«الصحافة الاستقصائية» في أزمة

بعض التحقيقات تتطلب فطنة ودراية خاصة وكثير منها يحتاج لصبر ووقت

الممثلان الأميركيان داستين هوفمان (يسار) وروبرت ريدفورد اللذان أجادا دور الصحافيين بوب وودورد وكارل بيرنستاين بصحيفة «واشنطن بوست» في فيلم «كل رجال الرئيس» الذي كشفت فيه عبر التحقيقات الاستقصائية فضيحة «ووتر غيت» («الشرق الأوسط»)
TT

هل تريد أن تكون وودورد أو بيرنستاين اللذين كشفا فضيحة «ووتر غيت»؟ أم لعلك تتمنى فقط لو كنت قد التحقت بفريق «إنسايت» الاستقصائي التابع لصحيفة «صنداي تايمز»؟ ذلك أن مشكلة الصحافة الاستقصائية هي في جزء منها مشكلة يخلقها الصحافيون أنفسهم، الذين يكونون متعلقين أكثر من اللازم بالأساطير إلى درجة قد تؤثر عليهم بالسلب. وبالطبع، فإن الصحف (ناهيك ببرنامج «نيوز نايت») تعاني عجزا في العاملين وفي الموارد، وبالطبع، فإن بعض التحقيقات الاستقصائية تتطلب فطنة ودراية فنية خاصة، وبالطبع، فإن كثيرا منها يحتاج إلى صبر ووقت ومال، ولكن في بعض الحالات (مثل حالة برنامج «نيوز نايت» مرة أخرى) يكون العلاج بالخطورة نفسها للمرض نفسه.

انظر كيف انتشرت العدوى خلال العقد الماضي.. لقد بدأت سلاسل الصحف الأميركية، المتلهفة على إسعاد «وول ستريت»، في التآكل مع هبوط أسعار أسهمها، فبدأت تقلص من ميزانيات التحرير، ثم تطالب المراسلين الصحافيين المتبقين بالمزيد من «الإنتاجية». ولكن ما الذي يتم التخلص منه أولا؟ إن التحقيقات الاستقصائية التي تتناول المصالح العامة الخطيرة يتولاها «صحافيون استقصائيون»، وبالتالي، فإن أولئك الرجال والسيدات، المحرومين من الوسائل اللازمة لممارسة مهنتهم، يتكتلون معا لتكوين وحدات غير هادفة للربح (أي خيرية في الأساس) قادرة على التفتيش عن الحقيقة، وهناك حاليا 75 من هذه الوحدات في الولايات المتحدة، يعمل بها ما يقرب من 1300 شخص في المجمل وتبلغ ميزانيتها مجتمعة نحو 135 مليون دولار, بحسب الـ«غارديان» البريطانية.

كيف يمكن لأي شخص أن يجد شيئا ما خطأ في ذلك؟ حسنا، إن هذا ممكن بسهولة من عدة نواح، فبعض النماذج الأميركية الأكثر محلية على سبيل المثال تتضمن مجالس أمناء من مؤسسات ربما تكون هي نفسها بحاجة إلى استقصاء، أي إن هناك مظاهر تعارض في النجاح، كما أنها كلها تشجع تجارا يهدفون بالكامل إلى الربح، من خلال تقديم مبرر سهل للتخلي عن المهمة. ولكن ما دام استمر النظر إلى هذه الوحدات، وكذلك «مكتب الصحافة الاستقصائية» البريطاني الذي أصبح مثارا للجدل، على أنها تعزيز وليست بديلا، فإنها ستقابل بما يكفي من الترحيب. وما هو أقل ترحيبا بقليل هو الكيفية التي يفصلون بها التحقيق الاستقصائي عن عمل الفريق الأوسع الخاص بإصدار صحيفة أو برنامج إخباري تلفزيوني، فالمراسلون الصحافيون الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «استقصائيون» يحبون أن يلعبوا دور «زورو» بطريقتهم الخاصة، دون أن يزعجوا أنفسهم بالمطالب المتعلقة بصالة الأخبار، ومن الممكن أن يغرقوا تماما في القصة الإخبارية التي يتابعونها ولا يرونها بالكامل، فالمحرر وهو يطرح الأسئلة قد يبدو عائقا بيروقراطيا أكثر مما يبدو مصدرا للمساعدة.

باختصار، ففي عالم يمتلئ أحيانا بالاندفاع، فإنه دائما ما تكون هناك مشكلات تتعلق بالقيادة والسيطرة، وهذه المشكلات لا تصير أسهل على الإطلاق حينما تقوم عمليات منفصلة تماما بتبادل الأسرار أو انتداب العاملين. والصحافيون الاستقصائيون رغم كل شيء هم في الأساس مراسلون جيدون يبحثون عن قصة إخبارية جيدة، مثل أولئك الذين يجلسون في المكتب من حولهم. وكلمة «استقصائي» لا تصف تلك القصص الإخبارية، أو (بصورة عامة) مجرد الطرق المستخدمة في الحصول عليها، فهذه الطرق قد تكون سريعة أو بطيئة، غريزية أو كئيبة، والقصص الإخبارية نفسها قد تكون مثيرة أو معقدة بصورة مثبطة للهمة.

