بوتين يعهد إلى المخابرات الروسية بمراقبة الإنترنت وحماية المواقع الإلكترونية

10 آلاف محاولة يوميا لاختراق مواقع الرئيس والحكومة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أحد مؤتمراته الصحافية بالعاصمة موسكو الشهر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

بعد استصدار عدد من المراسيم والقرارات التي استهدف بها أحكام الحصار حول نشاط معارضيه أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرارا يكلف بموجبه جهاز المخابرات والأمن الفيدرالي (إف إس بي) بالاضطلاع بمهام الرقابة على شبكات «الإنترنت» ومواقع التواصل الاجتماعي.

ومن اللافت أن هذا القرار صدر في توقيت مواكب لصحوة مفاجئة من جانب فصائل المعارضة التي كان تراجع نشاطها على نحو ملحوظ مع عودة الرئيس بوتين إلى سدة الحكم في الكرملين. وعلى الرغم مما قد يبدو من عدم وجود صلة بين الأمرين، فإن هناك ما يستحق التوقف عنده بالكثير من التفاصيل.

ففي يوليو (تموز) من العام الماضي أطلق الكرملين ما وصفه الكثيرون من المراقبين بـ«بالونة اختبار» حول احتمالات تكليف جهاز الأمن والمخابرات بتولي مهمة الرقابة على الإنترنت في إطار الإجراءات الرامية إلى مواجهة تزايد نشاط الحركات المعارضة التي راحت تستخدم المواقع الإلكترونية وشبكات الإنترنت في الترويج لتوجهاتها ونشر الأفكار المناوئة لسياسات الكرملين. ويذكر المراقبون ما صدر من تصريحات حول أن جهاز المخابرات الفيدرالية في موسكو يفكر في البحث عن تبريرات قانونية لإغلاق هذه المواقع. وكشفت وكالة أنباء «آر بي كي» عن أن الكسندر اندرييتشكين رئيس قسم حماية المعلومات والاتصالات الخاصة في الجهاز طرح هذه الفكرة خلال اجتماع اللجنة الحكومية للاتصالات الفيدرالية وشؤون تكنولوجيا المعلومات. ونقلت الوكالة عنه قوله إن عدم السيطرة على استخدام هذه المواقع يمكن أن تسفر عن أخطار تهدد الأمن القومي. وأشارت وكالة أنباء «إنترفاكس» إلى أن إيليا ماسوخ نائب وزير الاتصالات الروسية تولى تفسير ما صدر عن المسؤول الروسي في جهاز الأمن والمخابرات بقوله إن المقصود هو حظر استخدام المواطنين لهذه المواقع. غير أن نائب وزير الاتصالات سارع ليؤكد أن المشاركين في الاجتماع لم يصلوا بعد إلى قرار نهائي، وإن قال باحتمالات التراجع عن هذه الفكرة على الرغم من وجود المشكلة. وفيما سارعت مصادر الكرملين إلى إعلان أن المسؤول الذي بادر بطرح هذه الفكرة تجاوز صلاحياته، مؤكدة أن ما قاله اندرييتشكين لا يعكس رأي الكرملين حسبما أشارت وكالة أنباء «ريا نوفوستي»، نقلت وكالة «إنترفاكس» عن ديمتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم رئيس الحكومة الروسية تأييده لفكرة المخابرات الروسية التي قال «إن فيها ما يبررها».

وهكذا ولم يكن قد مضى من الزمن أكثر من شهور معدودات، فاجأ الرئيس بوتين الداخل والخارج بقراره الذي ينص على «تكليف المخابرات الروسية بمهام متابعة المواقع الإلكترونية، وبأحقية هذا الجهاز في الرقابة المطلقة واللامحدودة على شبكات (الإنترنت)» تحت ستار حماية مصالح الدولة وحرية تحديد ماهية الأخطار التي تتعرض لها من جانب مستخدمي الشبكة الدولية. وقالت صحيفة «روسيسكايا غازيتا» (الصحيفة الروسية) الرسمية إن هذا القرار يتضمن في طياته أيضا تكليف جهاز الأمن الفيدرالي بإنشاء منظومة لتأمين التقديرات المسبقة للمواقف والرقابة على درجة حماية المواقع الرسمية من هجمات الهاكرز ونظام تبادل المعلومات بين الأجهزة الفيدرالية للسلطة التنفيذية حول حوادث اختراق أنظمة الكومبيوتر والمتعلقة بعمل أنظمة المعلومات في روسيا الاتحادية. وتشمل المهام التي أشار إليها القرار أيضا تأمين السفارات والمؤسسات القنصلية والحكومية الروسية الموجودة في الخارج من اعتداءات الهاكرز.

