلطة، وحاولت خلال تلك الفترة أن تحافظ على استقلاليتها، طبعا الصحيفة تصدر وتمول من قبل الاتحاد الوطني، ولكن مع ذلك فإن الصحيفة بكوادرها والعاملين فيها استطاعت أن تحافظ على التوازن بين ما هو مطلوب منها تأديته كصحيفة محسوبة على السلطة، وواجباتها الأساسية في توصيل مطالب الشعب إلى السلطة، وأن تكون وسيطا أو حلقة الاتصال المباشرة بين الجماهير والسلطة، وهذا ما ساعد الصحيفة للتفوق على بقية الصحف».

وللاعتماد على الكوادر المحلية استطاعت الصحيفة أن تنظم العديد من الدورات التدريبية لإعداد الكادر الصحافي، يقول ستران عبدالله «إن كوردستاني نوى تحولت إلى مصنع لإنتاج الكوادر الصحافية، فقد نظمت العشرات من الدورات التدريبية وخرجت المئات من الكوادر التي يعمل قسم كبير منهم حاليا في الصحف المستقلة والأهلية، بمعنى أن الصحيفة ساهمت بدور كبير في رفد الصحف المحلية بالكوادر في شتى الاختصاصات وهذه نقطة تحسب لصالحها».

وتمكنت الصحيفة منذ تأسيسها من استقطاب الأقلام الكردية من مختلف التوجهات السياسية والفكرية، وكان الباحث فريد أسسرد الذي يترأس حاليا مركز كردستان للدراسات الاستراتيجية أحد الكتاب الأوائل الذي ساهم بالكتابة في الجريدة، ويقول «لقد كانت (كوردستاني نوى) فعلا جريدة شاملة نجحت في استقطاب العديد من الأقلام الكردية، وفتحت صفحاتها أمام طرح الرؤى المختلفة، وكانت انطلاقتها وفي ذلك الزمن قوية، مع قلة الإمكانات وعدد الكوادر المدربة على الصحافة، وكانت إدارتها في البداية تعتمد على عدد من كوادر إعلام الجبل، مع عدد محدود جدا من الكوادر الصحافية المحلية، ورغم أن الصحيفة استطاعت خلال السنوات العشرين الماضية تحقيق تقدم كبير ولافت من الناحية التقنية والطباعية، ولكن مشكلتها برأيي هي خضوعها لهيمنة الخطاب الحزبي، وهذا رغم أنه حالة طبيعية لأنها جريدة يصدرها حزب الاتحاد الوطني، لكن بما أن الشارع الكردي يزدحم حاليا بالمئات من العناوين الصحافية، ومعظمها أهلية ومستقلة، يفترض بهذه الصحيفة الرائدة أن تحاول الخروج من هذا النطاق الضيق إلى مساحة أرحب، فهي تحتاج إلى هامش كبير للحرية والليبرالية».