الإعلام الهندي يتجاهل قضايا الفقر لصالح أبناء المدن

الأضواء تسلط على وفاة ممثل في بوليوود عبر الصفحات الأولى.. وانتحار الفلاحين مجرد خبر

حياة الفلاحين الفقراء ومعاناتهم لا تلقى اهتماما من جانب وسائل الاعلام في الهند («الشرق الأوسط»)
TT

عندما أقدم سانجاي، مزارع القطن، على الانتحار في عام 2009 بعد فشله في تسديد ديونه المتراكمة تاركا زوجته آبارنا ماليكار وابنتيه، تجاهلت وسائل الإعلام الهندية المصاعب التي تواجهها الأسرة بعد رحيل عائلها.

كانت وفاة سانجاي مجرد خبر، لكن بعد عامين على وفاته أخذت جميع وسائل الإعلام تلاحق آبارنا وابنتيها سعيا وراء أخبارهم وإجراء لقاءات معهم، بعد فوز الأرملة البالغة من العمر 29 عاما بـ6.4 مليون روبية في برنامج «من سيربح المليون».

قد يبدو الأمر غريبا، لكن هذه هي حال وسائل الإعلام الهندية. فعلى سبيل المثال، لم يكن أحد يعلم عن كالافاتي - المرأة الفقيرة التي تعيش في منزل صغير من الطوب اللبن وتحصل على ثلاثين روبية يوميا هي وزوجها وأطفالها الثلاثة - شيئا إلا عندما زار زعيم حزب المؤتمر الهندي راهول غاندي منزلهم للاستفسار عن مشكلاتهم في عام 2008. وذكرها في حديثه خلال تصويت للثقة في البرلمان في 22 يوليو (تموز)، لتنطلق إلى الشهرة بين عشية وضحاها مع طلب رؤساء التحرير من مراسليهم ومصوريهم تسليط الضوء عليها.

ومؤخرا، صرح رئيس مجلس الصحافة الهندي القاضي، ماركاندي كاتجو، الذي انتقد تغطية وسائل الإعلام وفاة نجمي بوليوود راجيش خانا وديف آناند، بأن «تسليط الأضواء على وفاة ممثل على الصفحة الأولى في الوقت الذي يشكل فيه انتحار الفلاحين مجرد خبر، يعني غياب الإحساس بالأولويات»، مشيرا إلى كيفية تشكيل كارينا كابور (نجمة بوليوود) أو ليدي غاغا أو سباق «فورميولا 1» أو «صني ليوني»، أهمية للجموع الهندية. وتساءل، هل الرجل الجائع والعاطل عن العمل يرغب في الترفيه أم الطعام والوظيفة؟

الهند دولة فقيرة يعيش 60 في المائة من أبنائها في فقر مدقع، وتعاني من ارتفاع كبير في نسبة البطالة، وتشهد ارتفاعا صاروخيا في الأسعار، ومشكلات ضخمة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والإسكان.. إلخ. وتزاد الأوضاع سوءا في المناطق الريفية، حيث وصل معدل الانتحار بين المزارعين خلال الخمسة عشر عاما الماضية إلى 37 مزارعا يوميا. وهاجر ملايين الفلاحين إلى المدن وخسروا مصدر معيشتهم، لكن وسائل الإعلام عادة ما تحول انتباهها عن هذه القضايا الحقيقية.. فتجذب المؤتمرات الانتخابية وسائل الإعلام أكثر من المزارعين الجائعين، وتحظى الشخصيات البارزة التي تدخل في إضراب عن الطعام باهتمام أكبر سواء على صفحات الجرائد أو المحطات التلفزيونية، من الجفاف الوشيك.

وتظهر دراسة حديثة أن الزراعة ككل تحصل على 1.7 في المائة من التغطية في وقت الذروة على شاشات التلفزيون أو في الصفحات الأولى للصحف على الأكثر.

والمثير للسخرية أنه خلال أسبوع «لاكمي» للموضة في مومباي عام 2006، السنة التي شهدت أعلى معدلات الانتحار بين الفلاحين، غطى 512 صحافيا أسبوع الموضة لسبعة أيام كاملة و100 كانوا يغطونه بشكل شبه يومي، في مقابل ستة صحافيين فقط قاموا بتغطية حالات الانتحار.

ويقول باراديب مايترا، الصحافي البارز الذي غطى أزمة الزراعة بشكل موسع خلال الأعوام القليلة الماضية: «لا تبدي وسائل الإعلام العامة اهتماما كبيرا بالمشكلات التي تواجه المزارعين المنتحرين، بل يفضلون تتبع أخبار النجوم مثل أميتاب باتشان وراهول غاندي».

