بوتين ومؤتمراته الصحافية.. بين «حرارة الدعابة» و«قسوة التعليق»

قال لمراسل وكالة الصحافة الفرنسية: اقترب أكثر لتشعر بالحرارة التي تريدها

الرئيس بوتين يستقبل نظيره الفرنسي هولاند في الكرملين فبراير الماضي (إ.ب.أ)
TT

امتلاك ناصية القول ولواذع الكلام والالمام بحقائق الواقع، بعض مما ينسحب على حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تؤكد السنوات القليلة الماضية أنه خبر دروب السياسة وأتقن مفرداتها، ما تعكسه الكثير من المبارزات الكلامية التي كثيرا ما يضطر إلى خوضها بحكم مقتضيات الزمان والمكان.

وكان المؤتمر الصحافي الأخير الذي عقده بوتين مع نظيره الفرنسي فرنسوا هولاند في ختام مباحثاتهما في الكرملين مساء الخميس 28 فبراير (شباط) الماضي كشف عن مدى قدرات الرئيس الروسي على إدارة الحوار والتخلص من المواقف الحرجة التي طالما تكسرت على نصالها قامات الكبار من نجوم عالمي الدبلوماسية والسياسة.

ولعل المتابعين للكثير من المؤتمرات واللقاءات التي يعقدها بوتين بين جنبات الكرملين وخارجه يستطيعون رصد مدى ما يتمتع به من ذكاء متوقد، وقدرات متميزة تكفل له في غالبية الأحيان التخلص من المواقف الشائكة والخروج منها كما يقول المصريون «كالشعرة من العجين»، أو على حد قول الأوروبيين «كالسكين في قطعة الزبد» استنادا إلى ما تراكم لديه من خبرات وقدرات تمرس عليها منذ سنوات تدريبه ودراسته في مدارس الـ«كي جي بي» (لجنة أمن الدولة) إبان الاتحاد السوفياتي السابق.

وفيما كان حضور المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع ضيفه الفرنسي يتأهبون لمغادرة الكرملين بعد سلسلة من المواقف التي دفعت بعضهم إلى وصف المؤتمر بأنه اتسم بالكثير من «الفتور»، طلب مراسل وكالة الصحافة الفرنسية الكلمة ليقول: «إن اللقاء السابق بين الزعيمين منذ قرابة نصف العام كشف عن حوار اتسم بالصدق، لكنه افتقد حرارة المشاعر، وها نحن نراكما تجلسان متجاورين جنبا إلى جنب، ومع ذلك فلم نشعر بأن العلاقات بين روسيا وفرنسا صارت أكثر حرارة». ولم يكد المراسل الفرنسي يصل إلى نهاية تعليقه، حتى بادر الرئيس بوتين وقد انفرجت أساريره وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه يحار المرء في كنهها، إلى مقاطعته قائلا: «فلتقترب منا أكثر وسوف تحصل على الحرارة التي تبتغيها»، وهو ما أثار ضحك الحاضرين من الناطقين بالروسية، قبل نظرائهم من الجانب الفرنسي الذين سرعان ما انضموا إليهم بعد استماعهم إلى الترجمة وسط تصفيق حاد من الجميع، قطعه الرئيس الفرنسي بقوله: «إن الرئيس بوتين وكعادته صادق في تعليقاته».

