روسيا: صحيفة «ازفيستيا» وحرية تداول المعلومات

«يوتيوب» يعرض فيلما يتهم ميدفيديف بالخيانة العظمى

صورة تجمع رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، في إشارة إلى تنازلاته أمام واشنطن التي أثارت الكثير من الجدل السياسي («الشرق الأوسط»)
TT

أثارت واقعة نشر صحيفة «ازفيستيا» لبعض المراسلات الرسمية المتداولة بين عدد من الموظفين الحكوميين حفيظة المسؤولين عن سرية المعلومات والمكاتبات الخاصة بالمؤسسات الرسمية في الدولة الروسية. وكانت ناتاليا تيماكوفا الناطقة الرسمية باسم الحكومة الروسية سارعت في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى عقد اجتماع عاجل حضره عدد من المسؤولين الرسميين قالت فيه بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقصى الحقائق حول المسؤول عن تسرب المعلومات وصور المكاتبات الرسمية التي نشرتها صحيفة «ازفيستيا» إحدى أقدم الصحف الروسية، فيما طالبت بمشاركة ممثلي الأمن والمخابرات في عمل اللجنة المدعوة إلى فض مكنون هذا اللغز الغامض. وقالت إن الكشف عن المعلومات التي يتداولها المسؤولون الرسميون والمكاتبات المتبادلة بين العاملين في ديوان الكرملين وجهاز الحكومة الروسية يقض مضاجع العاملين في هذه المؤسسات وخاصة بعد أن أماطت صحيفة «ازفيستيا» عنها النقاب لتصير في متناول الجميع من ممثلي الأوساط الاجتماعية والسياسية. إزاء ذلك سارعت صحيفة «ازفيستيا» إلى دحض مثل هذه المبررات مؤكدة أن المكاتبات المتبادلة بين المؤسسات الحكومية حول القضايا العامة لا يمكن اعتبارها من الأسرار التي يحظر على الصحافيين والعامة تداولها بأي حال من الأحوال. وقالت الصحيفة الروسية إن الفيصل في مثل هذه الأمور هو قدر مصداقية هذه المعلومات، ومدى التزام الصحيفة بالدقة ومعايير العمل الصحافي لدى تناقل ما جاء في هذه المكاتبات، نظرا لأن العاملين في الصحف وكل أجهزة الإعلام مدعوون إلى تناقل الأخبار عن مصادرها وتفسيرها والتعليق عليها حسبما يتراءى لهم في إطار المعايير السائدة وميثاق العمل الصحافي. أما عن مهمة لجان تقصى الحقائق وملاحقة الساعين وراء الخبر ومعاقبتهم، ولا سيما إذا كان الأمر بمشاركة أجهزة الأمن والمخابرات، قالت «ازفيستيا» إنه أمر لا يتسق مع مواثيق المهنة، ويمكن اعتباره تجاوزا وتطاولا على الحقيقة.

ومن المثير في هذا الصدد أن الحظر الذي أرادت تيماكوفا فرضه على الصحف وأجهزة الإعلام جاء مواكبا لحدث آخر ثمة من رأى فيه تراجعا من جانب مجلس الدوما عن قرار سبق واتخذه حين طرح للنقاش «مشروع قانون تنظيم عمل الصحافيين الأجانب في وسائل الإعلام الروسية»، وهو المشروع الذي كان يستهدف حظر عمل الصحافيين من ذوي الجنسية المزدوجة في القنوات التلفزيونية وأجهزة الإعلام الروسية الرسمية وهو ما سبق وتناولناه في تقريرنا من موسكو في يناير الماضي. وكان عدد من نواب المجلس أثار هذه القضية نكاية في الصحافي الروسي المرموق فلاديمير بوزنر الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والأميركية، جزاء تهكمه وسخريته من مجلس الدوما، بعد أن لجأ بوزنر إلى «الجناس اللفظي الناقص» ليسمى «مجلس الدوما» بمجلس «الدورا» وهي الكلمة التي تعني في اللغة الروسية «الحمقاء أو المعتوهة». على أن المجلس أرجأ النظر في قراره حول مناقشة مشروع القانون الذي حمل تجاوزا اسم «قانون بوزنر» بعد أن بادر بوزنر بالاعتذار عن استخدامه لهذه اللفظة الروسية قائلا إن الاعتذار يقتصر فقط على استخدامه للفظة «دورا»، ولا ينسحب على جوهر الموضوع الذي كان يتناول في معرضه المحاولات التي تواصل أجهزة الدولة ومؤسساتها الرسمية اللجوء إليها من أجل فرض الرقابة على المطبوعات وخنق الحريات وتقييد حرية تداول المعلومات.

