برامج تلفزيون الواقع.. هل تجاوزت الخطوط الحمراء؟

توقعات ببث 300 برنامج جديد على شاشات العالم مطلع 2013

TT

منذ انطلاقها في عام 2000، تسببت برامج الواقع في انتحار أكثر من 20 مشاركا في مختلف أنحاء العالم. الأرقام المخيفة التي كشف عنها تحقيق الصحافي «غريغوري هيرو» على قناة «كنال+» الفرنسية، فتحت باب النقاش مجددا في موضوع أخطار برامج تلفزيون الواقع على المشاركين، لا سيما أن وجود هذه البرامج على القنوات الخاصة في تزايد مستمر، بحيث تم منذ العشرية الأخيرة إنتاج أكثر من 500 برنامج في مختلف أرجاء العالم، معظمها باتجاه جمهور الشباب وهو رقم مؤهل للارتفاع بحسب صحيفة «لوفيغارو» التي كشفت في عدد 5 سبتمبر (أيلول) 2012 أن 300 برنامج واقع جديد سيبث على شاشات العالم مع مطلع 2013.

التحقيق الذي بثته قناة «كنال+» أشار بأصابع الاتهام إلى شركات الإنتاج التي تحصد الملايين من وراء هذه المشاريع التلفزيونية دون أن تهتم بحماية المشاركين ومتابعة وضعيتهم النفسية بعد توقف عرض هذه البرامج.

الجدل بدأ في فرنسا بعد انتحار الشاب فرانسوا كزايفي (22 سنة) على خلفية مشاركته في برنامج «لوفت ستوري» «كاري في آي بي». والدة الشاب الفرنسي رفعت دعوى قضائية ضد شركة «أندمول فرانس»، المنتجة للبرنامجين، معتبرة أنها استغلت شخصية ابنها لإنجاح البرنامج، دون أن تهتم به أو تراعي تدهور حالته النفسية بسبب توقف البرنامج الأخير فجأة ودون سابق إنذار. علما بأن حادثة انتحار الشاب فرانسوا كزايفي، ليست معزولة، فقبله انتحر الشاب جان بيار (32 سنة) بعد أن شارك مع صديقه «حكيم» في برنامج الواقع «اخدعني إذ استطعت». كما نقلت الصحافة الفرنسية أخبارا عن عدة محاولات انتحار قام بها شباب شاركوا في مثل هذه البرامج، أشهرها 4 محاولات انتحار قامت بها الشابة «لوأنا» الفائزة في برنامج «لوفت ستوري» عام 2000، ودخول كثير منهم في حالات اكتئاب شديدة بعد توقف البرامج التي كانوا يشاركون فيها.

آلان مونيي طبيب نفسي عمل لدى عدة شركات إنتاج كمستشار، شرح أسباب هذه الظاهرة التي تصيب بعض المشاركين: «تخيلوا أن يتم اختياركم للمشاركة في برنامج يشاهده الملايين وأن يلاحقكم المعجبون في كل مكان، ويتم الاهتمام بكم والتعامل معكم وكأنكم نجم من بين النجوم لمدة أسابيع، ثم بين ليلة وضحاها، يتوقف جوالكم عن الرنين، وتعودون لحياتكم الطبيعية وكأن شيئا لم يكن: هذا الهبوط القاسي المفاجئ يسبب لكثير من المشاركين الاكتئاب الشديد بعضهم لا يتحمله ولا يشفى منه أبدا».

أما «سيبستيان بوهلر» الصحافي المختص في شؤون الإعلام السمعي البصري فهو يحمل بعض برامج الواقع المسؤولية في انتشار هذه الظاهرة لا سيما تلك التي تتعمد السخرية من بعض المشاركين أو إهانتهم بإبراز عيوبهم ونقاط ضعفهم وعقدهم لتحقيق نسب مشاهدة عالية. كمسابقات الغناء التي تخصص بعض فقراتها للسخرية من بعض المرشحين الفاشلين. عواقب هذه الأساليب قد تصبح وخيمة على الأشخاص الواهنين نفسيا، إلى درجة أنهم ينغلقون على أنفسهم ويصبحون عاجزين على مواجهة الآخرين لإحساسهم بالذل والعار.

يقول فرانسوا غوست الباحث في علوم الإعلام والاتصال وفي جامعة سوربون الجديدة، «يجب التمييز بين نوعين من برامج الواقع: تلك التي لا تشكل خطرا مباشرا على المشاركين، لكنها سطحية وغبية وتأثيرها المعنوي والأخلاقي سلبي على جمهور المراهقين والشباب، بحيث إنها تزرع فيهم قيما متعارضة تماما مع ما تعلموه في مجتمعاتهم كقيم العمل والاجتهاد والصبر، كمسابقات الغناء والرقص التي توهمهم بأن الوصول للنجاح والشهرة ممكن دون جهد. وبرامج أخرى هي أكثر خطورة خاصة على المشاركين المرهفين لأنها تجعلهم فجأة عرضة للتشهير أو السخرية أو الازدراء وتقلب حياتهم رأسا على عقب».

