«بي بي سي».. أزمات تأتي بقوانين ثم إخفاقات

استقالة المدير العام بعد 54 يوما من شغله الوظيفة.. والتبعات مستمرة

«بي بي سي» .. والبحث عن أنظمة تتحمل المسؤولية نيابة عن العاملين فيها
TT

في عام 2004، منيت «بي بي سي» بأزمة تتعلق بالمعايير الصحافية، التي أدت إلى جلسات استماع برلمانية وإلى كيل اتهامات واستقالة اثنين من المسؤولين. وفي إطار تعهدها بالتغيير، سنت الشركة إجراءات بيروقراطية مفصلة وضعت مسؤولية تميل بدرجة أكبر للطابع الرسمي تتعلق باتخاذ القرارات الحساسة في أيدي مديرين فرديين، ولكن في تسلسلات هرمية صارمة.

قامت الشركة بتعيين نائب مدير عام مسؤول عن العمليات الإخبارية، وأنشأت «مجلس صحافة» لمراقبة السياسة التحريرية، وأصدرت عدة توجيهات جديدة تتعلق بالإجراءات الصحافية، وأولت تركيزا متزايدا إلى «مطابقة المواصفات»؛ نظام يلزم من خلاله المديرون بوضع نماذج صعب التعامل معها، تسبب عشرات من أشكال المشكلات المحتملة، من لغة سيئة إلى «محتوى مزعج» مثل طرد الأرواح الشريرة أو صور لعمليات ذبح، في كل برنامج يتم تسجيله لبثه.

قد يتبع ذلك المزيد من الكوارث - يمكن قياس تاريخ محطة «بي بي سي» في سياق الكوارث - ومع كل كارثة جديدة، أضاف فريق الإدارة تحت قيادة مارك طومسون، المدير العام في الفترة من 2004 حتى منتصف سبتمبر (أيلول) 2012، المزيد من التوجيهات وأولى مزيدا من التركيز لملء الاستمارات وإجراءات الأمان في البرامج الإخبارية والترفيهية. أصبحت مؤسسة معروفة بالأساس ببيروقراطيتها، صعبة المراس (التوجيهات المتعلقة بالتحرير ممتدة الآن في 215 صفحة).

غير أن هذه الهياكل هي التي يبدو أنها قد تسببت في فشل «بي بي سي» في أحدث فضيحة، التي قام فيها قسمها الإخباري في البداية بإلغاء مقطع عن اعتداء جسدي على طفل كان من المفترض أن تبثه، ثم بثت لاحقا مقطعا كان من المفترض أن تقوم بإلغائه. في المثال الأول، يبدو أن الأفراد المشرفين على البرنامج توخوا الحذر الشديد، بحيث ترك كبار المديرين في حالة من عدم الوعي بوجوده، وفي المرة الثانية، ربما يكون المديرون قد اعتمدوا بقدر مبالغ فيه على إجراءات صارمة على حساب مبادئ صحافية رئيسية.

وقال تيم لوكهيرست، أستاذ الصحافة بجامعة كينت، الذي عمل بشبكة «بي بي سي» لمدة 10 سنوات: «لقد عانوا من تبعات سيئة. أرادوا أنظمة يمكن أن تتحمل المسؤولية نيابة عن الأفراد».

كان للفضيحة الأخيرة عدد من النتائج المباشرة. استقال خليفة طومسون في منصب المدير العام، جورج إنتويستل، بعد 54 يوما من شغله الوظيفة. (يشغل طومسون الآن منصب الرئيس والمدير التنفيذي لشركة «نيويورك تايمز»).

تم تعيين محققين خارجيين لاستجواب موظفي «بي بي سي» خلال ثلاثة استجوابات مختلفة على الأقل. وقد سعى عدد من المديرين من المستويين المنخفض والمتوسط لترك وظائفهم بشكل مؤقت، وفي مواجهة إجراء تأديبي محتمل، قامت بتعيين محامين. ومجددا، تتحدث شبكة «بي بي سي» عن إعادة تنظيم هياكل القيادة.

عبر متحدث باسمه، رفض إنتويستل التعليق على الفضيحة أو على ممارسات إدارة «بي بي سي»، قائلا إنه لن «يجري أي مقابلات إعلامية في الوقت الراهن». ورفض طومسون أيضا التعليق».

غير أن الخليفة المؤقت لإنتويستل، تيم ديفي، الذي قد شغل مسبقا منصب مدير «بي بي سي أوديو آند ميوزيك»، أقر بأنه يجب القيام بتغييرات. وقال ديفي في أول أسبوع من شغله الوظيفة: «إذا كان العامة سوف يحصلون على المواد الصحافية التي يثقون بها من محطة (بي بي سي)، فإنني يجب أن أكون، بصفتي مديرا عاما، شديد الوضوح بشأن من يدير العملية الإخبارية، ويضمن أن الصحافة التي نصدرها تحظى بالقبول». وقال إن أول شيء يجب القيام به كان هو «اتخاذ إجراء وبناء الثقة عن طريق وضع تسلسل قيادة واضح».

