الإبداع في عالم الصحافة.. وتسول الدعم

في ظل عجز رأس المال والمعلنين والقراء

TT

إن الصحافة تعاني من عجز في أشياء كثيرة؛ رأس المال، والمعلنين، وفي بعض الحالات القراء، ولكن أثمن سلعة لديها بالتأكيد الإبداع، فهذه الصناعة تكافح مرة بعد مرة للخروج من المسار الذي تسير فيه ويقودها إلى الهلاك في المقام الأول. فلننظر مثلا إلى مصير الموقع الإلكتروني «هوميسايد ووتش»، فعندما انبثق هذا الموقع من العدم بطريقة جديدة لمتابعة كل جريمة قتل تقع في واشنطن، كان يبدو من المرجح أن مؤسسة إخبارية كبرى سوف تختطفه أو أن الجمعيات الخيرية سوف تتكالب لإغداق الأموال عليه. إلا أن الأمور لم تسر على ذلك النحو، فبعد عامين من انطلاقه، توقف الموقع عن العمل ليجد مؤسساه، كريس ولورا أميكو، نفسيهما يتسولان على موقع «كيك ستارتر»، بحثا عن المال اللازم لتسيير الموقع.

وفي قلب موقع «هوميسايد ووتش» يظهر البيان الخاص بمهمته: «تسجيل كل حالة وفاة. تذكر كل ضحية. متابعة كل قضية». وهذا الموقع شيء متميز يستحق النظر إليه، فهو نصف قاعدة بيانات ونصف موقع إخباري، كما أنه يعمل أيضا كنوع من التخليد الرقمي لذكرى ضحايا القتل في واشنطن، حيث يتم نشر صورهم ومتابعة قضيتهم، اعترافا بأن وفاتهم حدث له معنى في حياة المدينة. ولا يغطي أي من صحيفة «واشنطن بوست» أو المجلة الأسبوعية «سيتي بيبر» جرائم القتل بصورة شاملة، بل إنه لا توجد أي صحيفة كبرى تفعل ذلك، فهو عمل صعب، ولكنه مهم لن تتكيف معه النماذج التجارية الحديثة، كما أن موقع «هوميسايد ووتش» يصل إلى مجتمع محلي لا يحظى بالاهتمام الكافي، نظرا لأن معظم الضحايا هم من السود.

ولكن على الرغم من حصول الموقع على جميع أنواع الاهتمام في الصحافة وقفزه من 500 مشاهدة لصفحاته في الشهر إلى أكثر من 300 ألف مشاهدة، فقد ظل عملا يدويا لفريق مكون من زوج وزوجته. وتقول لورا أميكو: «لقد بلغنا نقطة تحول منذ نحو 9 أشهر أظن أن الجميع صاروا عندها يفترضون أننا نحصل على تمويل بسبب الضجة والتغطية، لكن حقيقة الأمر هي أن أحدا لا يموله سوانا. نحن نمتلك هذه الشهرة الواسعة، لكن جميع الأبواب التي طرقناها كانت مغلقة أمامنا».

وقد تقدم الزوجان 3 مرات بطلب للحصول على تمويل من مسابقة «تحدي مؤسسة نايت في الأخبار»، كما حاولا أيضا الحصول على منح من «مؤسسة روبرت ماكورميك الخيرية» ومشروع «سيدات الأعمال العاملات في الإعلام الجديد»، التابع لمؤسسة «معمل جيفرسون» وغير ذلك الكثير، بما في ذلك بعض المؤسسات غير الصحافية، وفي كل مرة كانا يعودان خاويي الوفاض. ويمكنك إلقاء اللوم في هذا على الموضوع - فجرائم القتل لا تبدو في نظر الجميع فكرة مغرية لموضوع موقع إلكتروني - غير أن كريس أميكو أوضح أن الصحف منذ وقت طويل تعتمد على أخبار الجرائم من أجل جذب الكثير من القراء، وبالتالي فإن الموقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهو ليس بالمغرق في المحلية، التي كانت لفترة البدعة السائدة، ولا هو بالمفرط في التحقيقات، التي كثيرا ما تجذب التمويل، مما جعله لا يتناسب جيدا مع الفرص الضئيلة المتاحة لدى المؤسسات الخيرية. وكما هو الحال مع الضحايا الذين يغطيهم، فإن موقع «هوميسايد ووتش» انتهى به المطاف إلى مأزق لا مخرج له.

وقد فكرت في موقع «هوميسايد ووتش» وأنا أقرأ أحدث مقالة كتبها ألان ماتر عن المبالغ الكبيرة التي تذهب إلى مؤسستين تجريبيتين صغيرتين تسميان «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز». وفي شهر مايو (أيار) الماضي، قدمت «مؤسسة فورد الخيرية» إلى صحيفة «تايمز» مليون دولار على مدار عامين لتعيين 5 مراسلين صحافيين من أجل تغطية المشكلات العرقية ومشكلات السجون، على الرغم من أن الصحيفة مملوكة لشركة «تريبيون كومباني»، التي ربما تكون قد أشهرت إفلاسها حقا، لكنها كدست سيولة نقدية تقترب من 4.2 مليار دولار خلال 3 سنوات ونصف قضتها في محكمة التفليسات. وفي يوليو (تموز) الماضي، منحت المؤسسة صحيفة «واشنطن بوست» 500 ألف دولار، من أجل عملية الإبلاغ عن المساءلة الحكومية.

