«فبركة وغش» في برامج التلفزيون الفرنسي

جموع الغاضبين وقعوا لائحة تطالب بمعاقبة القنوات وسحب تراخيص بثها

غرفة التحكم في برامج تلفزيون (تي إف 1)
TT

نسب مشاهدة عالية سجلتها القناة الأولى الخاصة «تي إف 1» بعد إذاعتها حصة «أبال دورجونس» أو «اتصال طارئ». البرنامج الشهري، الذي تقدمه المذيعة المتألقة كارول روسو، خُصص لموضوع العنف عند الشباب؛ حيث رافقت فرقة البرنامج عناصر من مباحث الشرطة وأخرى من شرطة التدخل السريع ليلة كاملة في شوارع باريس وضواحيها لتصوير مظاهر العنف وأحداث الشغب والسرقة والاعتداءات وتسجيل شهادات الضحايا ورجال الشرطة.

المشاهدة المثيرة حققت نجاحا كبيرا للبرنامج قدر بنحو مليوني مشاهد و25% من نسبة مشاهدة لقناة «تي إف 1» التي سبقت يومها كل القنوات الأخرى.

المشكلة أن هذا التحقيق المثير هو في الواقع نتيجة عملية احتيال وفبركة، وهي الأكذوبة التي كشفت عنها مجموعة من الصحافيين الشباب الذين يعملون في قناة «كنال+»؛ حيث عثروا على المشاهد نفسها التي أذيعت في برنامج «أبال دورجونس» على أنها تصوير حي في برنامج قديم لقناة أميركية.

المشاهد التي كانت تنقل حوادث اعتداء صُورت في الواقع في بنايات بمدينة واشنطن وضواحي بروكلين ولم تصور في باريس ولا حتى في فرنسا كما يدعيه المعلق.

القضية أقامت الدنيا ولم تقعدها، وجعلت القناة الأولى «تي إف 1» محط انتقادات لاذعة وشديدة، لكن «أبال دورجونس» لم يكن أول برنامج مفبرك، بل سبقته وتلته عدة برامج أخرى من القناة نفسها التي باتت تعد في سجلها عدة حوادث مماثلة، مثل تحقيق صحافي في نشرة الواحدة بعد الظهر حول ظاهرة خاصة بسوق العقار تبين أنه مفبرك كليا.

فالمشهد الذي يفترض أن يجمع بين مدير وكالة عقارية وزبون يبحث عن سكن جديد لم يكن في الواقع سوى تمثيلية بين المدير ومساعده اللذين قاما بأداء أدوار بطلب من فرقة التصوير.

صحيفة «لوكانار أونشيني» التي فضحت اللعبة قامت بنشر البطاقة المهنية للموظف، التي يظهر فيها اسمه الحقيقي وطبيعة عمله.

القناة، من جهتها، دافعت عن نفسها بإلقاء اللوم على الشركة المنتجة للتحقيق على الرغم من أن مدير هذه الشركة المسماة «تي في براس» هو نفسه مدير سابق في قناة «تي إف 1».

لكن الملاحظ أن ظاهرة «الفبركة» تخص كثيرا من البرامج الإخبارية السياسية، وهو ما جعل بعض الآراء توحي بأن هذه الفبركة قد تكون بإيعاز من أطراف سياسية، تتدخل في عمل الصحافيين لتلميع صورتها وخدمة مصالحها الخاصة.

يقول جان ماري شارون، الباحث في الإعلام وصاحب كتاب «فوضى الإعلام» (دار نشر ستوك): «رجال السياسة استوعبوا جيدا تأثير الإعلام، وهم لهذا السبب لن يترددوا أمام خيارين، فإما أن يستميلوا هذه الوسائل لهم، وإما أن يحتالوا عليها ويوقعوها في فخ التعتيم».

هذه النزعة تأكدت بعد بث عدة تحقيقات صحافية تبين لاحقا أن جميعها تعرض للتزوير. فقد بثت قناة «تي إف 1» تحقيقا صحافيا في نشرة أخبارها المسائية حول زيارة وزير التربية لوك شاتيل مركزا تجاريا معروفا للتحقق من تطبيق إجراءات خفض أسعار الأدوات المدرسية التي قررتها الحكومة، ليتبين بعدها أن ربات البيوت اللاتي صرحن بآرائهن المرحبة بهذا الإجراء الحكومي لكاميرات الصحافيين هن في الواقع عضوات منخرطات من الحزب الحاكم تم استقدامهن خصيصا للتحقيق الصحافي.