فلماذا إذن ترغب العمليات الإخبارية الجادة المعنية بالصالح العام وبمختلف الأمور الدقيقة في التعهيد الخارجي لأفضل الوسائل التي لديها للعثور على القصص الإخبارية الحصرية التي تبني سمعتها ونجاحها؟ لماذا يجلب قسم «بي بي سي نيوز»، الذي يعمل به وحده ألفا صحافي، على نفسه متاعب المشاركة الخارجية؟ إن الأمر يسير على ما يرام بالنسبة للقنوات التي تشتري الأخبار التي تبثها على الهواء، مثل الـ55 دقيقة التي تخصصها «القناة الرابعة» لجون سنو، إلا أن الفك الضخم لمقر «بي بي سي» الرئيسي شيء مختلف تماما، ومحاولة تحرير حكاياته الأكثر خطورة عن طريق صعود ونزول سلم الإحالة الطويل، الذي لا يلحظ فيه أحد أن هناك بعض الدرجات المفقودة والذي لم ير فيه أحد فعليا كل الأدلة بنفسه، يعتبر كارثة على وشك الوقوع.

والآن، فإن الهيئة لن تظل على قيد الحياة إلا إذا عثرت على الأموال اللازمة للاستمرار، ذلك أن «مؤسسة الصحافة» الموازية التي أسسها ألكسندر ليبيديف لم تفعل، وسوف تغلق بعد عام واحد فقط. فلنأمل أن لا تموت الفكرة بأكملها أيضا، بعد أن تنزع عنها كل الهالة المحيطة بها، ولكن تذكر: إنها مجرد فكرة واحدة من بين أفكار كثيرة، والحاجة إلى العثور على المزيد من الأفكار تنبع بأفضل الصور - وأكثرها تأثيرا - من داخل كل مراسل صحافي في كل مهمة، وليس من «الأخبار الحصرية» المعروضة للبيع في المتجر الواقع على الجانب المقابل من الطريق.

إن أحد الأسماء غير المطروحة بصورة واضحة لإنقاذ شبكة «بي بي سي» الآن هو رئيس الإنقاذ السابق مارك بايفورد، الذي عمل مديرا عاما مؤقتا لمدة 5 أشهر عام 2004 بعد رحيل غريغ دايك المفاجئ، ثم عمل نائبا لمارك ثومبسون إلى أن أدت مشادة لا لزوم لها إلى رحيله العام الماضي. ولم يذرف كثيرون دموعا بينما كان بايفورد يحزم أمتعته، حيث علقت صحيفة الـ«غارديان»: «هكذا كان: رجل أشيب يحصل على وظيفة مدى الحياة، وراتب قدره نصف مليون جنيه إسترليني، وكذلك - نظرا لبقائه هناك لوقت طويل جدا - معاش تقاعد يعادل ثلثي الراتب النهائي، ولا يوجد أي معدل واضح في السوق يبرر تلك المبالغ الكبيرة. لقد كان من السهل جدا طرح السؤال: ماذا غير هذا المكان سوف يدفع لمارك بايفورد 500 ألف جنيه إسترليني وفي مقابل ماذا؟».

ولكن لعل ذلك السؤال يجيب عن نفسه بسهولة أكبر بكثير اليوم، فبايفورد كان في الواقع «رئيس تحرير» هيئة «بي بي سي» الذي يريده مجلس الأمناء القلق الآن عندما يتحدث عن تقسيم «المهمة المستحيلة» للمدير العام. وقد يصدر ميثاق ولاء متلاعب لا يسمح بالتقسيم الفعلي للمسميات الوظيفية حتى عام 2016، إلا أن مهامه - وليست مسمياته الوظيفية - هي ما يهم هنا، وبمجرد أن تبدأ في توزيع الأدوار بدلا من تجميعها في حزمة كابوسية منفردة، فإنه يصبح من الأسهل بكثير العثور على خليفة لجورج إنتويسل.

ويعتبر روجر موسي، المسؤول عن تغطية دورة الألعاب الأولمبية والرئيس السابق للأخبار التلفزيونية، هو الاختيار الأكثر أمانا بين الموجودين، فإذا ما تم وضعه على المقعد الذي تركه بايفورد شاغرا، فسوف يكون هناك بالتأكيد مجال أكبر لاستقدام مدير عام ليس صحافيا ولكن يبدو أنه يعرف كيفية إدارة مؤسسة (مثل القائم بالأعمال الحالي تيم ديفي، المسؤول السابق في شركة «بروكتر آند غامبل»). ثم لماذا لم يوضع ديفيد أبراهام، المسؤول الكبير بالغ الذكاء في «القناة الرابعة»، في الصورة من أجل خلافة إنتويسل؟ إن الشعر الأشيب - في أي مرحلة عمرية - أحيانا ما يكون هو اللون الذي تحتاج إليه.

إن 0.9 في المائة فقط من الشعب البريطاني يرى أن فرض المزيد من الضوابط الرقابية على الصحافة يمثل أولوية، بينما يريد 71 في المائة أي قوانين وقيود جديدة، و7 في المائة فقط يريدون استمرار الأوضاع الإعلامية القائمة، أو هكذا يقول القائمون على استطلاعات الرأي في التقرير الذي أصدرته شركة «سيرفيشن» بخصوص «شبكة حرية التعبير». ولكن هل استطلاعات الرأي الخاصة بحملة «محاربة التنصت» تبين شيئا مختلفا؟ في الواقع، كما هي الحال دوما، فإن توقيت وسياق الأسئلة هو ما يهم، وكذلك الذكريات القريبة، فهناك 55 في المائة بالفعل أكثر اهتماما بملابس «سافيل» الفضفاضة.