هل يمكن لأزمة «شارلي» حل مشكلات الصحافة الفرنسية؟

جاءت كـ«قبلة الحياة» لصحف يومية وأسبوعية كانت تحتضر

TT

كانت اللافتة المكتوب عليها «شكرا لك أيتها الصحافة» هي إحدى اللافتات التي كان يحملها كثيرون من المشاركين في المظاهرات العارمة التي اجتاحت أرجاء فرنسا الأسبوع الماضي، دعما لحرية الرأي. اجتذبت المسيرات التي اندلعت على وقع الاغتيال الوحشي لرسامي كاريكاتير يعملون في مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة يوم 7 يناير (كانون الثاني)، أشخاص من مختلف الخلفيات ومن جميع ألوان الطيف الآيديولوجي.

ولكن من المؤكد أن الشعور الإيجابي الذي ظهر تجاه الصحافة بصفة خاصة، ووسائل الإعلام بصفة عامة، قد فاجأ كثيرا من المراقبين، وذلك لأن الصحافيين ظلوا، وفقا لاستطلاعات الرأي، من بين أكثر الفئات الأدنى شعبية في فرنسا، حتى إنهم أدنى شعبية من وكلاء العقارات، لمدة تزيد على عقد من الزمن. ولذلك، هل نحن إزاء تغير في الصورة السلبية للصحافيين ووسائل الإعلام بوجه عام؟ وقد يكون من أسباب هذا التغير في المشاعر أن البشر غالبا ما يكتشفون أنهم، في النهاية، يحبون ما يشعرون أنهم على وشك فقدانه.

قد يشكو المرء من حرية الصحافة، ولكن ينتهي به المطاف إلى الدفاع عنها بضراوة حين تتعرض للتهديد.

ويبقى السؤال هو: هل سيساعد هذا الفيضان المتدفق المفاجئ من الحب الصحافة على تجاوز كثير من المشكلات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية التي تهدد بانقراض جزء منها على الأقل؟ خلال السنوات الـ10 الماضية، اختفى ما يقرب من ربع الصحف المطبوعة، أو اضطرت إلى خفض عدد صفحاتها. ولا تستطيع كل الصحف والمجلات الفرنسية تقريبا، باستثناء صحيفة واحدة أو صحيفتين، أن تصمد دون الحصول على معونات مباشرة وغير مباشرة من الحكومة. وظلت كل الصحف اليومية الصادرة في البلاد، باستثناء 4 منها فقط، لسنوات على حافة إشهار الإفلاس.

وكانت مجلة «شارلي إيبدو» نفسها، التي تحولت الآن إلى رمز، على وشك الإغلاق في الوقت الذي تعرضت فيه لهجوم المتطرفين. وانخفض عدد مشتركيها إلى أقل من 10 آلاف مشترك، وهو أدنى مستوى لها منذ سنوات، بينما لم يزد عدد نسخها المطبوعة عن 60 ألف نسخة، ولكن يوم الأربعاء الماضي، باعت خلال ساعات نحو 3 ملايين مليون نسخة من العدد الذي صدر بعد تعرضها للهجوم. وحتى وقت كتابة هذا التقرير، كان المديرون المؤقتون للصحيفة الأسبوعية يتحدثون عن طباعة 3.5 مليون نسخة إضافية. ويمكن للدخل الذي ستجنيه مجلة «شارلي إيبدو» من بيع نسخ هذا العدد فقط، أن يضمن لها البقاء لمدة عامين آخرين على الأقل.

كذلك عادت زيادة اهتمام الرأي العام بالنفع على مطبوعات أخرى، حيث ارتفع معدل توزيع الصحف بنسبة 30 في المائة خلال ذلك الأسبوع المشحون بالمشاعر، وهو ما كان بمثابة «قبلة الحياة» لبعض الصحف اليومية والأسبوعية التي كانت تحتضر.

ولا يمكن بالتأكيد وصف الهجوم الذي تعرضت له مجلة «شارلي» بـ«صراع حضارات»، مثلما اقترح البعض، ولكنه يشير بالفعل إلى فشل بعض الأشخاص، بما فيهم المتشددون الذين يحملون الجنسية الفرنسية، في فهم الطبقات العميقة للثقافة الفرنسية.

ويحب الفرنسيون دسّ أنوفهم في المسائل المتعلقة بالسلطة أو الدين أو السياسة أو الأعمال التجارية، وهم يحبون الرسوم الكاريكاتيرية، والفنانين الكوميديين، ومثيري المشكلات الذين يسخرون من الشخصيات العظيمة والطيبة والنافذة والمصطنعة. وكلمة كاريكاتير نفسها، التي دخلت جميع اللغات تقريبا في جميع أنحاء العالم، أصلها فرنسي.

وعلى حد علمي، تعد فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تظهر فيها رسوم كاريكاتيرية في كل صحيفة، والأهم من ذلك، أنها تظهر في الصفحة الأولى في كثير من الصحف. وكذلك تعد الدولة الوحيدة التي يصل فيها رسامو الكاريكاتير والفنانون الساخرون إلى النجومية. فالجميع يعلم من هو جورج ولينسكي، وفرنسوا كافانا. وكان ستيفان تشاربونير، رئيس تحرير مجلة «شارلي»، المعروف باسم «شارب»، نجما مشهورا رغم قلة عدد الذين يشترون مجلته. كما بات بلانتو، رسام الكاريكاتير في الصفحة الأولى لصحيفة «لوموند»، الأشهر بين أعضاء هيئة تحرير الصحيفة اليومية بمنتهى السهولة.