وفي تصريحاته إلى صحيفة «كوميرسانت» فسر دميتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين تعليمات الرئيس الروسي ومراسيمه بهذا الصدد بقوله الذي حاول أن يضفي عليه مسحة من البساطة: «الدولة تتعرض للهجوم.. الدولة تدافع عن نفسها من هذا الهجوم». وأضاف أن الأجهزة الرسمية، ومنها الحكومة الروسية تتعرض يوميا للكثير من الهجمات الإلكترونية في نفس الوقت الذي تتزايد فيه قدرات وخدع ذوي النوايا السيئة. وكشفت مصادر جهاز المخابرات والأمن الفيدرالي عن أن المواقع الإلكترونية للرئيس والحكومة ومجلسي الدوما والاتحاد تتعرض يوميا لما يقرب من عشرة آلاف محاولة للاختراق الإلكتروني. وقالت إن الجهاز هو الذي رصد محاولة أحد الهاكرز في مقاطعة كراسنويارسك لاختراق الموقع الإلكتروني للرئيس والذي سارعت الأجهزة الأمنية باعتقاله وتقديمه إلى القضاء حيث من المحتمل أن يصدر الحكم بسجنه لمدة أربعة أعوام. وعلى الرغم من وجود مثل هذه الأجهزة المتخصصة في مواجهة القوى التي تمارس نشاطها «التخريبي الإلكتروني»، سارعت رموز القوى المعارضة بانتقاد القرار الذي قالوا إنه لا يستهدف وحسب التصدي لمحاولات اختراق المواقع الإلكترونية للمؤسسات الحكومية، بل ولربما يكون بالدرجة الأولى موجها إلى ملاحقة ممثلي القوى والحركات المناوئة للرئيس وسياساته. وذكر إيليا بونوماريوف عضو مجلس الدوما عن حزب العدالة الروسية المعارض في تصريحاته إلى قناة تلفزيون «دوجد» المستقلة أن قرار الرئيس بوتين يعكس مدى القلق الذي ينتابه تجاه تصاعد نشاط معارضيه، مشيرا إلى مخاوفه من احتمالات أن تستغل الأجهزة الأمنية هذا القرار لغير الأهداف التي صدرت من أجلها. وكانت مصادر الكرملين أعلنت صراحة أن القرار الصادر ينص على ضرورة بناء منظومة شاملة قادرة على الاضطلاع بمهام الكشف عن كل المحاولات الرامية إلى اختراق شبكات الإنترنت والحد من تبعاتها وإزالة آثار ما يمكن أن تلحقه من أضرار بالمواقع التي راحت ضحية عملياتها التخريبية. وقالت المصادر نفسها في تصريحاتها إلى صحيفة «كوميرسانت» الروسية: «إن هذا القرار هو الأول من نوعه وسوف تتلوه قرارات أخرى لضمان أمن الشبكة الدولية، وأنه ليس من المستبعد أن يصل الأمر به إلى التفكير في وضع استراتيجية شاملة للأمن الإلكتروني للدولة الروسية أو ما يطلق عليه «cybersecurity strategy»، وهي المشكلة التي يقولون إنها تؤرق مضاجع العالم بأسره ويعتبرون تجاهلها ليس مجرد خطأ أو غباء، بل جريمة، على حد قول هذه المصادر. وتأتي كل هذه الإجراءات في توقيت مواكب لتصاعد الهمهمات حول مخاطر تنفيذ ما يعتمل في نفوس الكثيرين من ممثلي الحزب الحاكم في مجلس الدوما بإيعاز مباشر من جانب الرئيس بوتين من أفكار حول ضرورة المضي قدما على طريق إحكام قبضة الرقابة على أجهزة الصحافة والإعلام التي يجري تمويلها من الخارج. وقد كشفت مصادر أغلبية الحزب الحاكم في مجلس الدوما عن أن الدورة البرلمانية الحالية سوف تعكف على دراسة مشروع قانون جديد يستهدف تقنين أوضاع الصحف والقنوات التلفزيونية التي يقولون إنها صارت «بوقا للدعاية الأجنبية».

