كيف غطى الإعلام التركي الاحتجاجات؟

رئيس تحرير صحيفة «حرييت ديلي نيوز» لـ «الشرق الأوسط»: المظاهرات تتواصل في «تقسيم» ومحطات تلفزيونية «تبث صورا لمهمة استكشاف المريخ»

متظاهرون اتراك في ميدان تقسيم بمدينة اسطنبول (أ.ب)
TT

كان لافتا، في الأزمة التركية الأخيرة، أن وسائل الإعلام التركية، خاصة المحطات التلفزيونية الكبيرة، تجاهلت الحدث بشكل مثير للاستغراب، ما حمل المتظاهرين على تحويل غضبهم في اليوم الثاني من المظاهرات إلى وسائل الإعلام التي اتهموها بالانحياز. وهتف المتظاهرون الذين تجمعوا أمام مبنى «مجموعة دوجوس هولدينغ» الإعلامية التي تملك خصوصا الشبكة الإخبارية «إن تي في»: «الصحافة مبيعة» أو «لا نريد صحافة خاضعة».

وهكذا حلت وسائل التواصل الاجتماعي محل وسائل الإعلام التركية في تغطية وقائع المظاهرات التي تعصف بالبلاد منذ نحو عشرة أيام، بعد أن يئس المتظاهرون من إمكانية إيصال صوتهم وصورتهم عبر وسائل الإعلام التركية، العامة والخاصة، التي تجاهل كثير منها هذه المظاهرات، إلى حد «قيام بعضها ببث صور للحمامات الجميلة في ميدان (تقسيم) الذي كان يشهد في الوقت نفسه أعنف المواجهات» كما يقول مراد يتكن، رئيس تحرير صحيفة «حرييت ديلي نيوز». ويشير يتكن لـ«الشرق الأوسط» إلى أن إحدى المحطات «كانت تبث صورا لمهمة استكشاف المريخ».

ويشير يتكن إلى استثناءين فقط، خرقا الصمت الإعلامي المفروض على هذه المظاهرات، أحدهما هو محطة «خلق تي في» التي سرعان ما تحولت إلى محط اهتمام الجميع لمتابعة أخبار المظاهرات والأحداث التي رافقتها، بالإضافة إلى محطة ثانية هي تلفزيون «+1» التي يمتلكها الصحافي المخضرم أوغور دونار، فهاتان المحطتان كسرتا جدار الصمت.

وفيما يبدو مستغربا، على وسائل إعلام تتمتع بحرية مقبولة، أن تقوم بما قامت به وسائل الإعلام التركية التي لا يوجد عليها أي نوع من الرقابة المسبقة وفقا للقوانين السائدة، يقول صحافي تركي كبير رفض ذكر اسمه إن الكثير من الصحافيين الأتراك يشكون من «الرقابة الذاتية» التي يمارسها عليهم أصحاب الصحف.

ويقول الصحافي التركي إن المستثمرين وأصحاب المحطات ليسوا إعلاميين إجمالا، إنما رجال أعمال. وهؤلاء يرتبطون بمصالحهم مع الحكومة في كثير من المجالات ولا يريدون التأثير في هذه المصالح سلبا.

وتعتبر مجموعة «دوغان» من أكبر المجموعات التي تسيطر على الإعلام التركي، فهي تدير «قنال دي» أكثر المحطات التلفزيونية انتشارا، و«سي إن إن تورك»، كما تدير صحف «حرييت» و«راديكال» و«ملييت» و«وطن» وخمس صحف أخرى، ما جعل كثيرين يلقبون صاحب المجموعة أيدن دوغان بـ«ميردوخ التركي»، فهو يحتكر 40 في المائة من سوق الإعلان التركية، و80 في المائة من سوق التوزيع الصحافي.

ولم تكن علاقات دوغان بحزب «العدالة والتنمية» الحاكم من العلاقات التي يضرب بها المثل، فهو كان دوما على النقيض، حتى إنه شن في عام 2008 حربا لا مثيل لها على الحزب وعلى أردوغان، قبل أن تستطيع الحكومة ترويضه من خلال الضغط عليه ماليا، بفرضها غرامات كبيرة جدا على مجموعته.

وهناك مجموعات أخرى تسيطر على السوق وهي مجموعة «صباح الإعلامية» التي تصدر صحيفة «صباح» اليومية الواسعة الانتشار وعددا من المجلات الأسبوعية المتخصصة، و«مجموعة إخلاص» الصحافية، و«مجموعة دوغوش» الصحافية و«مجموعة آقشام».

أما جماعة «فتح الله غولان» الإسلامية التي كانت قريبة إلى حد كبير من التيارات الإسلامية الحاكمة فهي تمتلك بدورها مجموعة إعلامية كبيرة تتصدرها صحيفة «زمان» الناطقة بالتركية التي توزع نحو مليون نسخة يوميا، وصحيفة «توداي زمان» الناطقة بالإنجليزية ووكالة «جيهان للأنباء»، بالإضافة إلى مجلات أسبوعية وفصلية.

لكن هذه الوسائل ميزت نفسها بتوجيه انتقادات إلى أردوغان، ما حمل الكثيرين على التساؤل عن متانة العلاقة التي تربطه بغولان. فقد كتب شاهين الباي في جريدة أن على أردوغان «تغيير نفسه». وقال: «رئيس الوزراء اتبع سياسات كان يراعي بها حساسية مكونات الشعب التركي حتى انتخابات عام 2011، حيث حصد أكثر من 50 في المائة من الأصوات، ومن ثم بدأ بتقليص سيطرة الجيش على الحكم، ومن ثم بدأ بنفخ نفسه، وزادت الثقة بنفسه، واعتقد أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء وكيف يشاء. وبدأ بعدم الاستماع إلى أي صوت ولا إلى النصائح. فقط أصبح يتذكر المواطن قبل الانتخابات، وأصبح يسلك دربا لا يتماشى مع الحريات والديمقراطية». ليخلص الباي إلى القول: «حسب وجهة نظري فإن رجب طيب أردوغان يجب أن يستفيق على نفسه ويغيرها ويرجع إلى أردوغان ما قبل 2011».

