الإعلام الرمضاني.. متعة فقدت بريقها

خبراء: الدراما تتصدر.. الـ«توك شو» يتراجع.. والإعلانات تفرض «المشاهدة المتقطعة»

زخم إعلامي رمضاني شهدته القنوات التلفزيونية
TT

ما إن حل شهر رمضان المبارك هذا العام، حتى انتفضت الفضائيات لاستعراض عضلاتها لجذب المشاهدين إليها، بحشد رصيدها الإعلامي لرسم خريطة بث مختلفة، وتسخير كل طاقاتها الإنتاجية لأحداث تغيير واسع يتناسب مع أجواء الشهر الكريم، ويتوافق مع شغف كثير من الجمهور بمتابعة المواد الجديدة فيه، بما جعل هذا الجمهور المتلقي في حيرة من أمره، وهو يتنقل بين الزخم الإعلامي المحيط به في وسائل الإعلام سواء المسموعة أو المقروءة أو المرئية.

وتتصدر المسلسلات الدرامية ملامح الإعلام الرمضاني التلفزيوني بوجود أكثر من 60 مسلسلا، تقترب من ألفي ساعة بث على مدار الشهر، تركزت أغلبها في أوقات الذروة خلال رمضان، وهو الأمر الذي جعل العبث بأزرار جهاز التحكم «الريموت كنترول» لاختيار إحداها أمرا شاقا. يأتي بعد ذلك في الترتيب؛ البرامج الترفيهية، التي تظهر بأكثر من شكل، سواء برامج «المقالب» أو برامج المنوعات، التي تعتمد على الضيوف في المجالات المتعددة، أو برامج المسابقات التثقيفية، التي تسابقت شاشات الفضائيات في عرض النسخ «المُمصرّة» منها بعد نجاح البرامج الأصلية عالميا والتي في الغالب تحمل نفس الاسم.

من الملامح الإعلامية الرمضانية أيضا هذا العام، كما يجمع خبراء الإعلام، أن المواد الإعلانية كانت الأكثر حضورا، نظرا لضخامة إنتاج المواد الدرامية التي تجتذب عددا كبيرا من المعلنين، وزيادة عدد الفضائيات الخاصة، علاوة على تمتع مصر بضخامة الكثافة السكانية واتساع سوقها الاستهلاكية.

وعلى العكس شهد الإعلام الرمضاني في القنوات الفضائية مواد إعلامية فقدت بريقها وحضورها القوي على مدار شهور العام الأخرى، ولعل في مقدمتها برامج «التوك شو»، التي تعد السمة المميزة في مصر منذ انطلاق الثورة المصرية بطرحها مشكلات الواقع السياسي المصري وصراعاته، ولم تشهد هذه البرامج - مع ظهورها على استحياء - خلال شهر رمضان اختلافا في المواضيع التي تقدمها أو الأهداف التي تسعى إليها.

كذلك لم ينل الإعلام الديني بريقه الذي يجب أن يكتنفه في هذا الشهر باعتباره المناسبة الدينية الكبرى في حياة المصريين، بما يمكن وصفه بوجود حالة من «الكسل الإعلامي» غلف أداء وسائل الإعلام خاصة الفضائيات الدينية التي اهتمت بهويتها العقائدية على حساب المحتوى المقدم فيها، وهي القنوات التي كانت تسحب البساط من تحت أقدام الجميع نظرا للطابع الروحاني والإيماني للشهر الكريم. كما اكتنف قناة «ماريا» الفضائية، التي تعد أول قناة فضائية للمنتقبات، وبدأت بثها أول شهر رمضان، حالة من الجدل في الساحة الإعلامية، ما بين متحمسين للقناة، وآخرين يرون أنها تفتقد المصداقية مع المشاهد، حيث تفرض القناة أن يكون طاقم العمل بأكمله من منتجين ومخرجين ومراسلين ومقدمي برامج من النساء وكذلك الضيوف، ولا يجوز للرجال أو النساء غير المنتقبات العمل بها أو التدخل في سياستها العامة أو نوعية برامجها.

ومع بدء وانتهاء فعاليات دورة الألعاب الأولمبية «لندن 2012» خلال شهر رمضان، تراجعت التغطية الإعلامية لفعاليات الأولمبياد، وحجزت التغطية التلفزيونية لها مساحات صغيرة لا تقارن بالدراما على سبيل المثال، ولا تتناسب مع حجم الحدث رغم كونه عالميا ورغم المشاركة المصرية في الأولمبياد.