ونقلت صحيفة «أزفيستيا» عن مصادر الحزب الحاكم قولها إن من حق المجتمع معرفة القوى التي تقف وراء تمويل بعض ممثلي من يسمون أنفسهم «السلطة الرابعة» ومدى ما تتمتع به هذه القوى من استقلالية. وأعلنت المصادر البرلمانية أن قانونا لا بد أن يصدر للحد من نشاط هذه الصحف التي تحول وضعيتها القانونية دون خضوعها لكل القرارات والقوانين الصادرة بشان تنظيم عمل شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني والتي أوعز بوتين بإصدارها خوفا من احتمالات رياح أحداث ربيع الثورات العربية. ومن هذا المنظور يمكن تناول مشروع القانون الجديد الذي يدرسه مجلس الدوما بمبادرة من ممثلي الحزب الحاكم «الوحدة الروسية» حول «حظر عمل كل من يحمل جنسية أجنبية غير جنسيته الروسية العمل في أجهزة الإعلام الحكومية». وهو المشروع الذي قال «المراقبون إنه يستهدف وضع حد لكل المحاولات الرامية إلى تشويه سياسات الدولة وأجهزة السلطة الروسية»، وتشديد ربقة الحصار على المعارضة الروسية.

ومن اللافت أن مشروع القانون الجديد يحمل اسم فلاديمير بوزنر أحد أشهر نجوم الإعلام الروسي الذي ولد في المهجر الفرنسي عن أب سوفياتي وأم فرنسية انتقلا لاحقا للإقامة في الولايات المتحدة التي عادا منها إلى برلين ثم إلى موسكو. ومن المعروف أن بوزنر كان يشغل حتى الأمس القريب منصب رئيس أكاديمية التلفزيون الروسية بعد سنوات من العمل في عدد من الصحف والأجهزة الإعلامية السوفياتية والأميركية، وينتهج خطا تنويريا منذ بزوغ نجمه إبان سنوات البيرسترويكا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. ومن هذه المنطلقات التنويرية حرص بوزنر على الاستمرار في انتقاد الكثير من جوانب سياسات بوتين التي قال إنه يعتبرها تقييدا للحريات وتراجعا عما سبق وأعلنه الرئيس بوتين من وعود حول احترام الرأي الآخر. وقد عزا الكثيرون من المراقبين ومنهم روستيسلاف توروفسكي نائب مدير مركز التكنولوجيا السياسية في موسكو مثل هذا الحرص المبالغ فيه من جانب ممثلي الحزب الحاكم على تشديد ربقة الحصار حول المعارضة، إلى أن «روسيا قد تشهد في الربيع المقبل موجات احتجاج أكثر جماهيرية، عندما ستضاف المشكلات الاقتصادية في المجتمع إلى قائمة الشعارات التي يرفعها المحتجون في الشوارع»، حسبما نقلت عنه صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» (الصحيفة المستقلة). وكانت نفس الصحيفة تنبأت في معرض تناولها للمظاهرات التي جرت في 13 يناير (كانون الثاني) الجاري في موسكو بـ«تراجع جدي في مستوى التأييد الشعبي لكل من حزب (روسيا الموحدة) الحاكم والرئيس فلاديمير بوتين» في نفس الوقت الذي أبرزت فيه التغيير الذي طرأ على ميول المواطنين الروس، من خلال إشارتها إلى ما وصفته بـ«روح التفاؤل والرغبة في الانضمام إلى المظاهرات» التي انتابت هؤلاء المواطنين رغما عن البرد القارس الذي ساد أجواء العاصمة الروسية.