لجنة تحقيق ليفسون تغير مشهد الصحافة البريطانية

مهلة الشهر تسببت في شهرة اللجنة لدى الكثير من الضحايا

رجل الأعمال روبرت مردوخ ونجله جيمس لدى حضورهما جلسات المحاكمة (أ.ب)
TT

في عام 2010 كتبت لانس برايس، الصحافية المعنية بالشؤون السياسية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومستشارة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، تقول إن بريطانيا «تفخر بامتلاكها أقدم ديمقراطية على وجه الأرض»، تحظى أعرافها السياسية بالإعجاب والانتشار حول العالم. إلا أن هذه الأعراف تواجه اليوم أزمة. فلم تكن برايس تدرك حينها أن أزمة كبيرة تختمر داخل المؤسسة الإعلامية والسياسية البريطانية التي ستنفجر في صورة ادعاءات محمومة بالتنصت على الهواتف التي ستسقط أكثر الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية مبيعا في العالم في يوليو (تموز) من عام 2011 وستؤدي إلى إجراء تحقيق يسعى إلى دراسة أسس عمل وسائل الإعلام في بريطانيا.

كانت تلك الصحيفة هي «نيوز أوف ذي وورلد»، صحيفة «التابلويد» التي تصدر يوم الأحد والتي تحمل تاريخا يمتد على مدار 168 عاما، والتي اشتهرت بتقديم الكثير من «الانفرادات» الصحافية حيث تفوقت على منافسيها بتقديم خبر أو حدث يشعل الرأي العام أو رغبة أحد المشاهير.

وقد اشتهرت باستخدامها، الصحافي المتخفي مظهر محمود، الذي تخفي في هيئة رجل دين مسلم للقيام بعمليات خادعة باستخدام كاميرات خفية. وزعمت الصحيفة أن ما قام به محمود أدى إلى القبض على 250 مجرما. وكان أهم سبق صحافي لمظهر محمود في أغسطس (آب) 2010، عندما كشف عن اعتراف مراهن باكستاني يدعى مظهر مجيد أن لاعبي الكريكت الباكستانيين تلاعبوا في نتائج المباريات خلال جول الفريق الباكستاني في إنجلترا عام 2010.

وكانت الصحيفة المملوكة لشركة «نيوز إنترناشيونال»، التابعة لشركة «نيوز كوربوريشن» - ثاني أكبر مجموعة إعلامية في العالم - التي يترأسها إمبراطور الإعلام الأسترالي المولد روبرت مردوخ. وقد كانت قوة ونفوذ مردوخ موضع تكهنات دائمة. وقبل أن يصبح رئيسا للوزراء اعترف بلير في عام 1994 أنه في الانتخابات المقبلة سيكون الشيء الوحيد الهام هو الإعلام. وفي عام 1995 مهد بلير الطريق أمام دعم مردوخ له في الفوز في انتخابات عام 1997، عندما سافر، خلال عمله زعيما للمعارضة، إلى جزيرة أسترالية صغيرة للحديث في واحد من مؤتمراته.

تحولت صحف مردوخ في أعين السياسيين البريطانيين إلى مقصد لا غنى عنه لاكتساب القوة. وقد انعكس نفوذهم على مدى قوة اتصالاتهم الشخصية بإدارة «نيوز أوف ذي وورلد». وكانت ريبيكا بروكس، الرئيس التنفيذي للصحيفة، تزور المنزل الريفي لرئيس الوزراء بشكل منتظم، عندما تولى ديفيد كاميرون رئاسة الوزراء في عام 2010، حيث كان يحضر معه آندي كولسون، رئيس تحرير «نيوز أوف ذي وورلد» السابق في الفترة من عام 2003 – 2007، بوصفه مدير اتصالاته والمسؤول عن إدارة الرسائل السياسية من قلب الحكومة البريطانية.

إزاء هذه الخلفية من القوة والنفوذ برزت فضيحة التنصت على الهواتف، التي بدأت في عام 2007 عندما ألقي القبض على مراسل «نيوز أوف ذي وورلد» للشؤون الملكية، كليف غودمان، على خلفية الاتهامات بالتنصت على هواتف القصر الملكي. لم يقم غودمان بهذا التصرف بنفسه، لكنه استأجر لهذه المهمة محققا خاصا يدعى غلين ملوكير، حيث نجح في التنصت على الرسائل الصوتية. وحكم على غودمان وملوكير بالسجن، بينما زعمت «نيوز إنترناشيونال» أن كلا الرجلين «فاسد»، وأنهما تصرفا من تلقاء نفسيهما دون إشراف أو إدارة.