وهذه الخطوات على الرغم من أنها جديرة بالثناء من حيث النية تخلق خليطا غريبا؛ مؤسسة إخبارية تدير شركة، ولكن لديها سرب من المراسلين الصحافيين الذين يتم تمويلهم في ظل نموذج مختلف، ويعملون كما هو مفترض بموجب قواعد مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن عمليات الإبلاغ التي تمولها المؤسسة يجب أن تكون مجانية أمام الجميع ومتاحة لإعادة الاستعمال من دون حقوق نشر، وهو شيء شاذ في صحيفة «تايمز»، التي يوجد لديها نظام الدفع مقابل المشاهدة.

وقد أكد ألفريد أيرونسايد، مدير الاتصالات في «مؤسسة فورد الخيرية»، أنه لا يوجد شيء غير طبيعي في مؤسسة تعمل مع مشروع يهدف إلى الربح وأن هذه تعد ممارسة راسخة في القوانين الضريبية الحالية، كما عرض قائمة بالمنح التي قدمت إلى مؤسسات مثل «برو بابليكا» و«شيكاغو ريبورتر» و«مركز الدمج العام» و«غلوبال بوست»، قائلا: «النبأ الجيد هو أننا نمول جميع أنواع المشاريع في مجال الصحافة. منهجنا في هذا المشهد الإعلامي الآخذ في التطور هو التفكير في كيفية دعم صحافة هادفة وقابلة للاستدامة تصل إلى قطاع عريض من القراء».

وإذا نحينا جانبا مسألة ما إذا كان ينبغي أن تمول المؤسسات الخيرية مؤسسات تهدف إلى الربح أم لا، فمن الجدير بالذكر أن الكثير من العمليات الصحافية الواعدة تكسرت على صخرة الضوابط التنظيمية التي تفرضها «دائرة الإيرادات الداخلية»، بمعاييرها الغريبة الخاصة بتحديد ما إذا كانت المؤسسة مؤهلة، لأن تكون مؤسسة غير هادفة للربح (وكما يقول ماتر، فإن «دائرة الإيرادات الداخلية» ترى أن الصحافة لا تستوفي معيار النشاط غير الهادف للربح، ولكن لعلها كانت فقط تراقب ميزانية قطاع الصحافة في الفترة الأخيرة).

كذلك هناك سؤال أكثر شمولا: ألا ينبغي أن يذهب التمويل المخصص للإبداع الصحافي إلى جهات مثل «هوميسايد ووتش»، التي تسهم في تعافي الاقتصاد ولا يستخدم في إعادة إحياء شجرة الإعلام الضخمة الميتة؟ أنا أؤيد بشدة تقوية وضع الصحافة، لكن المعضلة الوجودية التي يواجهها الإعلام سوف تتطلب حلولا جديدة، لا وقف التمويل لأسباب تتعلق بإرث الماضي (وأنا أكتب هذه الكلمات وأنا أعلم أنني ربما أتراجع عنها يوما ما، وأتساءل عما إذا كنت سأنتهج نهجا انتقائيا فيما يتعلق بمصدر الأموال إن كنت أنا الذي يحصل على التمويل).

وليست كل الأنباء سيئة بالنسبة لموقع «هوميسايد ووتش»، فمن المحتمل أن يصل الموقع إلى المبلغ المستهدف وهو 40 ألف دولار قبل الموعد النهائي وهو يوم الخميس المقبل، وسوف يتم استخدام هذه الأموال في تدريب دارسي الصحافة على استخدام المنبر الإعلامي والحفاظ على استمرارية مهمته (وفي مساء يوم الأحد الماضي، بعد نشر هذا العمود على شبكة الإنترنت، وصل موقع «هوميسايد ووتش» إلى المبلغ المستهدف تجميعه).

ومن الأسباب التي جعلت هذا الموقع يمر بهذه الأزمة أن لورا أميكو فازت بمنحة «زمالة نيومان بيركمان» من جامعة هارفارد للعام الدراسي الحالي، وسوف يصحبها زوجها كمرافق. وقد كانت لورا (30 عاما)، وهي مراسلة حوادث سابقة في صحيفة «برس ديمقراط» بسانتا روزا في ولاية كاليفورنيا، هي التي قامت بالتغطية الصحافية لكل جريمة وقعت في واشنطن على مدى العامين الماضيين، حيث كانت تعمل بدوام كامل وكأنها جيش مكون من جندي واحد (وقد كرمتها صحيفة «نيويورك تايمز»، التي كانت تمتلك صحيفة «برس ديمقراط» آنذاك، تقديرا لعملها في تلك الصحيفة). أما كريس (31 عاما)، وهو صحافي ومطور مواقع كان يعمل لدى موقع «بي بي إس نيوز أور» وإذاعة «إن بي آر»، فكان يعمل أثناء الليل وفي العطلات الأسبوعية من أجل تجميع كل عمله الصحافي في قاعدة بيانات يمكن البحث فيها.

وعندما تحدثت معهما هاتفيا من بوسطن، أسعدهما أن يخبراني بأنهما منحا ترخيص البرمجية التي يمتلكانها لأول مرة إلى موقع «ترينتونيان»، المملوك لشركة «جورنال ريجستر». وبعد أن خاصمهما الحظ مع المؤسسات الكبرى، تقول لورا: «كان ينبغي أن نستعين بشخص ثالث للعمل معنا على هذه الأمور».

والمثير للسخرية هو أن الزوجين قررا أن يسلكا طريق تحقيق الأرباح، حيث يأملان في أن تعرف برمجيتهما طريقها إلى السوق، وأن توافق إحدى كليات الصحافة على مساعدتهما في استكمال عمل «هوميسايد ووتش». وفي هذه الأثناء تستمر الجرائم، إذ تقول لورا إن واشنطن شهدت 3 جرائم قتل و5 حالات اعتقال منذ توقف موقع «هوميسايد ووتش» عن المراقبة في منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي.

* خدمة «نيويورك تايمز»