يذكر أن منظمة «مراسلون بلا حدود» التي تعمل في الدفاع عن حرية الإعلام، قالت العام الماضي إن عدد الصحافيين المسجونين في تركيا أكبر منه في الصين أو إريتريا أو إيران أو سوريا.. الأمر الذي يجعلها «أكبر سجن للصحافيين في العالم». وأغلب الصحافيين السجناء محبوسون على ذمة المحاكمة.

وقالت «مراسلون بلا حدود» إن سبب ارتفاع عدد المعتقلين يرجع إلى القوانين القمعية والنصوص القانونية الفضفاضة والغامضة، والقضاء شديد التشكك، ولا يمكن تغيير ذلك إلا من خلال إصلاح كامل لقانون مكافحة الإرهاب وغيره من المواد القانونية.

وقالت المنظمة إن 72 من العاملين في الإعلام إجمالا محتجزون حاليا، بينهم ما لا يقل عن 42 صحافيا وأربعة مساعدين إعلاميين احتجزوا بسبب عملهم.

وحتى صحيفة «يني صافاك» اليومية الإسلامية المؤيدة للحكومة نشرت مقالا بقلم علي بايراموغلو يتناول ما حدث ويتساءل في المقال الذي عنونه بـ«أي نوع من السلام هذا؟ أي قسوة هذه؟». ويحذر عدد من الصحف اليومية الإسلامية حزب العدالة والتنمية، الذي ينتمي إليه أردوغان، من مغبة هذه الممارسات تجاه المتنزه وتسمية جسر آخر على خليج البوسفور، ومن أنها قد تؤدي إلى فقدان النفوذ في مدينة يسيطرون عليها منذ عشرين عاما.

وأوضح مراد يتكين في صحيفة «حرييت» اليومية العلمانية الصادرة باللغة الإنجليزية أن خضوع أردوغان لإرادة المحتجين وإعادة النظر في المشروع والإبقاء على المتنزه سيكون مفاجأة كبرى، وربما تكون الأولى من نوعها، لكن أدى تصميمه وموقف الشرطة الصارم المتعنت إلى تحول المظاهرات السلمية المتواضعة إلى حركة احتجاجية شعبية. وتساءل علي بايراموغلو في صحيفة «يني صافاك» الإسلامية اليومية المؤيدة للحكومة: كيف تسمح القيادة السياسية للأمور بأن تتطور إلى هذا الحد؟ وكيف ترى السياسة آلية للتحدي وتنفيذ ما تريده؟ ويستطرد قائلا: «إذا كان هناك رد فعل شعبي، فلم لا تعلق الحكومة المشروع ولو بشكل مؤقت وتتحدث مع المحتجين؟ لماذا هذا العناد؟ لماذا تتصرف بهذه الخشونة والعنف؟». وأوضح إحسان يلمظ في صحيفة «تودايز زمان» الإسلامية اليومية الصادرة باللغة الإنجليزية أن الحكومة ليست مستعدة للإنصات، لكن ربما يكون أمر متنزه «تقسيم» هو القشة التي تقصم ظهر البعير، وربما تمهد الطريق في النهاية إلى خسارة الإسلاميين (السابقين) انتخابيا للمدينة التي يديرون شؤونها خلال العشرين عاما الماضية، بحسب هيئة «بي بي سي».

ويكتب أحمد خان في صحيفة «حرييت» اليومية التي تتمتع بشعبية كبيرة: «حققت الحكومة ما لم تنجح أحزاب وحركة المعارضة في تحقيقه خلال الأعوام العشرة الماضية. لقد ازدادت المعارضة للحكومة، وعزز ما حدث جبهة المعارضة». ومن صحيفة «راديكال» الليبرالية يكتب عصمت بيركان: «آلاف الأشخاص الذين لم يلجأوا إلى العنف أبدا ولم يفعلوا أي شيء سوى الجلوس والهتاف بالشعارات واختنقوا بالغاز المسيل للدموع. إنهم ليسوا حشرات، بل مواطنون. إنهم ليسوا أعداء للشرطة، بل مواطنون يجب توفير الخدمات والأمن لهم. للأسف، لم تنظر قوات الشرطة للمواطنين بوصفهم أعداء فحسب، بل أيضا كحشرات وخنقتهم بالغاز».

وكتب راسين غاكير في صحيفة «فاتان» العلمانية: «في كل العالم إذا استخدمت الدولة القوة ضد مواطنيها، يعد ذلك دليلا على ضعفها وسوء ممارساتها. وإذا اعتقدت الدولة أن ما يحدث صحيح، ترسل سياسيين أو مسؤولين محليين أو كليهما بدلا من قوات الشرطة لإقناع المحتجين».

ويذكر أحمد توران في صحيفة «زمان» اليومية الإسلامية أن الخطاب المتعنت العنيد بغيض. بالنظر إلى الظروف، سيكون من الصعب جدا على الحكومة تحقيق أي نجاح في الانتخابات المحلية إذا أجريت خلال فصل الخريف المقبل. وسيكون من المزعج تأمل مدى الفشل في الانتخابات الأولى.