كان المفترض تنتهي القصة عند هذا الحد لولا صحيفة «الغارديان»، التي توزع يوميا ما يزيد على 300.000 نسخة بقليل، ومحققها الاستقصائي نيك ديفيز، الذي كشف في يوليو 2009 أن «نيوز غروب» (جزء من «نيوز إنترناشيونال») دفعت ما يزيد على مليون جنيه إسترليني لتسوية قضايا قانونية تورط فيها عدد من الصحافيين في قضايا تنصت. وقد أظهر هذا الكشف أن مولكير وغودمان لم يكونا سوى قمة جبل الجليد، وأن هناك احتمالية بوجود آلاف الضحايا الذين وقعوا فريسة التنصت على الهاتف.

وردت «نيوز إنترناشيونال» بإنكار هذه المزاعم حيث زعمت ريبيكا بروكس أن تغطية «الغارديان» ربما تكون قد ضللت الرأي العام البريطاني عمدا.

بيد أن القصص التي تم تداولها خلال عام 2010 عن التنصت على الهواتف التي تورطت فيها «نيوز أوف ذي وورلد» زادت بشكل مطرد، وبحلول عام 2011، ألقت الشرطة البريطانية القبض على الكثير من العاملين في الصحيفة. بيد أن التاريخ الذي يقف عنده كل المؤرخين والذي تحولت معه الفضيحة إلى فضيحة عالمية كان الرابع من يوليو 2011، عندما نقلت الصحف في ذلك اليوم أن «نيوز أوف ذي وورلد» تنصتت على هاتف ميلي داولر، حيث أدى إلى سلسلة من الأحداث غير المتوقعة ربطت عملاق الإعلام البريطاني بالقصة المأساوية لداولر، التي اختفت أثناء عودتها من المدرسة في مدينة والتون أون توماس في مارس (آذار) 2002، وهيمن اختفاء الفتاة على عناوين الصحف وعندما اكتشف أن الرسائل تم حذفها من رسائل بريدها الصوتي الذي قدم لوالديها أملا في أنها ربما لا تزال على قيد الحياة.

والحقيقة أنها سرعان ما قتلت بعد اختطافها من قبل قاتل متسلسل هو ليفي بيلفيلد، على الرغم من عدم العثور على جثتها حتى سبتمبر (أيلول) من ذلك العام.

كان الإعلان عن أن «نيوز أوف ذي وورلد» تنصتت على هاتف ميلي داولر - على الرغم من أنه سيتضح في ما بعد أنهم مسؤولون عن حذف هذه الرسائل - الحادث الذي جعل منها صحيفة سامة على الرغم من أنها كانت الصحيفة الأكثر نجاحا في بريطانيا، وأغلقت بعد ذلك بـ3 أيام. ثم ظهر روبرت مردوخ إلى جانب ابنه جيمس أمام اللجنة البرلمانية أواخر ذلك الشهر، مستغلا المناسبة ليخبر البريطانيين - قبل أن يتعرض للهجوم بفطيرة كاسترد - أن الاعتذار على التنصت كان أكثر الأيام خزيا في حياته.

وقد شكلت قصص التنصت على الهواتف العاصفة المثالية، وشملت قائمة الضحايا مشاهير مثل الممثل هيو غرانت، والعائلة المالكة، والسياسيين، وشخصيات عامة بارزة مثل عائلة ديلوير، وقد هيمنت القضية على الصحافة والأثير، وهو ما أدى برئيس الوزراء ديفيد كاميرون إلى تشكيل لجنة تحقيق ليفسون في يوليو 2011.

وقاد لجنة تحقيق ليفسون، قاض معروف للتحقيق في الممارسات الثقافية والأخلاقية والمهنية للصحافة. وعلى الرغم من أن التحقيق كان نتيجة مباشرة للكشف عن فضيحة تنصت «نيوز أوف ذي وورل» على هواتف، فإن نطاق اختصاصها يوضح محاولة دراسة العلاقة المهمة بين الصحافة والسياسيين والشرطة، الذين كان فشلهم في الكشف عن القرصنة وصمة عار كبيرة على الضباط المتورطين في القضية.