وتتفرد فرنسا من عدة أوجه أخرى، فهي الدولة الوحيدة التي تحتوي كل نشرة إخبارية في محطات الإذاعة الرئيسية، على شخصية كوميدية تسخر من صانعي الأخبار ومن الأحداث. وتستضيف القنوات التلفزيونية الرئيسية رسامي كاريكاتير من أجل رسم صور كاريكاتيرية للشخصيات العظيمة أو النافذة أثناء إجراء مقابلات معها على الهواء مباشرة.

باستثناء اليابان، لا توجد دولة أخرى تشتري هذا العدد الكبير من مجلدات الرسوم الكارتونية مثلما تفعل فرنسا. لقد سمع الجميع عن تان تان، واستريكس باعتبارهما من أبرز الشخصيات الكرتونية الفرنسية، كذلك يقام أضخم مهرجان سنوي للرسوم الكاريكاتيرية والمجلدات الكارتونية المصورة في مدينة أنغوليم الفرنسية منذ عام 1974. كل هذا ليس غريبا، فالهجاء كان دوما أحد المكونات الرئيسية للأدب والثقافة الفرنسية بوجه عام.

ويحلق عمالقة مثل رابليه، وبومارشيه، وموليير، عاليا في سماء الأدب الفرنسي. ويشمل شعار رابليه «اعملوا ما شئتم» حرية قول المرء ما يريد. وهكذا لم ينج أي شخص من السخرية، بمن فيهم حراس أي معبد، وموظفي أي قصر، وحامل أي سيف أو صاحب سلطة.

وتتجلى في مدرسة كوميديا «الشارع» الفرنسية استساغة البلاد للاستخفاف بالمقدسات والاستفزاز من خلال شخصيات مثل جورج فيدو، وأوجين لابيش، من بين كثير من الأشخاص الآخرين، الذين يتطرقون إلى ما هو مسكوت عنه من أمور اجتماعية وسياسية ودينية.

كما أن الهجاء يعتبر أحد الموضوعات الرئيسية في كثير من الأعمال الأدبية الفرنسية الرفيعة. ويعتبر فولتير أستاذا في فن السخرية، أو على الأقل في المزاح. وتعد رواية «جاك القدري» لديدرو مثالا لقمة الإبداع الكوميدي الساخر. وحتى فيكتور هوغو نفسه، وهو أشد الكتاب الفرنسيين صرامة، سمح لنفسه بلحظات من الانحراف نحو السخرية، حتى في أعمال مأساوية مثل «الرجل الذي يضحك».

وما يدل على ازدهار سوق الفكاهة والسخرية في فرنسا تخصيص مسرح بالكامل لها في مدينة باريس وهو مسرح «الأوبرا كوميك»؛ حيث تحظى الأعمال الموسيقية المرحة الخفيفة، خصوصا للموسيقار جاك أوفنباخ، بإقبال ضخم. وقد يجد المرء مسارح وملاهي تقدم عروضا كوميدية ارتجالية في كل مدينة فرنسية تقريبا.

وكان نابليون يكره رسامي الكاريكاتير، مثلما يكرههم المتشددون اليوم، ومن أسباب ذلك إصرارهم على تصويره على شكل قزم، وذلك لكونه قصير القامة، ومع ذلك لم يجرؤ على إصدار أمر بقتلهم، وكان يؤكد على أن «4 صحف تعتبر أشد خطورة من 4 آلاف بندقية»، ولكنه كان يعرف حدوده في تحجيم الصحافة.

وكان يعاني ابن شقيق نابليون، لويس بونابرت، الذي سمى نفسه إمبراطورا مثل عمه، من الهلع من رسامي الكاريكاتير، خصوصا عندما كانوا يسخرون من لحيته المثيرة للضحك التي تشبه لحية الماعز الصغيرة.

وكثيرا ما يتفاخر الفرنسيون بحسهم الفكاهي، ويسخرون من جيرانهم الألمان لما يعرف عنهم من جدية. كما يعتقد بعض الفرنسيين أن الجزائريين يفتقرون إلى روح الدعابة، ومع ذلك، ورغم أصولهم الجزائرية، كان الأخوان كواشي، اللذين لم يزورا الجزائر على الإطلاق، استثناء لهذه القاعدة. في عام 1994، وفي خضم الفوضى التي تسبب فيها المتشددون في الجزائر، حضرت مهرجانا سنويا للضحك في وهران؛ حيث اكتشفت، لدهشتي، أن تمتع الجزائريين بروح السخرية من الأمور المقدسة ربما على نحو يفوق حكامهم السابقين من الفرنسيين. وتشير الأحداث المأساوية في باريس إلى وجود صراع ثقافات، ولكنها لا تغلق جميع الأبواب أمام فرص الحوار والتفاهم. وفي الوقت الذي يزدهر فيه توزيع العدد الجديد من «شارلي إيبدو»، كان فولتير يتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا بمؤلفه «رسالة في التسامح».