واتجه الإعلام المسموع إلى خاصية مضاعفة الأوقات المخصصة للدراما والبرامج والمواد الخفيفة والمنوعات، وحاول منافسة الفضائيات بسرعة الإيقاع وارتداء «حلة جديدة»، وقد نجحت الإذاعة المصرية في تحقيق «خبطة» إعلامية هذا العام، بأن يطل صوت رئيس البلاد الدكتور محمد مرسي عبر أثير إذاعة البرنامج العام (الرئيسية في مصر) على مواطنيه من خلال برنامج «الشعب يسأل والرئيس يجيب»، والذي يبث بشكل يومي طوال شهر رمضان بعد آذان المغرب، وهي المحاولة التي لاقت ردود فعل إيجابية بين كثير من المصريين، حيث تقوم فكرة البرنامج على إرسال المواطنين لأسئلة تعبر عن انشغالاتهم اليومية والقضايا السياسية والاجتماعية والخدمية التي تهم المواطنين، ويقوم الرئيس مرسي بالرد عليها.

أما الإعلام الإلكتروني فقد حاول ارتداء «الحلة الرمضانية» هو الآخر، وكان ملاحظا أن القنوات الفضائية قد دأبت على تحقيق قدر كبير من التواصل مع جمهورها من خلال مواقعها على شبكة الإنترنت أو من خلال موقع «يوتيوب» الذي يعد نافذة لإعادة المسلسلات والبرامج، كذلك تستغل الاستفتاءات الإلكترونية بين جمهور الإنترنت خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر» لقياس مدى رواج مواد إعلامية.

من جانبه يحلل الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، بعض ملامح الإعلام الرمضاني بقوله لـ«الشرق الأوسط» أن أول ملمح في هذا العام هو أن الإعلام برهن مجددا على فساد أسلوب التلقي لدى الجمهور، فصناعة الإعلام لها طرفان رئيسيان، الأول الصناع والثاني الجمهور، والاثنان اشتركا في تسفيه تلك الصناعة هذا العام.

ويشرح كلماته بالقول: «بعد الشهور الطويلة من التغطية المكثفة في الشأن السياسي التي حولت الجمهور إلى كائنات سياسية بالمعنى الشكلي للكلمة، فوجئ الجمهور بتحول الإعلام بمقدار مائة وثمانين درجة إلى إعلام ترفيهي يبتعد تماما عن تقديم حصص إعلامية ذات محتوى متوازن».

ويؤكد على كلامه بأن هناك أكثر من 62 مسلسلا دراميا وعشرات البرامج الترفيهية، أغلبها مسلسلات هزلية وبرامج «مقالب»، إلى جانب وجود حضور قوي واضح للبرامج التي تفتش في خصوصيات النجوم، وتخترق حياتهم الشخصية، عملت جميعها على إغراق الجمهور المتابع في مشاهدة ترفيهية أبعدتهم تماما عن متابعة التطورات السياسية المتلاحقة، ففي الوقت الذي تشكل الحكومة المصرية أو يقتل الجنود في حادث على الحدود مع غزة، كان الجمهور غارقا في متابعة المسلسلات. ويتابع: «فبين المسلسلات الهزلية وبرامج مقالب ضاع المحتوى الإخباري والتحليلي، كما ندرت الأعمال الترفيهية المدروسة والجادة، وهو ما يضعنا أمام إشكال مركب، وينطوي على (خطل) في الصناعة و(خطل) في التلقي».

وتابع: «برؤية اقتصادية هناك سؤال خطير جدا، فمجموع ما أنفق على الإنتاج الدرامي والبرامجي هذا العام لا يمكن بأي حال أن يعوضه السوق، وبالتالي تثور هنا تساؤلات، فهل سيتكبد الصناع والقنوات هذه الخسائر الفادحة، أم أن أموالا لا تستهدف الجدوى قد ضخت في هذا القطاع لأغراض غير صناعية بأهداف أخرى؟».

من الملامح الأخرى التي يتطرق لها الخبير الإعلامي أن الدراما الدينية والتاريخية ضخمة الإنتاج أو ذات الإنتاج المشترك، غابت للمرة الأولى مقارنة بسنوات سابقة عندما قدمت أعمال على غرار «ربيع قرطبة» و«الحجاج». كما أن الوجبات الدينية في رمضان لم تكن حاضرة بشكل ملموس هذا العام إلا في محاولات باهته على القنوات العامة، أما المحتوى الديني البرامجي في القنوات الدينية المتخصصة فقد تلون بألوان طائفية أحيانا، وهيمنت عليه المقاربات السياسية في أحيان أخرى.

ويلفت عبد العزيز إلى أن برامج الـ«توك شو» كانت تحاول من جانبها أن تلاحق أخبارا في غاية الأهمية على استحياء وبحس اعتذاري، وكأنها تعتذر للمشاهدين عن مقاطعة ميلهم الحاد إلى متابعة البرامج الترفيهية.