وانقسم التحقيق إلى 4 أجزاء، ويتوقع أن ينتهي خلال عام. ينظر الجزء الأول في العلاقة بين الصحافة والجمهور، ويبحث في التنصت على الهواتف والسلوك غير القانوني المحتمل. أما الجزء الثاني فيبحث في العلاقة بين الصحافة والشرطة ومدى استخدام هذه العلاقة في سبيل تحقيق المصلحة العامة. أما الجزء الثالث فيدرس العلاقة بين الصحافة والسياسيين. وفي الجزء الرابع يسعى التحقيق إلى تقديم التوصيات لسياسة أكثر فاعلية وتشريع يدعم نزاهة وحرية الصحافة في الوقت الذي يشجع أعلى المعايير الأخلاقية.

وجرى التحقيق في المحكمة 73 من محاكم العدل الملكية، المبنى الحجري المهيب الذي يعود إلى القرن التاسع عشر في لندن، والمثير للمفارقة أن المحكمة قريبة للغاية من شارع فليت، المقر السابق للصحف البريطانية إلى أن قاد مردوخ عملية الانتقال في الثمانينات. يترأس اللجنة القاضي ليفسون، قاضي المحكمة، البالغ من العمر 62 عاما، الذي اكتسب سمعة عامة عندما قاد في عام 2006 على المحاكمة الشهيرة لمقتل صبي في العاشرة من العمر، داميلولا تايلور. وتقع مهمة القاضي ليفسون في دراسة قانون الإعلام وشؤون الخصوصية. والسؤال الأساسي هو عما إذا كانت هناك ضرورة لزيادة التشريعات الخاصة بوسائل الإعلام.

وافتتح ليفسون جلسات الاستماع يوم الاثنين 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، «الصحافة توفر رقابة أساسية على جميع جوانب الحياة العامة. وربما كان هذا هو السبب في فشل كل وسائل الإعلام في التأثير علينا جميعا. ولذلك يكون الهدف من وراء هذا التحقيق سؤال واحد بسيط وهو: (من الذي يحرس الأوصياء؟) وحراسة الأوصياء، عبارة أخرى مرادفة للتشريع، يتم توفيرها حاليا من خلال مجموعة من التشريعات، والتنظيم الذاتي وإسهامات من عدد من الوكالات بما في ذلك لجنة شكاوى الصحافة ومكتب الاتصالات.

ومنح أكثر من 50 مشتبها فيه في قضايا سوء ممارسة العمل الإعلامي الحق في المشاركة بشكل أساسي، في الوقت الذي أسهم فيه عدد من الشهود في التحقيق. وفي سبتمبر قال القاضي ليفسون: «لا أعتقد أن هذه محاكمة، لكننا سنحاول كيف يمكننا الاستمرار». وعلى الرغم من أن ليفسون لا يرى في عمل اللجنة محاكمة، وأنها شكلت بشكل أساسي كلجنة للعثور على الحقائق، فإنها تمتلك كل المكونات التي تجعلها كذلك، فهي منعقدة في قاعة محاكمة وبها قاض ومدعون عامون وشهود يؤدون القسم. تبث الجلسات على شاشات التلفزيون وعلى الإنترنت وتنشر الشهادات بالتفصيل في وسائل الإعلام للقضية التي تحقق فيها اللجنة.

ويرجع جزء من السبب في الاهتمام الكبير الذي تلقاه لجنة التحقيق هو عامل الشهرة، لدى الكثير من الضحايا، الذي شكل عاملا حاسما لاختراق هواتفهم في المقام الأول. كانت مجموعة الضحايا كبيرة وتشمل ممثلين وممثلات ارتبطت أسماؤهم بالفعل بقضايا القرصنة على هواتفهم مثل: سيينا ميلر، وغود لو، وهيو غرانت، وسياسيون مثل جون بريسكوت، وتيسا جويل، وسيمون هيوز، ومارك أوتين.

وكان من بين المستهدفين أيضا أشخاص سيئو السمعة مثل كريستوفر جيفريز، الرجل الذي اتهم خطأ من قبل الصحافة في مقتل يتس جوانا؛ وماكس موسلي، الذي تحطمت حياته الخاصة على يد صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد».

وتحدثت البارونة هولينز إلى لجنة التحقيق في فبراير (شباط) عن الاهتمام الصحافي الذي تلقته عائلتها بعد تعرض ابنتها الحامل إلى الإصابة بالشلل بعد تعرضها للهجوم بسكين، وتحدثت عن تعرضها للمطاردة من قبل الصحافة وتقديم زهور مزودة بأجهزة تنصت لها، مما اضطرها في النهاية إلى اللجوء إلى الاستعانة بحراسة الشرطة لمنع وقوع المزيد من محاولات الاختراق.

