محمد الأصفر: ليبيا تنتقل من «الكبت الإعلامي» إلى «الانفجار الإعلامي»

الباحث والإعلامي الليبي لـ «الشرق الأوسط» : الرقيب الصحافي الآن هو الضمير

الباحث والإعلامي الليبي محمد علي الأصفر («الشرق الأوسط»)
TT

قال الإعلامي الليبي محمد علي الأصفر، رئيس قسم الإعلام في جامعة الزيتونة (ناصر سابقا) في ليبيا، إن جميع الصحف التي كانت تصدر في عهد العقيد معمر القذافي قد اندثرت.

وأضاف الأصفر في حواره مع «الشرق الأوسط» من الرباط على هامش مشاركته في ندوة نظمتها إيسيسكو حول الإعلام «إن صحف العهد البائد، كانت عبارة عن منشورات وقصاصات تطبل للعقيد القذافي وتمجده، بل كانت تسبح بحمده، ومن ثم انتهت مباشرة بنهاية نظامه، وجميع الإذاعات والفضائيات اختفت باختفاء مقولاته وصور القذافي من شوارع المدن الليبية».

وقال إن الليبيين اعتمدوا خلال الثورة على «كتابة الجدران» بسبب الظروف الخانقة والانعدام الكلي لحرية التعبير في البلاد. فإلى نص الحوار:

* ما وضع الصحافة والإعلام في ليبيا خلال فترة ما بعد العقيد معمر القذافي؟

- مر الإعلام الليبي بمراحل تاريخية متعددة أثرت بشكل كبير على وسائله وسياساته وتشريعاته وهياكله التنظيمية، وكان لكل مرحلة خصائص وظروف سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية أسهمت في رسم الخريطة الإعلامية، بدءا من المرحلة العثمانية ثم الفترة الاستعمارية الإيطالية. ودراسة هذا التاريخ الطويل بسلبياته وإيجابياته ستفيد في بناء إعلام جديد له أهداف وآليات تلبي طموحات الإعلاميين وتراعي مصلحة المجتمع الليبي في وجود إعلام. لم يترك النظام الليبي السابق إعلاما ولا صحافة حقيقية. صحف العهد البائد، كانت عبارة عن منشورات وقصاصات تطبل للعقيد القذافي وتمجده، بل كانت تسبح بحمده، ومن ثم انتهت مباشرة بنهاية نظامه، فاختفت باختفاء مقولاته وصوره من شوارع المدن الليبية.

وتشريعيا، لم يترك شيئا يذكر على الإطلاق، ولا أدل على ذلك من قانون المطبوعات الوحيد، وهو صادر عام 1972، وقانون الملكية الفكرية وحق المؤلف الصادر في 1968، وهذه التواريخ تبين أن هذه القوانين كلها انتهت صلاحيتها، وهي غير فعالة ولا تتماشى مع عصر الإعلام الرقمي.

عندما أطل الربيع العربي ونجح في تونس ومصر، كان الليبيون يبحثون عن وسائل وطرق للتعبير عن الواقع الليبي، ولم يتمكنوا من ذلك لسيطرة الدولة على الإعلام، ولا تسمح بإصدار صحف خاصة على الرغم من تطبيقها قانون المطبوعات الصادر عام 1972 الذي يجيز ذلك في مادته الرابعة، وأيضا لا تسمح التشريعات الإعلامية والاتصالية والمعلوماتية وغيرها للمواطن بامتلاك القنوات الإذاعية الأرضية أو الفضائية، فقانون الاتصال السلكي واللاسلكي الذي صدر عام 1990 لا يجيز استعمال أو صناعة أو صيانة أجهزة منظومات الإرسال والاستقبال اللاسلكي دون ترخيص وأوكل المهمة للهيئة العامة للإذاعة، ومنذ ذلك التاريخ وقبله لم يسمح لأي شخص أو جهة عامة بإنشاء قنوات إذاعية حتى عام 2008 عندما سمحت اللجنة الشعبية العامة للثقافة (وزارة الثقافة) لشركة «الغد» بإنشاء قناتين مسموعتين وهما «الليبية» و«الإيمان»، وأيضا قناة «الليبية الفضائية»، وقد شكلت صورة جديدة لنمط جديد من الإعلام لم يكن معروفا من قبل، وعلى الرغم من موالاتها للنظام وكونها إحدى مؤسسات أسرة القذافي، حيث كان يترأس شركة «الغد» ومؤسساتها سيف الإسلام القذافي، فإنها لم تسلم هي الأخرى من الإقصاء عندما زارها القذافي نفسه فجأة في الثانية فجرا في أبريل (نيسان) عام 2009 وأمر بإغلاقها وضمها لباقي القنوات التابعة للدولة.