يعيش السواد الأعظم من سكان الهند في القرى، حيث تشكل الزراعة 60 في المائة من الاقتصاد الهندي. وهناك اثنان من بين كل ثلاثة يعيشون في المناطق الريفية. وقد اختار الصحافي فيبول مودغال الذي يعمل حاليا مع مركز دراسة المجتمعات النامية في دلهي، 48 قضية تناولتها ست من أكثر الصحف الهندية انتشارا: «تايمز أوف إنديا»، و«هندوستان تايمز»، و«ذا هندو»، و«داينك جاغران»، و«داينك بهاسكار»، و«آمار أوجالا»، بدءا من عام 2009 لدراستها.

وكشف تحليل للموضوعات في الصحف الست الأوسع انتشارا، أن الصحف خصصت، في المتوسط، 2 في المائة من المساحة التحريرية من طبعاتها الرئيسة للتركيز على قضايا وهموم ثلثي الشعب الهندي. وحتى هذا المعدل المنخفض قد يبدو مضللا لأن معظم الأخبار الخاصة بالمناطق الريفية لا تتناول الفلاحين أو القرى أو مخاوفهم بشأن الأراضي والماشية والموارد أو الزراعة. وتم توجيه القاسم الأكبر من التغطية الصحافية، 36 في المائة، إلى قضايا العنف والحوادث والجريمة والكوارث. وخصص أقل من 28 في المائة لقضايا زراعية، فيما خصصت الصحف الست 15 في المائة للحديث عن الجوع والانتحار وسوء التغذية وهجرة المعوزين والتهجير أو تنقلات الفلاحين.

وكتب مودغال: «أحد أسباب عزوفهم يمكن أن تفسره حقيقة أن قراءهم ومعلنيهم وصحافييهم، خاصة في طبعات الضواحي، يهتمون بشكل أكبر بأخبار سكان الضواحي. فتميل الصحف اليومية إلى التركيز بشكل أكبر على الأخبار الاستهلاكية ومحاولة إشباع رغبات وطموحات سكان الضواحي المتعلمين، في الوقت الذي ابتعدت فيه عن التركيز على قضايا الفقر والتخلف».

من ناحية أخرى، تؤيد وسائل الإعلام الهندية الشركات والمؤسسات لسبب بسيط، وهو أن الشركات تستثمر بقوة وبصورة مباشرة في مئات من الصحف، فيما تملك وسائل الإعلام استثمارات في الشركات الكبرى.

وعندما دخل الناشط المعارض للفساد آنا هازاري الإضراب عن الطعام في رالاغام سيدهي، قرية نائية، قرر عقد اجتماع مع رؤساء تحرير الصحف الإلكترونية في منتصف الإضراب عن الطعام، للتأكيد على ضرورة إصدار قانون لمكافحة الفساد، وتوافدت حشود القنوات التلفزيونية مثل الجراد سعيا وراء أخبار آنا.. كان من بينها أكبر القنوات التلفزيونية على مستوى البلاد، ومثل أغلب هذه القنوات نواب رؤساء مجالس إدارتها.

كان هناك ما يقرب من 17 سيارة إذاعة خارجية موجودة في رالاغام سيدهي، وفرض المراسلون والمصورون حصارا على معبد بادمافاتي، ساحة التواصل الإعلامي بين آنا ورؤساء التحرير، حتى إن إحدى هذه القنوات جلبت فريق الإنتاج بكامله بما في ذلك الفنيون لتحرير وبث الأخبار في أقصر وقت ممكن.

كم مرة وطئت أقدام الصحافيين القرية؟ مفارقة تؤكد على الطبيعة المتغيرة للتغطية الإعلامية الهندية.

لا يوجد بالصحف الهندية محررون مختصون بشؤون العمال والزراعة، عدا صحيفة «ذا هندو» التي يوجد بها كاتب رأي في مجال الزراعة الذي يذهب إلى الحقول، متجاهلين بذلك 75 في المائة من السكان، ومتجاهلين هذه الشريحة الكبيرة من السكان، فيما وجهوا تركيزهم على شريحة محدودة للغاية من السكان التي تستفيد من التحرر الاقتصادي.