تعتبر هذه فضيحة معقدة مؤلفة من جزأين. كان الجزء الأول متعلقا بقرار «بي بي سي» في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعدم بث تقرير يقول إن جيمي سافيل، الذي عمل مذيعا بمحطة «بي بي سي» منذ فترة طويلة، ارتكب عدة جرائم تحرش جنسي بأطفال، وبدلا من ذلك بث كثيرا من المواد الإعلامية المتوهجة التي يتم فيها الثناء على مسيرة حياته المهنية. وتمثل الجزء الثاني في قرارها الصادر يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني) باتهام عضو في حكومة مارغريت ثاتشر بأن له ميولا جنسية نحو الأطفال، وهو اتهام ثبت احتمال كونه خاطئا.

غير أن كليهما كشف عن المشكلات الكامنة في نظام يبدو أنه قد منع المدير العام لشبكة «بي بي سي» - الذي يشغل أيضا منصب رئيس تحريرها – من الوصول إلى معلومات عن قضايا رئيسية مثل البرامج المقرر بثها، التي يحتمل أن تثير القلاقل. ويبدو أن القرارين جاءا نتيجة لنظام فشل عمليا، حتى لو كان قد تم اتباعه بشكل صحيح نظريا». قال بن برادشو، مراسل سابق بمحطة «بي بي سي» وعضو حالي بالبرلمان من حزب العمال، إن فضيحة عام 2004، التي تم إطلاقها بنشر أخبار عن استخبارات بريطانية تتعلق بأسلحة دمار شامل عراقية، قد أسفرت عن نظام يقوم على «الخوف والقلق». وأضاف أن محطة «بي بي سي» أصبحت «أكثر بيروقراطية وأصبح بها مزيد من التدرجات الوظيفية، التي أدت إلى تفاقم مشكلة تمرير المسؤولية، ولم يعد أحد قادرا على اتخاذ قرار».

ومتحدثا عن بث يوم 2 نوفمبر، قال رئيس مجلس إدارة «بي بي سي تراست»، كريس باتين، في مقابلة تلفزيونية إن الخبر مر عبر «كل مستوى مقيت من نظام الإدارة البيروقراطي لـ(بي بي سي). وبإجراءات فحص قانونية» من دون أن يثير أي شخص اعتراضات جادة.

وقال موظفون لديهم معلومات عن سلسلة الأحداث إن عددا هائلا من الأفراد كانوا على معرفة مسبقة بأن البث تضمن اتهاما يتعلق بسياسي بارز من حزب المحافظين، وقد تنبأ مستخدمون على موقع «تويتر» بهوية السياسي قبل بث المقطع (لم يشر المقطع إلى اسمه، لكن بدت هويته واضحة في السياق).

لكن نظرا لأن هذا المقطع قد تخطى الاختبارات القانونية واختبارات مطابقة المواصفات الضرورية، فقد بدا مناسبا - حتى على الرغم من أنه يبدو أنه لم يطرح أحد تساؤلات تتعلق بالمعايير، مثل ما إذا كان المدعي صادقا أو ما إذا كانت قد توفرت الفرصة للمتهم للرد على الاتهامات الموجهة إليه».

تمت الإشارة إلى المقطع، الذي أعده برنامج «نيوز نايت»، الذي يبث على «بي بي سي»، من قبل محرر «نيوز نايت» في الاجتماع المعتاد الخاص بأخبار الساعة الثالثة عصرا على مستوى شبكة «بي بي سي»، في اليوم الذي كان من المقرر أن يذاع فيه، حسبما ذكر صحافي رفيع المستوى في «بي بي سي» مطلع على تفاصيل الاجتماع.

«لم يطرح أحد كمّا مبالغا فيه من الأسئلة»، هكذا تحدث الصحافي، مشترطا عدم الكشف عن هويته نظرا لأنه ليس مصرحا للموظفين في «بي بي سي» الحديث إلى مراسلين خارجيين من دون أخذ تصريح من «مديريهم المباشرين» أو مشرفيهم.

قال الصحافي: «لقد خضع للإجراءات القانونية المطلوبة وأصبح لدى الجميع انطباع بأن الأمور تحت السيطرة».