وكانت معاملة هولينز وعائلتها من أسباب دراسة اللجنة قضية المعايير الأخلاقية لوسائل الإعلام. ومن المثير للدهشة أن ريتشارد ديزموند، مالك «ديلي إكسبريس»، عندما سئل عن المعايير الأخلاقية التي تنتهجها صحيفته، رد بالقول: «حسنا، المعايير الأخلاقية، أنا لا أعلم تحديدا ما تعنيه هذه الكلمة».

وقدمت شهادة هيو غرانت أمام لجنة ليفسون نظرة فاحصة على المعركة بين المشاهير ووسائل الإعلام. فصور غرانت في شهادته كيف أن المعركة غير متكافئة، لأنهم يملكون ميكروفونات قوية في صحفهم وملايين من مكبرات الصوت في الإنترنت. لكنك لا تملك غير بوق صغير هو محاميك (وبالطبع هيئة عقيمة هي لجنة الاتصالات)»، وتحول غرانت إلى واحد من المشاهير الذين ردوا المعركة على وسائل الإعلام. وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي، قبل أن تظهر فضيحة داولر، تم تسجيل محادثة سرية في حانة بين غرانت وصحافي سابق في صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» هو بول ماكميلان.

وبرر غرانت ذلك بالقول: «إنني كنت أرغب في أن أتعرف بشكل أكبر على التنصت على الهواتف وكل ما يتعلق بصحافة (التابلويد). وقد بدا لي أن ألقاه مباشرة، لكنه اتضح في ما بعد أنه واش. كنت اعتقدت أنني قد أحصل على مزيد من المعلومات وقد يكون ذلك أكثر مرحا، وإذا كنت قد سجلت له سرا، فقد سجل لي هو الآخر».

وعلى الرغم من إشارة الضحايا وشهادات الشهود إلى أن المتهم في ذلك وسائل الإعلام نفسها، وبخاصة صحافة «التابلويد»، فإن ذلك دفع مجلة «برايفت آي» الساخرة، إلى التساؤل، كيف يمكن لصحيفة «التابلويد» المتعثرة الإفلات من القاضي اللورد ليفسون وتحقيقه الذي يثير الضيق؟ بيد أنه في الوقت الذي تقوم فيه مجلة «برايفت آي» بالسخرية بشكل منتظم من فشل الصحافة في عمودها «شارع العار» (في إشارة إلى شارع فليت)، تحدث رئيس تحرير المجلة إيان هيسلوب، أمام اللجنة معترضا على فرض مزيد من الرقابة، قائلا: «التنظيم القانوني غير مطلوب».

النتائج الدقيقة للتحقيق لن تتضح قبل الخريف لكن المحاكمة ألقت بالفعل الضوء على الطبقات المتعددة للممارسة الخاطئة لوسائل الإعلام داخل بريطانيا. وقامت بدراسة معايير وأخلاقيات الصحافة المكتوبة بصورة أكثر قوة من أي وقت مضى في تاريخها. ومن منطلق دورها كسلطة رابعة، قامت الهيئة التي تسيطر على مجلس النواب المسؤولة بشكل مستمر وسائل الإعلام المطبوعة، بممارسة سلطات ضخمة دون أي مسؤولية رسمية؛ ونتيجة لذلك لم تخضع لمحاسبة مباشرة.

هذه الحالة من العلاقات، التي ترسخت على مدار 200 عام، باتت الآن موضع تساؤل. الشهادة من المشاهير من أمثال هيو غرانت برزت كأمثلة على التوهج التدريجي للخط الفاصل بين كتابة القصص التي تصب في الاهتمام العام والقصص ذات الأهمية للقراء مع الكثير من المعلقين الذين يؤكدون أن وسائل إعلام «التابلويد» يقودها الآن السعي وراء نشر الأخبار الجنسية عن المشاهير لا الرغبة في محاسبة المسؤولين.

والحقيقة أن عقد تحقيق يحمل أهمية كبيرة لأنه يمثل إقرارا ضمنيا من مجلس النواب بأنه لا يملك، أو أي من أعضائه أنفسهم، المتورطين في الأزمة إلى حد بعيد، القدرة على اللجوء إلى القضاء بشأن الأمر. وربما تكون لجنة شيلكوت بشأن حرب العراق المثال الأصدق على ذلك، حيث نظر إلى القضية على أنها مثيرة للجدل وترتبط بشكل مباشر بشخصيات بعينها داخل البرلمان والحكومة، مما أوجب الحاجة إلى تحقيق مستقل. الأمر نفسه ينطبق على القضية ذاتها اليوم لأنها لا تتعلق بفضيحة التنصت على الهواتف والممارسات الخاطئة الأخرى التي تم التحقيق فيها وحسب، بل لعالم العلاقات المظلم بين الصحافيين وأعضاء مجلس النواب وبين الصحافيين والقادة السياسيين.