ولم يمض من الزمن الكثير حتى فاجأت الأوساط السياسية والصحافية المبادرة التي تقدم بها عدد من نواب كتلة الحزب الديمقراطي الليبرالي المعروف باسم «حزب جيرينوفسكي» في مجلس الدوما حول حظر استخدام الكلمات الأجنبية في اللغة الروسية على الرغم من أن عددا من هؤلاء يحمل أسماء أجنبية ومنهم زعيم الحزب فلاديمير فولفوفيتش جيرينوفسكي الذي تناسى أنه ولد عن أب يهودي هاجر إلى إسرائيل حيث وافته المنية هناك، وكان يحمل اسما ألمانيا هو «وولف» الذي يعني بالعربية «الذئب»، فيما يظل الابن فلاديمير يحمل لقبه البولندي الأصل !!. وكان جيرينوفسكي وقف في المجلس الأسبوع الماضي ليصرخ شاكيا من أن الأميركيين أغرقوا اللغة الروسية بكلماتهم الأجنبية متناسيا أيضا أنه اختار لحزبه اسما يتكون من لفظتين غير روسيتين هما «الديمقراطي» و«الليبرالي»!!. حتى «الحزب» ظل جيرينوفسكي ورفاقه يرمزون إليه بالكلمة المستقاة عن اللاتينية «Party»!.