الحادثة نفسها تكررت بعد أشهر قليلة عند زيارة وزيرة العمل والتكوين المهني نادين مورانو إحدى المدن الفرنسية؛ حيث التقطت لها كاميرات القناة الأولى مشاهد وهي تتحدث مع شخص يفترض أنه مواطن عادي حول برنامج الحكومة، غير أن الشخص كان في الواقع مسؤولا في الحزب ومن معارف الوزيرة.

وقبل أشهر قليلة تحقيق آخر للقناة نفسها حول سيدة ادعت أنها استفادت من إجراء وضعته الحكومة للحد من غياب التلاميذ عن المدارس، تبين بعد ذلك أن السيدة التي أدلت بشهاداتها للصحافيين هي في الواقع موظفة عند مسؤول في الحزب الحاكم وليس لديها أي أطفال.

المجلس الأعلى للإعلام، الهيئة المكلفة بمراقبة نشاط وسائل الإعلام، اكتفى بتوجيه إنذار للقناة الفرنسية عن هذه التجاوزات كلها، بينما ذهب فريق من الأشخاص إلى أبعد من ذلك؛ حيث قرروا مهاجمة القناة قضائيا بتهمة التعتيم الإعلامي وتزوير الحقائق المعروضة للمتفرجين، وهي القضية التي لا تزال قيد النظر من قبل محكمة مدينة «نانت».

وهناك فريق آخر من الغاضبين على القناة فتح صفحتين على «فيس بوك» بعنوان «تي إف 1 تمارس التعتيم الإعلامي» و«الساخطون على المشهد الإعلامي الفرنسي»، وقد جمعوا لائحة وقع عليها أكثر من ألفي شخص للمطالبة بمعاقبة القناة بسحب ترخيص بثها.

لكن نسبة الغش وتزوير الحقائق في البرامج الإخبارية قد تبدو ضعيفة جدا إذا قورنت بما تسجله برامج تلفزيون الواقع من «فبركة». فيليب برترو، صحافي مصور عمل في قناتي «تي إف 1» و«إم 6» من عام 2000 إلى عام 2007، مشاركا في تصميم وتصوير أشهر البرامج كـ«بيكان إكسبريس» و«ستار أكاديمي» و«الخطيب الرائع» و«جزيرة الإغراء»، قرر، في كتابه الأخير «إغراء.. جزيرة» (على اسم آخر البرامج التي شارك فيها)، الكشف عن الأساليب الملتوية لبعض برامج الواقع التي تبقى بعيدة عن التلقائية والصدفة التي تدعيها؛ حيث إن معظم مشاهدها مدروسة بل ومدبرة بإحكام.

يبدأ فيليب برترو في شهادته من أولى المراحل، أي اختيار المشاركين في البرامج، فيقول عن تجربته في برنامج «جزيرة الإغراء»: «إن كنتم تظنون أن مجرد الترشح عبر البريد قد يمكنكم من المشاركة في برنامج كـ(جزيرة الإغراء) فأنتم فعلا سُذج؛ فشركة الإنتاج كانت تفضل رمي رسائل المرشحين، وبدلا من ذلك ترسل فرقها لأماكن معينة كالملاهي الليلية والمراقص وحتى الشواطئ لاختيار أشخاص يمتازون بمواصفات معينة: الجاذبية، الإغراء، الجرأة، والتحرر من المحظورات؛ لأنها كانت مقتنعة بأن هذا ما سيجعل البرنامج ناجحا».

وعن كواليس برنامج شهير يدعى «بيكان إكسبريس» يتابع فيليب برترو: «إن بعض مشاهده تعرضت للتزوير بإيعاز من إدارة الإنتاج التي كانت تؤجر أشخاصا لمساعدة بعض المتسابقين على الوصول لأهدافهم».

الصحافي السابق كتب مطولا أيضا عن حرص المنتجين على إمداد المشاركين بكميات كبيرة من المشروبات الكحولية في هذه البرامج، خاصة «غريك المليونير»، «جزيرة الإغراء» لضمان الحصول على لقطات ساخنة وكثير من الحميمية بين المشاركين من الجنسين.