وقد أسهمت هذه الروابط بين الشخصيات البارزة في السياسة ووسائل الإعلام في تزايد انعدام الثقة بين الجمهور إلى درجة أن تفويض لجنة تحقيق مستقلة كان الخيار الوحيد المتاح للحكومة.

إذن ما الذي يحمله المستقبل للإعلام البريطاني والنظم التي تحكمه والدور الذي يلعبه في ديمقراطية الدولة؟ أولا، من الجدير بالذكر أن لجنة تحقيق ليفسون مجرد جزء واحد من عملية مؤلفة من 3 أجزاء تأخذ مجراها الآن.

وفي الوقت ذاته الذي يجرى فيه تحقيق ليفسون، تواصل شرطة ميتروبوليتان تحقيقها الجنائي الموسع، الذي قد يرى البعض أنه كان يجب إجراؤه منذ فترة طويلة، في واقعة التنصت على الهواتف من قبل صحف بريطانية. إضافة إلى ذلك، فمن المتوقع إحالة الكثير من الدعاوى القضائية المرفوعة ضد صحف بريطانية أو صحافيين بريطانيين أفراد إلى المحاكم المدنية في بريطانيا.

وسوف يكون لهذه العمليات الـ3 المتوازية - تحقيق ليفسون وتحقيق الشرطة والمحاكمات المدنية المحتملة - تأثير على مستقبل الصحافة البريطانية. بالطبع من خلال الحديث إلى كاتب هذا المقال، توقع غابي هينسليف، رئيس التحرير السياسي السابق في صحيفة «ذي أوبزيرفر» الوطنية التي تصدر يوم الأحد، أن «تحقيق الشرطة قد يمثل أهمية أكثر استمرارية من أي نتائج تم التوصل إليها من لجنة تحقيق ليفسون». إن حقيقة أن 7 من الصحافيين وفريق الإدارة في صحيفة «ذي صن»، الصحيفة الأكثر مبيعا في بريطانيا، قد تم اعتقالهم في يناير (كانون الثاني) الماضي تمثل إشارة واضحة على أن الشرطة تعتقد أن هناك أسسا لإقامة المزيد من الدعاوى. وفي دولة تشتهر بحرية الإعلام، يمثل مشهد اقتياد عدد كبير من الصحافيين إلى السجن قيمة سياسية وثقافية كبيرة.

وحتى إذا لم يقد التحقيق الجنائي إلى مزيد من الملاحقات القضائية، فسيكون من الصعب مشاهدة الوضع الراهن في إطار وسائل الإعلام المقروءة المتبقية. ثمة شعور سائد بين مراقبي وسائل الإعلام البريطانية متمثل في أن تحقيق ليفسون يسجل لحظة تحول بالنسبة للصحافة البريطانية. لقد كانت هناك أزمات من قبل، وفي واقع الأمر، في عام 1990، أجري تحقيق سابق للنظر في ممارسات الصحافة المقروءة البريطانية بعد أن أثيرت مخاوف بشأن عدة دعاوى قضائية وثيقة الصلة بوقائع تدخل من قبل صحف «تابلويد».

وقد نظر إلى ذلك التحقيق، الذي أداره ديفيد كالكوت، على نطاق واسع بوصفه غير فعال، كما لم يسفر عن تحميل الصحافة المقروءة أي مسؤوليات رسمية. وبالمثل في عام 1997، في أعقاب حادث الوفاة المأساوي للأميرة ديانا، أميرة ويلز، أبرمت الصحافة اتفاقا غير رسمي مع العائلة المالكة والحكومة البريطانية، يقيد قدرتها على التدخل في حياة أفراد الأسرة المالكة.