بعيدا عن الإعلام التلفزيوني، يشير عبد العزيز إلى أن الإعلام الإلكتروني في رمضان سحب إلى ذات المساحة الترفيهية، ولم يصل إلى درجة من الرشد تمكنه من صناعة إطار قضايا خاص به، حيث تم جره إلى ما تفيض به وسائل الإعلام التقليدية. أما الإذاعة فحاولت أن تستخدم تأثيراتها الوجدانية وأن تستمد إلهاما من تاريخها الكبير ولكنها اضطرت في النهاية إلى السير على نفس نمط الإنتاج الهزلي.

أما فيما يخص الصحف فيقول: «كانت الصحف أقل انجرارا إلى الحالة الترفيهية الهزلية التي سادت الدراما والبرامج، فبسبب طبيعتها ومحتوى الرأي والتحليل بها كانت أكثر تلبية لاحتياجات الجمهور».

الباحثة الإعلامية شيريهان المنيري، مدير وحدة الدراسات الإعلامية والمعلوماتية بالمركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، تقول: «قدم الموسم الرمضاني بخريطة تلفزيونية حافلة بالمسلسلات والبرامج وأيضا ببعض الملاحظات الإعلامية، والتي على رأسها ظاهرة إطلاق قنوات جديدة لقنوات قائمة بالفعل، بعد أن انتشرت فكرة القناة الموازية (+2) حتى تُوفر للمشاهد إعادة ما فاته على القناة الأساسية بعدها بساعة أو ساعتين، مما يجعل العرض مستمرا على مدار الـ24 ساعة يوميا».

وترى أن الدراما هي التي سيطرت على الساحة الفضائية والأرضية هذا العام، لكثرة عددها وتنوعها الدرامي بين الكوميدي والديني و«الأكشن»..، وأيضا تنوع أبطالها، بالإضافة إلى احتياج المشاهد إلى الخروج من أجواء السياسة التي تسيطر على الأجواء العامة على مدار أكثر من عام ونصف العام مُنذ قيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني).. تلك الأجواء التي لم تكن من طبيعة الشعب المصري تحملها كل تلك الفترة، وهو ما كان سببا رئيسيا لمتابعة هذا الكم الهائل من المسلسلات على الرغم من صعوبة، أو بمعنى أصح استحالة متابعتها جميعها في وقت واحد.

وتبين المنيري أن الكم الكبير من المسلسلات تسبب في ظاهرة «عدم المشاهدة المتكاملة» البعيدة عن المشاهدة الطبيعية أو المعتادة، حيثُ أصبح المشاهد يتبع مبدأ «المشاهدة المتقطعة»، بمعنى أنه يظل جالسا أمام التلفاز وفي يده سلاحه «الريموت كنترول» ليتجول بين القنوات، وهذا ما يفقد أغلب الأعمال الدرامية ثقلها ونجاحها الحقيقي، خاصة أن مساحة الإعلانات الكبيرة على بعض القنوات أصبحت تفرض هذه المشاهدة المتقطعة لجزء من حلقة، حتى تنتهي الإعلانات المذاعة أثناء حلقة من مسلسل آخر على قناة أخرى. وهذه ظاهرة أخرى سلبية واجهتها الفضائيات في شهر رمضان، التي تتمثل في طغيان المحتوى الإعلاني والدعائي بشكل ملحوظ على حساب المحتوى الإعلامي.

وبرأي الباحثة الإعلامية، فإنه ومع الأسف لم تستطع المسلسلات الدينية المنافسة في هذا المشهد الخضم، ولم تلاق نفس نسب المشاهدة والإعجاب لباقي الأنواع من المسلسلات، وتشير إلى أن مسلسل «عُمر» على الرغم من إصدار فتوى بتحريم مشاهدته، إلا أنه كان المسلسل الديني الوحيد الذي استطاع أن يجذب المشاهدين إليه وانتظاره لمتابعة حلقاته بلهفة، وعلى الرغم من اقتصار عرضه على بعض القنوات لندرته وعدم إذاعته بالكثافة التي تذاع بها المسلسلات الأخرى، إلا إنه استطاع أن يثبت نفسه على خريطة المسلسلات الرمضانية، وهو ما يعد ظاهرة تستحق النظر إليها.