ودعم نظام القذافي وبكل قوة إصدار وثيقة ضوابط القنوات الفضائية في العالم العربي التي تبناها عن وزراء الإعلام العرب عام 2008 لتضيق مساحة حرية الإعلام المتاحة وتقليص دور بعض الفضائيات والحد من إشعاع بعض القنوات الدينية، وكانت ليبيا تركز على عدم المساس بالرموز الوطنية وتقصد العقيد القذافي شخصيا، لأنه خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه أو الحديث عنه. وبشأن إذاعات القذافي المرئية والمسموعة، التي كانت ذات اتجاه واحد وخطاب واحد، اختفت جميعها فجأة باختفائه، ووكالة الأنباء (جانا) تلاشت هي الأخرى مع سقوط النظام.

وأصبحت الصحف والمجلات في ليبيا الآن في كل شارع، وهي تعد بالمئات، والإذاعات الأرضية والفضائية بالعشرات والمواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية مفتوحة للجميع دون رقيب ولا حسيب. المؤكد أن الصحافة الإلكترونية في الخارج والمواقع والإذاعات الفضائية والشبكات الاجتماعية أسهمت في إنجاح ثورة الليبيين، وفي الداخل كانت الكتابة على الجدران والمنشورات السرية، هي البديل لأن الاتصالات الدولية وشبكة الإنترنت أغلقت في وجه الليبيين من قبل نظام القذافي. إن حالة الكبت والحرمان وفقدان الحرية التي عاشتها ليبيا خلال أربعة عقود أسهمت في «الانفجار الإعلامي»، فانتشرت الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية وأظهرت أن ليبيا حبلى بالطاقات البشرية وظهر خبراء ومتخصصون في كل مكان ومجال.

* ألا يطرح هذا التغيير المفاجئ في تدفق المعلومات وحرية الآراء بعض الإشكالات على مستوى التنظيم؟

- ليبيا لم تكن تملك سوى 4 صحف يومية حكومية هي «الزحف الأخضر» و«الجماهيرية» و«الفجر الجديد»، و«الشمس» وبعض القنوات الإذاعية المسموعة والمرئية ذات التوجه والرأي والخطاب والأسلوب الواحد ولا تخرج عما تبثه وتصوغه لها وكالة موجهة واحدة هي وكالة «الجماهيرية للأنباء» أصبحت تعج بمئات الصحف والمجلات وعشرات القنوات المعة والمرئية الأرضية والفضائية ومئات الصحف والمواقع الإلكترونية العامة والخاصة، وهو ما يؤكد رغبة الليبيين في حرية التعبير التي حرموا منها سنوات طويلة، والتشجيع الذي تضمنته المادة 14 من الإعلان الدستوري لثورة «17 فبراير» التي تقول «تضمن الدولة حرية الرأي وحرية التعبير الفردي والجماعي وحرية البحث العلمي وحرية الاتصال وحرية الصحافة ووسائل الإعلام والطباعة والنشر وحرية التنقل وحرية التجمع والتظاهر والاعتصام السلمي بما لا يتعارض مع القانون»، وخوفا من عودة الرقابة وسيطرتها على وسائل الإعلام لا توجد وزارة للإعلام في الحكومة الليبية. وعلى الرغم من إيجابيات هذا الانفتاح والتعدد في الآراء والأصوات وحفاظا على استمرارية هذا الزخم ودعمه، فإنه في حاجة إلى التنظيم والتنسيق من خلال ميثاق شرف إعلامي وتشريع ينظم العمل الإعلامي، وهو ما يشهده الحراك الإعلامي والثقافي في ليبيا من خلال الندوات والمؤتمرات واللقاءات الخاصة بالإعلاميين من كتاب وصحافيين وأكاديميين وعاملين في القطاع. على سبيل المثال، تم عقد منتدى الحوار في بنغازي، وتم تنظيم ملتقيات الإعلاميين والفنانين في مارس (آذار) وأبريل الماضيين في طرابلس وأجمعت تلك اللقاءات على تأكيد دور الإعلاميين في بناء دولة المؤسسات والقانون. كما تم التنصيص على وضع الضوابط والمعايير لإنشاء نقابات إعلامية حسب المواثيق الدولية. إلى جانب رفع كفاءات الصحافيين ومطالبة الحكومة بتشجيع ودعم الصحف والبرامج الإعلامية.

وفي بداية مايو (أيار) الماضي عقد ملتقى الصحافيين والإعلاميين ببنغازي لاعتماد ميثاق الشرف الإعلامي وتضمن 28 بندا من 3 محاور رئيسية هي: الحريات الأساسية، والمسؤولية والمبادئ، والأخلاقيات المهنية. وفي محاولة من المجلس الوطني الانتقالي لتنظيم القطاع الإعلامي في هذه المرحلة أصدر مجموعة من القرارات، تمثلت في إنشاء مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وإنشاء المؤسسة الوطنية للصحافة، وإنشاء المجلس الأعلى للإعلام، وهو هيئة عليا ذات شخصية اعتبارية مستقلة ويتمتع بالأهلية الكاملة ويتبع المجلس الانتقالي مباشرة وأهم اختصاصاته، إبداء الرأي في المواضيع الإعلامية ووضع السياسة العامة للنهوض بالإعلام. ووضع اللوائح ومشاريع القوانين الإعلامية وإصدار ميثاق الشرف الإعلامي. ومنح التراخيص ذات العلاقة واتخاذ القرارات لتسيير المرافق الإعلامية.، وإعداد البحوث والدراسات وتوفير الخبرات الفنية ورفع كفاءتها.