واستمر هذا الاتفاق بحسب أفضل تقدير لمدة 5 سنوات قبل أن تتلاشى مجددا الحدود الفاصلة بين ما يشكل تطفلا من جانب وسائل الإعلام وما لا يشكل تطفلا من جانبها. وفي هذه المرة، كان هناك إجماع على نطاق واسع، حتى بين رؤساء تحرير الصحف، على أن ثمة أمرا ما بحاجة إلى تغيير. وقد ثبت أن التنظيم الذاتي للصناعة من جانب لجنة شكاوى الصحافة غير فعال، والسؤال الآن هو ما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟

وإذا ما كان لتحقيق ليفسون أن يؤدي إلى تغيير دائم، فإن لديه 3 خيارات تحت تصرفه: القانوني، أو التجاري، أو التنظيمي. ثمة وسائل يمكن أن يؤدي من خلالها التحقيق إلى تجنب اتخاذ قرار من خلال مزيج من التغييرات في إطار كل من هذه الجوانب الـ3 المقترحة، وينظر إلى هذا في العموم على أنه أسوأ نتيجة محتملة.

ومن خلاله حديثه لـ«الشرق الأوسط»، قال جورج بروك من كلية الصحافة بجامعة سيتي في لندن ورئيس التحرير السابق لصحيفة «التايمز»، إنه يعتقد أن «تحقيق ليفسون ستخيم عليه ذكرى تحقيق كالكوت وفشله في تفعيل تغيير جوهري، ومن المحتمل أن يقدم تحقيق ليفسون مقترحات واضحة ومهمة».

غير أنه بعد مرور 6 أشهر من بدء سير التحقيق، لم يتضح بعد أي طريق سيسلكه ليفسون وفريقه، وفي الوقت الذي يوجد فيه إجماع عام على أن ثمة إجراء معينا يجب اتخاذه، لم تجمع الأطراف المعنية على ماهية الإجراء الواجب اتخاذه.

الخيار الأول المتاح لليفسون هو اقتراح إجراء تشريعي. ويعتبر هذا أيضا أصعب الخيارات. إن بريطانيا بالفعل لديها قانون ادعاء قوي يوفر للشخصيات العامة والشركات والمؤسسات بالمثل منبرا لشن هجوم على الصحف التي يرون أنها قد نشرت أخبارا تمثل افتراءات عليهم. ويشير كثيرون إلى أنه بعيدا عن حاجة قانون الادعاء البريطاني للتدعيم، فإنه أيضا منحاز بقدر كبير جدا إلى جانب الضحايا المزعومين.

وقد وظفت شركات كبرى ذات رؤوس أموال ضخمة في أكثر من موضع قوانين الادعاء في بريطانيا من أجل ترويع الصحف التي ليس أمامها فرصة كبيرة للنجاح من خلال أخبار شرعية تصب في الصالح العام على نحو مثير للجدل. ويترك هذا خيار قانون خصوصية جديدة. وعلى عكس فرنسا، فإن المملكة المتحدة لا تملك تشريعا معينا متعلقا بحماية الخصوصية تمت صياغته خصيصا للتأمين ضد انتهاكات الصحف، عادة ما يلجأ الضحايا إلى قانون حقوق الإنسان البريطاني.

وسيكون اقتراح قانون جديد قوي لحماية الخصوصية بمثابة خطوة كبيرة بالنسبة لليفسون، التي من المحتمل أن تكون لها تبعات وخيمة على مستوى الصحافة الاستقصائية البريطانية. وبينما كشف تحقيق ليفسون عن أكثر الجوانب سوداوية في الصحف البريطانية، يجب تذكر أن الصحافة الاستقصائية البريطانية ما زالت تتمتع بمستوى جودة يجعلها تتفوق على غيرها في الدول الأخرى.

ومثلما أبرز هذا المقال، فقد كشفت عدة صحف بريطانية، من بينها «نيوز أوف ذي وورلد»، الموقوفة حاليا، النقاب عن فضائح كبرى متورط فيها أطراف مختلفة بدءا من ساسة إلى رياضيين ووصولا إلى رجال أعمال. وربما تكون هناك حاجة إلى صياغة قانون حماية خصوصية جديد بشكل بارع من أجل ضمان أن لا تصبح صحف «التابلويد» أداة أخرى يمكن لأصحاب النفوذ استخدامها ضد تحقيقات وسائل الإعلام المشروعة.

أما الخيار الثاني بالنسبة لليفسون، فيتمثل في اقتراح تقييد السلطة التجارية للصحف البريطانية. كانت الصحيفة محور الفضيحة الحالية، «نيوز أوف ذي وورلد»، مدعومة بقوة إمبراطورية «نيوز إنترناشيونال». ويشار إلى أن القوة التي قد تمتعت بها تلك الصحف قد جعلتها محصنة ضد أي معوقات قانونية أو أخلاقية تعرقل مسار تعقبها للأخبار.