عن ملامح الإعلام الرمضاني الأخرى، تقول المنيري: «البرامج الترفيهية والفنية هذا العام أغلبها لم ينجح من وجهة نظري، ومن نجح مع بداية عرضه بدأ نجمه في الخفوت بعد الشعور بالملل من تكرار وإعادة ما يحدث بها، وإدراك المشاهد أن ما انجذب إليه في البداية ما هو إلا وهم وسراب وأقرب إلى السفه أحيانا والسخافة في أحيان أخرى». وتتابع: «كما أنني لا أرى أي هدف أو حتى نوع من المرح في نوعية المقالب التي اعتمدت عليها بعض البرامج الترفيهية، أو في البرامج التي تأتي بأحد الفنانين لطرح أسئلة جريئة من المفترض أن يصدق المشاهد أسرارا يكشفها الضيف لمقدم البرنامج لأول مرة لمجرد نجاح المذيع أو المقدم فقط في الحصول على الإجابات».

من الملاحظات التي تلفت المنيري إليها كذلك في الإعلام الرمضاني هذا العام هو غياب أغلب برامج «التوك شو» التي تتناول القضايا السياسية والتحليل الإخباري للأحداث، وبرأيها: «كان لذلك الغياب أكبر الأثر في تحقيق حالة من الهدوء في الشارع المصري، خاصة مع انخراط الجميع في التعبد والالتزام بالمراسم الدينية المناسبة للشهر الكريم، أو مشاهدة الكم الهائل من البرامج والمسلسلات التي عرضت على مدار الشهر، مما يؤكد بالفعل التأثير الفعلي لوسائل الإعلام على الرأي العام بما يتعلق بالحياة السياسية».

يتقاطع مع هذه الرؤى الإعلامية ما يطرحه الجمهور المتلقي نفسه من آراء وتقييم للإعلام الرمضاني ومدى ما حققه إليه من إشباع، فتقول العشرينية شيرين فرغلي: «أداء وسائل الإعلام هذا العام في رأيي كان سيئا للغاية، ووقعت في كثير من السقطات التي أساءت إليها، فيكفي أنه وتحقيقا للربح استمرت الفضائيات في عرض المسلسلات رغم ما وقع من أحداث سياسية، فمع وقوع أحداث رفح لم تحترم الفضائيات الجمهور ولم تحترم نفسها بالتنويه عن الخبر، بل تجاهلته تماما واستمرت في عرض المسلسلات وكأن شيئا لم يحدث، وهو ما جعل كثيرا منا لم يدرك ما حدث إلا في اليوم التالي، حتى عندما أدركت الفضائيات أنه يجب أن يكون هناك حالة حداد اكتفت بوضع شارة سوداء على الشاشة واستمرت في عرض المسلسلات والبرامج الترفيهية، وبالتالي لم يكن هناك احترام للجمهور، ولم يتحقق الإشباع الذي أحتاج إليه كمشاهدة».

محمد والي (37 عاما) يرى أن الجمهور هو الذي يقع بإرادته فريسة للصراع بين القنوات الفضائية، فالجمهور هو من أضاع المعنى الحقيقي والهدف الأسمى لشهر رمضان.. شهر الصيام والعبادة والتقرب إلى الله، واختزله في الدراما، فأصبحت الصورة الذهنية لدى كثيرين هو أن شهر رمضان هو شهر المسلسلات، والتي تحتار أزرار أجهزة التحكم «الريموت كنترول» في التنقل بينها لكثرة عددها، مبينا أنه اختار هذا العام ألا يشاهد أيا منها لكي يتفرغ للاجتهاد والطاعة في شهر رمضان، لافتا إلى وجود حملات إلكترونية عدة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي سبقت الشهر الكريم هدفت لمقاطعة المسلسلات ولمواجهة الحملة الشرسة ضد شهر رمضان المبارك.

بينما ترى مي محمد، طالبة جامعية، أن الإعلام الرمضاني من وجهة نظرها في هذه السنة، لم يكن اسما على مسمى، فلم يكن رمضانيا على الإطلاق، فقد كان مليئا بالمحتوى الهزلي أمام تراجع ملحوظ لكل ما هو ديني، سواء برامج أو مسلسلات، لذا فهي تطلب من صناع الإعلام وأصحاب الفضائيات إعادة النظر في المادة الترفيهية التي تقدم للصائمين بما يتناسب مع روحانية الشهر الكريم.

شريف ناجي، ويعمل مسؤول علاقات عامة، يرى أن الإعلام الرمضاني هذا العام اتسم بنفس السمات المعتادة في كل السنوات السابقة، فالخريطة العامة لوسائل الإعلام المختلفة تعاد صياغتها خلال شهر رمضان منذ سنوات، حتى قبل أن يتسع البث الفضائي بهذا الشكل الكبير، وغالبا ما تكون هناك جرعات متزايدة من البرامج الدينية وبرامج الطهي والمسلسلات والبرامج الترفيهية، دون وجود أدني تفكير في ابتكار أفكار جديدة، أو منع ما يسئ للمشاهد خلال الصيام، أو محاولة البحث في الإشباعات الحقيقية التي يحتاجها المتلقي في شهر رمضان.