هكذا كسر بوتين كل ما دار في مخيلة الحاضرين والمتابعين للقاء من أوهام وتخيلات حول افتقاد الزعيمين لكيمياء العلاقات الشخصية، وليتحول الكثيرون منهم إلى تبادل التعليقات حول قدرات بوتين الخارقة على احتواء أكثر المواقف حدة وحرجا.!. وفي نفس المؤتمر كان بوتين لجأ إلى الموروث الروسي في تعليقه حول صعوبة إيجاد حل للأزمة السورية، إذ قال: إن هذه الأزمة بلغت حدا من التعقيد والالتباس ما جعل أمر فك طلاسمها يحتاج إلى «نبيذ جيد» مستعينا بالقول الروسي المأثور «من دون زجاجة فودكا يصعب إيجاد الحل»، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي إلى الاقتراح أن يكون المشروب «نبيذا فرنسيا» قال: إنه من الأفضل أن يكون «بورت»، بدلا من الفودكا الروسية! ولعل هذه المناسبة وما صدر خلالها عن بوتين من تعليقات تدفعنا إلى تذكر الكثير من أقواله وما أدلى به من تصريحات في مستهل حملته في القوقاز التي طارد فيها المقاتلين الشيشان ممن استباحوا حرمة الوطن وقاموا بغزو داغستان المجاورة في إطار خطتهم لتشكيل ما كان يسمونها «فيدرالية الشعوب الإسلامية للقوقاز». ويذكر المراقبون تهديدات بوتين التي يتناقلونها عنه منذ أعلنها في واحد من أول مؤتمراته في سبتمبر (أيلول) 1999 حول أنه «سيطارد المقاتلين حتى المراحيض.. بل وسيدفنهم هناك في نهاية الأمر»، مؤكدا العزم على إبادتهم عن بكرة أبيهم وهو ما تيسر له إلى حد كبير. وما دام الشيء بالشيء يذكر.. نشير إلى إجابته على صحافي فرنسي حاول استفزازه في أحد المؤتمرات الصحافية التي عقدها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 خلال زيارة له لبروكسل بسؤال حول تجاوزاته ضد المقاتلين الشيشان أو كما وصفهم الصحافي الفرنسي بـ«الراديكاليين الإسلاميين». وكان بوتين رد عليه بقوله: «إذا كنتم على استعداد للانضمام إليهم بما في ذلك قبول الخضوع إلى الطهارة على الطريقة الإسلامية، فإنني أدعوك إلى موسكو حيث هناك من سأوصيهم بطهارتك على النحو الذي لن ينمو لك (هناك) بعده أي شيء». وحول مقتل أنا بوليتكوفسكايا الناشطة السياسية والصحافية المعروفة التي لقيت حتفها لأسباب قالوا: إنها تتعلق بمقالاتها الانتقادية حول الشيشان قال بوتين: «لقد كانت لاذعة في انتقاداتها للسلطة في روسيا، لكن وحسبما أعتقد فإن الصحافيين يجب أن يعلموا أن درجة تأثير انتقاداتها للسلطة لم تكن كبيرة إلى الحد الذي يمكن خشيته». بل وأضاف في مناسبة أخرى أن «اغتيال بوليتكوفسكايا أضر بالسلطة وألحق بها الكثير من الإساءة أكثر مما كانت تكتبه من انتقادات». ولم يكد بوتين حقق مبتغاه في القوقاز حتى داهمته في سبتمبر 2000 كارثة غرق الغواصة «كورسك» التي أقامت الدنيا ولم تقعدها ولفتت الأنظار لأسابيع طوال بعد أن رفض مساعدة الغرب التي عرضها لإنقاذ الغواصة التي غرقت في البحر الشمالي وعلى متنها 118 من أفراد طاقمها. وحين جاءت فرصة لاري كينغ نجم «سي إن إن» الأشهر الذي حاول استعراض نجوميته وحدة أسئلته لدى استضافته لبوتين في برنامجه الشهير، بسؤاله عن كارثة الغواصة كورسك في كلمات مقتضبة.. «وماذا عن الغواصة كورسك؟». آنذاك اكتفى بوتين ببرهة صمت لم تدم طويلا، ليعيد السؤال إلى صاحبه: «ماذا عن (كورسك)؟.. (كورسك).. غرقت! قالها بوتين ولم يزد، على نحو اتسم بالكثير من السخرية التي أماطت اللثام عن تناقضات موقف من أكثر المواقف مأساوية وهو ما كان يميز الكثير من إجابات وتعليقات بوتين في مختلف المواقف. وفي هذا الصدد نذكر أيضا إجابته على سؤال توجهت به إحدى المشاركات في واحد من مؤتمراته ولقاءاته التي دائما ما يحضرها مسؤولون كثيرون، حول الجزاء الواجب الذي يستحقه الفاسدون ولصوص المال العام. قال: آنذاك.. «إنهم يستحقون الإعدام».. وحين ران على القاعة صمت القبور، ربما لأن روسيا كانت ولا تزال تحظر تطبيق أحكام الإعدام تحت ضغط البرلمان الأوروبي، سارع بوتين ليكسر هذا الصمت بكلمات موجزة تقول: «لكن ذلك ليس أسلوبنا».

ونذكر له أيضا ما قاله في فبراير عام 2008 تعليقا على شعبيته وتفسيرا لانتخابه لولايتين متتاليتين: «ليس هناك ما أخجل منه أمام الشعب الذي منحني أصواته كرئيس لروسيا الاتحادية. فلم أَكِل طوال تلك السنوات الثماني الماضية وواصلت الحرث كما (العبد في أروقة المطابخ) من مطلع الشمس وحتى غروبها». ومن أقواله أيضا: «إن انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كوارث القرن العشرين الجيوسياسية»، وإن «من لم يشعر بالأسى لسقوط الاتحاد السوفياتي.. إنسان بلا قلب، ومن يدعو إلى إعادة بناء نفس الاتحاد السوفياتي.. إنسان بلا عقل».

ومن اللافت في هذا الصدد أن بوتين طالما أبدى في معرض الكثير من إجاباته على أسئلة الكثيرين من الصحافي ين قدرا كبيرا من الإلمام بالتاريخ والعلاقات الدولية، وهو ما تجلى بعضه في التعبير عن إعجابه بالزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول الذي أعاد إلى الأذهان الكثير من مقولاته التي يتخذ بعضها نبراسا له ومنها: «إذا كان لك الخيار.. فلتختر الطريق الأكثر وعورة لأنك سوف تكون على يقين من أنك لن تصادف هناك منافسين». كما أنه وجد في التاريخ الأميركي ما ساند توجهاته إزاء العودة إلى سدة الحكم في الكرملين، حين قال: «إن الدستور الأميركي لم يكن يحظر الولاية الثالثة للرؤساء الأميركيين حتى سنوات الحرب العالمية الثانية.. وقد حاولوا ذلك دون أن يفلح أي منهم بالولاية الثالثة»، وإن أشار إلى أن الرئيس الأميركي روزفلت استمر في الحكم لأربع ولايات متعاقبة.

هكذا يبدو بوتين دائما أكثر تحفزا واستعدادا لمنازلة محدثيه متسلحا بما في حوزته من ملفات، وما يملكه من معلومات، وما تعلمه من فنون الحوار والمبارزة الكلامية خلال سنوات دراسته في الـ«كي جي بي»، تسانده ترسانة هائلة من المفردات التي يحرص على انتقائها بعناية فائقة، متسلحا بالوفير من المعلومات والتواريخ والأرقام، تختزنها ذاكرة حديدية صقلتها وشحذتها تدريباته في واحدة من أعتى المؤسسات الأمنية العالمية، بما يضع محاوريه في المكان الذي يريده، وليس الذي ينشده جليسه، تأكيدا على أنه لا يزال في موسكو الأكثر جدارة بامتلاك ناصية القول والسرد والتحليل وبما يجعله الأحق بالقول الفصل والكلمة العليا. هكذا في موسكو يقولون!