أما ديفيد أبيكار الإعلامي المختص فهو يرى أن الخطورة في هذه البرامج أنها لا تلعب إلا على وتر واحد هو «التسلل لحميمية الناس» فهو محركها الوحيد، وسواء كان البرنامج يعرض المشاكل الجنسية لزوجين أو اللحظات الأخيرة لشابة مصابة بالسرطان، فإننا هنا في أعلى درجات الاستعراض والتسلل لحميمية الناس. ما تريده هذه البرامج هو تحقيق نسب مشاهدة عالية وفقط ولذا فهي لن تتورع في اجتياز الخطوط الحمراء.

للدفاع عن نفسها، تؤكد شركات الإنتاج أنها لم تهمل أبدا هذا الجانب وهي لا تدخل في مشروع إلا إذا حصلت على موافقة جميع الأطراف. شركة «أندمول» مثلا تستعين بـ«ميثاق للأخلاقيات» حررته بمعية محامين ومستشارين، تلتزم فيه بعدم التحريض على العنف، أو العنصرية ونبذ مشاهد الجنس وحماية الحياة الخاصة للمشاركين. وهي تخصص لكل برنامج واقع طبيبين نفسيين يقومان بفحص المترشحين والتحادث معهم للتحري عن وضعيتهم النفسية، مع إشراكهم في رفض أو قبول مشارك ما. علما بأن مثل هذه البرامج لم تدخل فرنسا إلا مؤخرا في حين سبقتها دول أخرى كالولايات المتحدة وبريطانيا التي شرعت في بث مثل هذه البرامج منذ السبعينات، وهي مراقبة عن كثب من طرف المجلس الأعلى للسمعي البصري (سي إس آي) مما يجعلها مختلفة عن برامج في غاية الجرأة والضحالة كالبرنامجين الأميركيين: «ساكس أنسبكتور» أو «آي وانت فاموز فيس».

المشهد التلفزيوني الفرنسي يضم اليوم أكثر من 15 برنامجا أهمها «سوكريت ستوري»، «كولا هونتا»، «لأمور إي دون لوبري»، «بكين إكسبرس».

وقد حرص المنتجون على ترك انطباع جيد وتهميش مسؤولية برامج الواقع في حوادث الانتحار قد تفسر بالمردود المادي المهم لهذه البرامج، فهي بمثابة البقرة الحلوب التي تدر على القنوات الخاصة أرباحا طائلة، كما تساهم قي رفع نسب المشاهدة بشكل كبير: برنامج «كولا هونتا» مثلا (نظير برنامج سورفايفر البريطاني) حقق لقناة «تي إف1» أكثر من 54 مليون يورو من الأرباح لعام 2011، الحلقة الأولى التي بثت في شهر سبتمبر (أيلول) شاهدها ما لا يقل عن 8 ملايين متفرج، أما البرنامج البريطاني «ستيكتلي كوم دانسينغ» الذي بيع في أكثر من 38 بلدا، فقد استحوذ لحظة إذاعته على 49 في المائة من نسب المشاهدة. علما بأن الإنترنت قد شجع على الإقبال على مثل هذه البرامج.

برنامج «بريتنز جوت تالنت» الذي ظهرت فيه المغنية سوزان بويل في 2009 شاهده 120 مليون متفرج على الشبكة وهو رقم قياسي لم يحققه أي شريط فيديو على «يوتيوب». القنوات التي تذيع هذه البرامج لا تستفيد فقط من عائدات الإعلانات بل أيضا من عائدات رسائل الجوال (الإس إم إس) التي يبعث بها الجمهور المشارك، إضافة لعائدات المنتجات المشتقة. قناة «إم 6» الفرنسية مثلا كشفت أن 45 في المائة من أرباحها تأتيها من تسويق المنتجات المشتقة لبرامج الواقع (دفيدي، ألعاب، حقوق النشر والبث، وغيرها).

عملية مربحة للقنوات الخاصة التي لا تتحمل لإنتاج هذه البرامج تكاليف باهظة، ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلا تصل تكلفة برنامج واقع نحو 750 ألف دولار مقابل 3 ملايين لمسلسل تلفزيوني، في حين تكون نسب مشاهدة برامج الواقع في الغالب أعلى بكثير من نسب مشاهدة المسلسلات.