* ما مصير الوجوه الإعلامية خاصة في التلفزيون تلك التي ظلت تمجد النظام السابق؟

- عندما خرج الليبيون تأييدا لثورة «17 فبراير» كان هدفهم المساواة والعدالة والحرية. ولهذا فهم مصرون على تطبيق القانون في حق أي شخص ارتكب جريمة في حق الليبيين أو أسهم في تشويه الرأي العام أو في تحريض الناس على الفتنة أو القتل أو حرض على تمزيق الوحدة الوطنية أو بث الإشاعات، فهو مطلوب للامتثال أمام العدالة.

وهنا لا فرق بين العسكري الذي أطلق النار على الليبيين وقتل الناس، وبين الإعلامي الذي قاتل الليبيين بسلاح آخر من خلال التزوير والتلفيق والتزييف للحقائق وقلب المعطيات وخلق الفتنة وحرض بعمله على القتل أو أسهم في ذاك. والقانون سيقول كلمته في هذه الجرائم، لكن الشعب الليبي شعب متسامح، لا يهدف إلى متابعة المنافقين أو الذين لم تكن أعمالهم ترقى إلى جرائم. وكثيرون من كانوا يعملون في المؤسسات الإعلامية والصحافية والإذاعية عادوا إلى أعمالهم، ومنهم من انضم إلى الثورة، وبخصوص تمجيد القذافي، فالأمر يتعلق بمسألة شخصية تتوقف على حد إدراك الشخص لمن هو القذافي وما هو تاريخه وماذا فعل، وما الجرائم التي اقترفها.

* ما واقع الإعلام الإلكتروني في خضم هذه الديناميكية؟

- الإعلام الإلكتروني قفز قفزة كبرى من خلال إقبال الليبيين على شبكات المعلومات الدولية (الإنترنت) وأسهمت المواقع الإلكترونية في إطلاع العالم عل القضية الليبية، وأصبح دور الإعلام الإلكتروني يضاهي دور القنوات الفضائية والإذاعات وينافس الإعلام التقليدي المكتوب.

* ماذا يمكن أن تقول عن وضع ليبيا في سلم حرية التعبير عالميا؟

- كانت ليبيا تحتل مراتب غير مشرفة على مستوى هامش حرية التعبير. إذ احتلت في عام 2010 المرتبة 146 دوليا و16 عربيا في تقرير منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرانسي)، وترتيبها كان أيضا 156 من أصل 175 على صعيد ترتيب حرية الصحافة والتعبير في العالم حسب منظمة «مراسلون بلا حدود». لكن المشهد تغير تماما، حيث توقفت الرقابة على الصحف، وتحولت هيئة الصحافة إلى تقديم الدعم للصحف والصحافيين، ولم يعد اليوم أمام الصحافيين والكتاب وحملة الأقلام، إلا ضمائرهم ومراعاة مصلحة الوطن لا غير. ولا بد أن أشير إلى أن المادة 14 من الإعلان الدستوري لثورة «17 فبراير» تضمن حرية التعبير الفردي والجماعي وحرية الطباعة والنشر وحرية التظاهر والتجمع والتظاهر والاعتصام وتكوين الأحزاب السياسية.

* ما الجديد في مجال التعددية السياسية؟

- لقد دبت الحياة في النشاط السياسي، ولا شك أن من نتائج الثورة أن الليبيين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع، للمرة الأولى منذ عقود، بعد نجاح عملية تسجيل الناخبين، إذ وصل عددهم نحو مليونين و775 ألف مواطن مسجل في القوائم الانتخابية، سينتخب هؤلاء المؤتمر الوطني (بمثابة برلمان)، وستنبثق عن المجلس الوطني المنتخب لجنة خاصة بوضع دستور للبلاد، الشيء الذي سيمكن من إصدار تشريعات للصحافة والمطبوعات تتماشى مع عصر الانفتاح، والتعددية واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي. وبعد نجاح المرحلة الأولى من عملية تسجيل الناخبين، وهذا الواقع الجديد سيفرز كما أشرت انتخاب أعضاء المجلس الوطني الذي يضم 200 عضو منتخب يمثلون جميع مناطق ليبيا حسب التعداد السكاني. وستسهم الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية ووسائل الإعلام المحلية والدولية في مراقبة تلك الانتخابات.