في واقع الأمر، اجتاز الخبر اختبار المطابقة للمواصفات. غير أن «نيوز نايت» كان أشبه بفريق هوكي يكافح للفوز ولديه لاعبون رئيسيون في منطقة الجزاء. كان بعض أعضاء فريق العمل رفيعي المستوى في الولايات المتحدة يقومون بتغطية الانتخابات الرئاسية. لقد «استقال» محرر «نيوز نايت»، حسبما ذكرت «بي بي سي»، في أعقاب انهيار سافيل، وقد ترك نائب رئيس التحرير الشركة مؤخرا. أدى هذا إلى ترك نائب رئيس التحرير الجديد متحملا للمسؤولية بشكل مؤقت.

في الوقت نفسه، نأى رئيس «بي بي سي» ونائب رئيس قطاع الأخبار بنفسيهما عن الأخبار المتعلقة بالإساءات الجسدية بسبب مشاركتهما في قضية سافيل. وكانت شخصية إخبارية أخرى بارزة في إجازة في أميركا الجنوبية.

من ثم، فإن من هم في سلسلة القيادة الجديدة - بمن فيهم مراقب «راديو فايف لايف»، الذي أوكل إليه إنتويستل مسؤولية الأخبار المتعلقة بالإساءات الجسدية للأطفال، ومدير «بي بي سي نورثرن أيرلاند»، الذي كان من المفترض أن ينقل إليه مراقب «راديو فايف» أخبارا - لم يكن لديهم خبرة كبيرة بأسلوب عمل «نيوز نايت». وعلى الرغم من أن مدير «نورثرن أيرلاند» قد خدم جنبا إلى جنب مع إنتويستل في مجلس إدارة «بي بي سي»، فإنه لم يشر إلى تقرير «نيوزنايت» أمام المدير العام، بحسب صحافيين في «بي بي سي».

وقال مذيع في «بي بي سي نيوز»، تحدث بالمثل مشترطا عدم الكشف عن هويته: «كانت الفكرة هي أننا لا نرغب في إقحام جورج في هذا، نظرا لأنه ليس من المفترض أن يقحم نفسه في أي تهمة تتعلق بإساءة جسدية لأطفال». وأضاف: «لكنهم كان يجب أن يخبروه على أي حال».

ويقول صحافيون في «بي بي سي» إن الأفراد على طول سلسلة القيادة كانوا أكثر اهتماما بفحص الصناديق الصحيحة من اهتمامهم بطرح الأسئلة الصحيحة. قارن أحدهم ذلك بما حدث لطائرة ارتفعت على نحو خرج عن نطاق السيطرة حيث بحث الطيار، بدلا من تشغيل أجهزة التحكم، عن دليل تعليمات وبدأ يراجع الخطوات.

لكن في محطة «بي بي سي»، لا يوجد خيار سوى محاولة الوصول إلى دليل التعليمات، بحسب موظفين. ربما تكون العملية الفعلية مرهقة إلى حد ما، لكن كثيرا من الناس يشعرون بنوع من الضغط، إن لم يتم استيفاء أي من هذه الأشياء أو إتمامها، كان ثمة إحساس حقيقي بأنك يمكن أن تقال من وظيفتك لهذا السبب، هكذا تحدث سيان كيفيل، وهو مدير سابق لـ«بي بي سي وورلد نيوز».

على نحو غريب بالدرجة الكافية، ربما يكون إصلاح جرى في عام 2004؛ تعيين نائب مدير عام يقوم بمسؤولية الأخبار، قد أدى لتجنب بعض المشكلات. لقد كان ينظر للشخص الذي يقوم بهذه المهمة، وهو مارك بايفورد، من قبل كثيرين في أقسام الأخبار بوصفه فضوليا على نحو يثير الغضب، ولكنه في الوقت نفسه يلعب دورا غاية في الفعالية. كما أنه، على حد قول موظفين، أبقى طومسون على علم بالجوانب وثيقة الصلة بالأخبار التي كان بحاجة للإلمام بها.

«كان شعاره هو (سيطر، سيطر، سيطر)»، هذا ما قاله إد ويليامز، وهو مدير اتصالات سابق في «بي بي سي» ومستشار لطومسون، متحدثا عن بايفورد. غير أن بايفورد أصبح بمثابة مصدر ضغط كبير آخر على «بي بي سي»: «الانتقاد الموجه إليها، الذي مفاده أنها متخمة بكمّ هائل من مستويات الإدارة».

ومتعهدا بخفض رواتب المسؤولين التنفيذيين بنسبة 25 في المائة، ألغى طومسون وظيفة بايفور في يونيو (حزيران) 2011، وربما قضى معها بالتبعية على العلاقة أوثق علاقة ربطت بين المدير العام لـ«بي بي سي» وأقسام الأخبار بالشركة.

* ساهم ماثيو بوردي من نيويورك ولارك تيرنر من لندن في كتابة التقرير

* خدمة «نيويورك تايمز»