وفي الوقت الذي كانت فيه ناتاليا تيماكوفا الناطقة الرسمية باسم الحكومة الروسية مشغولة بمعركتها مع صحيفة «ازفيستيا» التي اتهمتها بمسؤولية نشر المكاتبات المتداولة بين عدد من المؤسسات الحكومية، تعالت التساؤلات حول ماهية المسؤول عن إنتاج وترويج الفيلم الوثائقي «ميدفيديف ولعبة الداما» الذي يتهم رئيسها المباشر ديمتري ميدفيديف بارتكاب جرائم الخيانة العظمى والأضرار بأمن الدولة ومصالحها الاقتصادية لحساب الغرب والناتو دون أن يصدر عنها وهي المتحدثة الرسمية باسم ميدفيديف أي تعليق، على الرغم من أن الفيلم يتناول وعلى مدار ما يزيد عن الساعة وربع الساعة الكثير من أخطاء وخطايا ميدفيديف، الذي يتهمونه صراحة بارتكاب أفظع الجرائم إبان ولايته كرئيس للبلاد خلال الفترة 2008 - 2012. وقد جاء هذا الفيلم الذي خرج إلى النور غفلا من اسم الجهة التي وقفت وراء إنتاجه، مماثلا في الشكل والمضمون للفيلم الوثائقي «اليوم الضائع» الذي سبق وتداولته مواقع الإنترنت و«يوتيوب» في أغسطس (آب) 2012 مع حلول الذكرى الرابعة للحرب مع جورجيا واتهم فيه المعلقون وعدد من القيادات العسكرية الروسية الرئيس الروسي السابق ميدفيديف بالخيانة العظمى بسبب تخاذله وعدم قدرته على اتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب ما كان سببا في تكبد القوات الروسية الكثير من الخسائر البشرية والمادية. ومن اللافت أن قائمة المتحدثين والمعلقين الذين سجلوا شهاداتهم عبر هذا الفيلم الوثائقي ضمت عددا من أبرز شخصيات الساحة السياسية والدبلوماسية في موسكو ومنهم يفجيني بريماكوف رئيس الحكومة الأسبق والجنرال ليونيد ايفاشوف رئيس الأكاديمية الجيوسياسية وفلاديمير تشاموف سفير روسيا السابق لدى ليبيا الذي أقاله ميدفيديف من منصبه قبل موعد إقرار مجلس الأمن للقرار 1973 بساعتين فقط في 17 مارس (آذار) 2011، وهو القرار الذي يوافق على فرض منطقة الحظر الجوي ضد ليبيا، فضلا عن الاستشهاد بمقتطفات من تصريحات رئيس الدولة فلاديمير بوتين وسلفه ميدفيديف. وقد حمل المتحدثون في هذا الشريط التلفزيوني الوثائقي الذي استقوا اسمه من كتاب زبيحنيو بجيزينسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي «رقعة الشطرنج الكبرى»، على ميدفيديف بسبب عدم إصدار تعليماته إلى مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي لاستخدام حق الفيتو ضد القرارين 1970 و1973 من أجل الحيلولة دون فرض الحظر على تسليح ليبيا ومنع توفير الغطاء القانوني للعمليات العسكرية التي قامت بها قوات الناتو في ليبيا للإطاحة بحكم الزعيم الليبي معمر القذافي. وفيما استنكر الكثيرون ومنهم الرئيس بوتين عملية التنكيل بالقذافي وقتله بإيعاز مباشر من الدول الغربية التي سبق ودعمت الانفصاليين في ليبيا وتعاونت مع الإسلاميين المتطرفين وخلايا «القاعدة» هناك، استعرض المتحدثون مشاهد سقوط الرئيس السابق ميدفيديف في شرك الدوائر الغربية التي طالما أعربت عن استحسانها لما اتخذه من قرارات ألحقت الكثير من الأضرار الفادحة بالأمن القومي الروسي إلى جانب الخسائر الهائلة التي تكبدتها المؤسسة العسكرية الصناعية وشركات النفط والغاز وهيئة السكك الحديدية الروسية. وقال المسؤولون عن الكثير من مصانع الأسلحة والمنظومات الصاروخية إن ما تكبدته هذه المصانع من خسائر بلغ في مجمله ما يقرب من عشرين مليار دولار تحولت في واقع الأمر إلى مكاسب هائلة اقتسمتها مصانع الأسلحة في البلدان الغربية نتيجة الحملة العسكرية الظالمة التي قامت بها قوات الناتو ضد ليبيا في عام 2011. وأعرب الجنرال ليونيد ايفاشوف رئيس الأكاديمية الجيوسياسية عن أسفه تجاه أن القانون الجنائي الروسي يخلو من المواد التي كان يمكن أن يحاكم ميدفيديف بموجبها بتهمة الخيانة العظمى جزاء ما لحق بأمن روسيا ومصالحها الاقتصادية والعسكرية ومكانتها في الساحة الدولية.

وخلص إلى أن الشعب الروسي أصدر حكمه على ميدفيديف على نحو مماثل لما سبق وأصدره في حق الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الذي طرب الغرب لما قام به من أجل تحطيم جدار برلين لينتهي به الحال إلى تدمير الاتحاد السوفياتي!!. أما عن اسم الفيلم «ميدفيديف ولعبة الداما» (أحد أشكال لعبة الشطرنج) فقد استوحاه منتجو الفيلم من اسم كتاب زبيحنيو بجيزينسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي «رقعة الشطرنج الكبرى»، وهو ما دفع الجنرال ليونيد ايفاشوف إلى اختتام هذا الشريط الوثائقي بقوله «إن روسيا ليست بيدقا على رقعة الشطرنج ولن تكون.. ولم يستطيع أي امرئ أن يتلاعب بمصيرها ومستقبلها أينما كان في هذا العالم»!.