ويقول بي إن دهار، رئيس التحرير السابق لصحيفة يومية واسعة الانتشار: «تتحدث وسائل الإعلام الهندية عن سيطرة الهواتف الجوالة وثورة الإنترنت. ربما تكون هناك مقاهي إنترنت في المدن الصغيرة، لكن ذلك لا يعني أن القرويين بمقدورهم الوصول إلى الإنترنت. ويتحدثون أيضا عن استخدام الفلاحين الهواتف الجوالة ويبحثون عن أسعارها في الأسواق الأخرى ويصورونها وكأنها اخترعت ليستخدمها الفقراء. لكن من يحصل على الهواتف الجوالة في القرى هم مالكو الأراضي والتجار. وإذا ما حصل المزارع على هاتف جوال فليس لديه من يتصل به. هذا الضجيج يجعل من الهواتف الجوالة أداة ثورية اخترعت لتحرير الفلاحين الهنود. والآن قد ترى بعض العمال، خاصة المهاجرين، يحملون هواتف جوالة لأن ذلك يعني أن أرباب أعمالهم يمكنهم الاتصال بهم للحضور إلى العمل من المدينة أو البلدة التي يقطنون بها».

ويلقي الدكتور إم إس سواميناثان، الرجل الذي قاد الثورة الهندية الخضراء، باللائمة على التقارير الكاذبة والوهمية حول قضايا الفلاحين. وقال: «تقارير وسائل الإعلام الهندية عن القضايا الريفية والزراعية رديئة للغاية ووهمية؛ فالتقارير القليلة التي يتصادف ظهورها في حالات الجفاف رد فعل طبيعي. لكن لا يوجد اتساق في التقرير بشأن المشكلات الجوهرية التي تواجه كلا من الزراعة والقطاع الريفي».

الصحافة التي تمارس في الهند صحافة حضرية، بشهادات متنوعة من الجامعات، فعدد قليل من الصحافيين يتعاطفون مع الفقراء ويدرسون هذه القضايا، عدا بعض كليات الصحافة، مثل «آشيان كوليدج للصحافة» في تشيناي، أو «صوفيا» في بومباي التي تلزم طلابها بدراسة مادة «الحرمان»، والهدف منها أن الشخص لا يكون صحافيا حتى يتمكن من فهم الحرمان.

في الوقت ذاته، تحول التعليم الإعلامي إلى سوق تجارية كبيرة، وكحال الإعلام ذاته، تحول تعليم الإعلام إلى تجارة كبيرة؛ فهناك عدد كبير من الكليات غير الجديرة بالثقة التي تستثمر ملايين الروبيات في الإعلان وتستقطب الطلاب للانضمام إليها، وهناك الكثير من هذه الكليات التي لا يوجد صحافي بدوام كامل بين فريق العمل بها. هذا النوع الجديد من الصحافيين لم يدرس على الأغلب العلوم السياسية أو الاجتماعية، لكنهم عادة ما يتم إرسالهم لتغطية قضايا اجتماعية. ولم تتمكن إدارة الصحيفة من صنع كادر من الصحافيين الذين يملكون الحس الإنساني والكفاءة المهنية لتغطية القضايا الزراعية والريفية.

ويقول فيد بهاسين، الصحافي البارز المتقاعد: «فقد الإعلام الهندي حس التوازن في التغطية. فتسعون في المائة من التغطية الإعلامية، خاصة الإعلام الإلكتروني، تذهب إلى تغطية أخبار نجوم السينما وعروض الأزياء والكريكيت والديسكو والرقص وبرامج الواقع وقراءة الطالع وما شابه. كيف تبرر وسائل الإعلام الهندية ظهور نساء جميلات وموسيقيات نصف عاريات في دولة فقيرة؟».

ويشير بي سايناث، مراسل زراعي، إلى أن الصحافيين في الهند يبتهجون لحدوث الجفاف. ففي جفاف عام 2009 كان مراسلو الوكالات الأجنبية الذين حضروا إلى الهند يستعينون بنظرائهم في دلهي عن أماكن المجاعات، وهو مؤشر واضح على أن الأخبار السلبية تصنع عناوين أكثر جاذبية.

يعتبر الجفاف القضية الأكثر تناولا بين القضايا الثلاث بسبب المأساة التي يتسبب فيها. وتظهر جميع الدراسات التي أجراها مركز الدراسات الإعلامية في دلهي أن التغطية الجادة لأزمة الفلاحين محدودة، وبالنسبة للفقر، تحتفل وسائل الإعلام الهندية بتراجع نسبة الفقر بناء على التعريفات والإحصاءات المثيرة للشفقة إلى حد بعيد. وترى أوما سودهير، رئيسة تحرير الأخبار في قناة «إن دي تي في» أن «النساء القرويات يتعرضن للتجهيل أيضا في التقارير الإعلامية. والنساء التقدميات لا يرتدين الملابس الغربية ويصففن شعورهن فقط، لكنهن قياديات أيضا في كل مناحي الحياة. وأغلب وسائل الإعلام تركز على النساء اللاتي يوجدن في المناطق الحضرية ويتجاهلون عمدا السيدات الريفيات».