ويشير الكثير من المعلقين أيضا إلى أن الحماسة واسعة النطاق والتنافسية التجارية للكثير من صحف «التابلويد» البريطانية قد دفعت الصحافيين العاملين بها إلى الذهاب إلى أبعد مدى ممكن للتفوق على منافسيهم في اصطياد الأخبار، بما في ذلك انتهاج ممارسات غير أخلاقية مثل التنصت على الهواتف.

لكن في حين قد سمع ليفسون أدلة تتعلق بثقافة الحقد التي تعززها الصحف التي تدار بالأساس ككيانات تجارية، قد يكون افتراض أن تقليص حصة السوق لإحدى المجموعات الصحافية من شأنه أن يؤدي إلى صحافة أفضل وقفزة كبيرة بدرجة مبالغ فيها. إن فكرة حرمان المجموعات الإخبارية الناجحة من النمو تجعل المدافعين عن السوق الحرة في حالة من عدم الارتياح على وجه الخصوص.

وهذا بدوره يترك لليفسون خيارا أخيرا واحدا، ألا وهو إصلاح وتدعيم تنظيم الصناعة. ومثلما أبرز هذا المقال، فقد وجهت انتقادات حادة للجنة شكاوى الصحافة لعجزها عن فرض ضوابط على عمل الصحافة.

جدير بالذكر أنه عندما تشكلت اللجنة في عام 1990، تم منحها فترة اختبار مدتها 18 شهرا لمعرفة ما إذا كانت ستنجح في العمل كجهاز رقابي فعال أم لا، وفي حالة عدم نجاحها، كانت ستلقى على عاتق البرلمان مهمة وضع تشريع لضبط عمل الصحافة. اجتازت اللجنة الاختبار حينها، لكنها بالطبع لن تبقى الآن، على الأقل بصورتها الحالية. غير أنه لا توجد إجابات بسيطة بشأن الكيان الذي يمكن أن يحل محلها.

وتتمثل المشكلتان الرئيسيتان بالنسبة لهيئة تنظيمية جديدة، وهما المشكلتان اللتان عرقلتا عمل اللجنة بالأساس، في عدم توفر السلطة التي تقترن بأي هيئة تطوعية غير تشريعية، والموضوعية المميزة للأخبار، المنتج الذي تنتجه الصحافة وتروجه. من الصعب إصدار أحكام واضحة وسريعة بشأن محتوى الأخبار وكيفية تجميعها، على عكس صناعة الغذاء على سبيل المثال، حيث يكون من السهل نسبيا تقييم معيار أي منتج.

وبشأن المشكلة الأولى، سيتعين على ليفسون تقديم بعض المقترحات حول كيفية تدعيم أي هيئة تنظيمية جديدة، فقط كيف يمكنك إقناع رؤساء تحرير الصحف بأن عدم الامتثال لقواعد الهيئة الجديدة سيضر بصحفهم في الوقت الذي يعلم فيه رئيس تحرير أي صحيفة أنه لا يمكن تفعيل أي عقوبة قانونية أو مالية.

وقد تم تسليط الضوء على المشكلة بشكل دائم من خلال الرفض المستمر من جانب مجموعة «إكسبريس نيوز بيبر» الانضمام إلى لجنة شكاوى الصحافة الحالية. وتدرك المجموعة أن عواقب عدم الانضمام وعدم الامتثال لقواعد الهيئة التنظيمية الحالية ليست فادحة بدرجة كبيرة بحيث تثير قلقها.

وبشأن عدم الموضوعية، فإن نظام لجنة شكاوى الصحافة الحالي يفصل في الشكاوى المتعلقة بعدم تحري الدقة والأكاذيب التي تحملها الأخبار الصحافية. وسيتعين على أي هيئة جديدة توسيع نطاق المقاضاة بهدف النظر في نطاق أوسع من الأخبار، مع وضع أخلاقيات وأساليب جمع الأخبار في المقام الأول.

ولكن على الرغم من هذه التحديات، ربما تكون هيئة تنظيمية جديدة أقوى الخيارات المفضل لغالبية هؤلاء الذين لهم مصلحة في تحقيق ليفسون.

وبينما قد استخدم كثير من ضحايا فضيحة التنصت على الهواتف تقرير ليفسون كمنبر للضغط من أجل سن تشريع، لا يوجد ميل كبير بين الساسة لسن قوانين، كما أن رؤساء تحرير الصحف، على نحو لا يدعو للعجب، يشعرون بأن هذا سيمثل منعطفا خطيرا. وفي المقابل، من الممكن أن تؤدي هيئة تنظيمية قوية تتمتع بصلاحيات إحالة دعاوى قضائية إلى تحميل الصحف المسؤولية وإضفاء شرعية جديدة على صناعة لا تعاني فقط من مشكلة تتعلق بصورتها، وإنما أيضا من هبوط حاد في مبيعاتها، مع الزيادة الهائلة في كم الأخبار المعتمدة على شبكة الإنترنت.

وأيا كانت القرارات التي سيتوصل إليها ليفسون في وقت لاحق من هذا العام، فإن صناعة الإعلام البريطانية الآن بلا شك في موقع مختلف عن ذلك الذي كانت فيه قبل بدء التحقيق. إن لحظات التغيرات الزمنية الجوهرية في الحياة العامة نادرة ولم يتحدد بعد مدى أهمية هذه الفضيحة، لكن حجمها الكبير اقترن بحقيقة أن صناعة الصحافة تواجه أيضا أزمة وجودية وشيكة في نموذج عملها في مواجهة إعلام إخباري معتمد على شبكة الويب وما يعرف باسم صحافة المواطنة، مما يعني أنه من الصعب أن لا يحدث تغيير في ثقافة وممارسات الصحافة البريطانية، وتحديدا صحافة «التابلويد».

ومن خلال حديثه عن صحافة «التابلويد»، يقول بلوك إنه «ستحدث كارثة بالفعل إذا انهارت القدرة الاستقصائية للصحافة الشعبية». في واقع الأمر، سلط الكثير من الصحافيين، من بينهم جوناثان فريدلاند من صحيفة «الغارديان»، الصحيفة التي قادت التغيير في الكشف عن الممارسات السيئة لصحف «التابلويد»، الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه صحف «التابلويد» في الكشف عن أخبار ذات أهمية وضمها إلى الاتجاه السائد في الأخبار، حيث يتم انتقاؤها من جانب الإعلام المقروء والمبثوث.

وليس من المحتمل أن يأسف بروك أو جوناثان فريدلاند على اندثار إعلام صحف «التابلويد» في أي وقت قريب. ما زالت تحظى صحف «التابلويد» ذات العناوين المكتوبة باللون الأحمر بنسبة قراء ضخمة، على الرغم من أن مبيعاتها في هبوط، وكثير منها يتوسع بشكل ضخم على شبكة الإنترنت. وبينما يزداد عدد المنافذ الإعلامية الجديدة وصحف المواطنة، سوف تستمر الصحف التقليدية في لعب دور مراقب الجودة، بإضافة سياق وأدلة وتفسيرات للأخبار الخام التي يتم إنتاجها على الإنترنت.

وقد يتمثل الأمر أكثر إثارة للاهتمام في كيفية إعادة هيكلة صحف «التابلويد» ووسائل الإعلام المقروءة بشكل عام وحداتها الاستقصائية والدقة التي تتعقب من خلالها الأخبار المثيرة للجدل التي تحتاج وقتا وطاقة هائلين لجمعها. وسوف يتعين على الصحافيين العودة للأساسيات.

وسوف يتحتم دعم الأخبار المختلفة باستقصاءات حقيقية بدلا من مجرد لجوء الصحافيين إلى أي مصدر غير مشروع، بدءا من التنصت على خطوط الهواتف إلى مختلف الوسائل غير المشروعة في تصيد الأخبار. وهناك بالطبع خطر حقيقي ممثل في أنه سيقل عدد من سيتم التحقيق معهم في قضايا متعلقة بمراقبة وسائل الإعلام. غير أنه بإلقاء نظرة سريعة على عناوين الصحف البريطانية في أي يوم محدد، يمكننا نكتشف أن الشك الحاد والطبيعة الاستقصائية للصحافة البريطانية ما زالت قائمة ومدركة. لن يرغب كثيرون في أن توكل مهمة الرقابة على وسائل الإعلام إلى لجنة تحقيق ليفسون أو شرطة ميتروبوليتان أو أي هيئة تنظيمية إعلامية أخرى.

* صحافي في صحيفة «الغارديان» و«هافينغتون بوست» و«نيو ستيتسمان»، ويظهر بشكل متكرر في وسائل الإعلام المبثوثة، ويقدم استشارات في الوقت الحالي للحكومة البريطانية بشأن سياستها تجاه «الربيع العربي». وهو عضو في مجلس إدارة مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني.

* أسهم في إعداد التقرير سام هاردي.