العودة إلى كوسوفو

البلقان تحت الأضواء مجددا.. والصحافيون المخضرمون يسترجعون تجاربهم

TT

عادت منطقة البلقان، لا سيما الجمهوريات التي كانت تشكل يوغسلافيا السابقة، مرة أخرى كما كانت أثناء «العشرية الدموية»، نهاية القرن العشرين، للأضواء وصدارة الصحف الدولية. وعاد الصحافيون من جديد وامتلأت بهم الفنادق، ومن تابع وسائل الإعلام في الأسبوع الماضي شاهد كيف تسلقت «كوسوفو» سلم الأجندات الإخبارية لتصعد إلى المرتبة الأولى مجددا، لكن هذه المرة ليس بسبب القتل أو الحرب، إنما بسبب إعلان استقلالها. فمع هدوء الأوضاع وتوقف القتال في كوسوفو سنة 1999، انسحبت الكثير من وسائل الإعلام، لا سيما الفضائيات من الساحة، أو قللت من الاهتمام بها، مكتفية من حين لآخر بخبر منقول عن هذه الوكالة أو تلك، لكن «عودة» الإعلام للمنطقة حرك المشاعر في عدد كبير من الصحافيين الذين غطوا الحرب طوال تلك الفترة، حيث ثمة فرق كبير بين الظروف التي يعمل بها الآتون إلى البلاد اليوم، والظروف التي مر بها من غطوا سنوات الحرب. وحول تعاطي الإعلام مع منطقة البلقان وحضوره زمن الحرب وفي الوقت الراهن ، يتذكر الصحافي أحمد القاضي في حديث مع «الشرق الأوسط»، إلى أن العمل «كان محفوفا بالمخاطر، حيث الحركة والتنقل تتم في غالب الأحيان برا، وكنا نتعرض على الحدود الطائفية للتفتيش والانتظار ساعات طويلة جدا»، ويضيف: «كانت هناك رحلات جوية للأمم المتحدة، وكان يجب الحصول على تصريح خاص للسماح لنا باستخدام تلك الطائرات»، لكن المخاطر تظل كما يقول برا وجوا «كانت طائرات الأمم المتحدة التي يستقلها الصحافيون مستهدفة، وكان بالإمكان إسقاطها بقذيفة في أية لحظة، وكثيرا ما أوقفت الأمم المتحدة رحلاتها لتعرض طائراتها لإطلاق نار أو تهديدات بإسقاطها».

لم تكن حياة الصحافيين المنتدبين من قِبل مؤسساتهم أو المراسلين في موقع الحدث زمن الحرب آمنة ومطمئنة ورغيدة، ليس على مستوى الحياة الشخصية، بل المهنية أيضا، ففي أثناء الحرب لم تكن تتوفر في مناطق النزاع قطع غيار أو أفلام لكاميرات التصوير، بل لم تكن الأقلام والأوراق متوفرة، لذلك كان لزاما على الصحافي أخذ كل شيء معه من بلده أو المكان الذي قدم منه أو قبل الدخول إلى حدود النار ومناطق الاشتباك. إلى جانب عدم توفر الغذاء اللازم في مناطق الحروب، وانقطاع الماء والكهرباء والغاز ومعاناة السكان، كان منظر القتلى والجرحى والمهجرين والمآسي الإنسانية الأخرى تفعل فعلها في وجدان الصحافي ونظرته للأمور، وتؤثر في أدائه الوظيفي سلبا وإيجابا. زد على ذلك ملل الناس المعذبين والمكتوين بنار الحرب من الصحافيين، لذلك غالبا ما أتهم الصحافيون بأنهم يتاجرون بمعاناتهم ويعيشون على حساب واقعهم المر وأشلاء دمائهم ومشاهد بيوتهم ومساجدهم المحترقة «عندما توجه إليهم الكاميرا يسألك الناس: ماذا تفعل؟ نريد أمناً، نريد أكلاً، نريد ماء..».

ويقول عماد عفانة، الذي عمل مراسلا لـ «إم بي سي» إضافة إلى عدد من القنوات العربية، على أن «الصحافيين العرب عملوا أثناء الحرب في ظروف صعبة للغاية وكانت حياتهم معرضة للخطر أكثر من زملائهم الغربيين»، ويضرب أمثلة على ذلك «المراسلون الأجانب وتحديدا الغربيين كانوا يتمتعون بحماية القوات الدولية القادمة من دول أولئك الصحافيين، ثم إن الصحافيين الغربيين كان لديهم مطلق الحرية في التجول في مناطق الاشتباكات، بعكس المراسل العربي الذي كان محسوبا على جهة معينة حتى وإن لم يكن كذلك، فأثناء الحرب كان الإعلام في قبضة المراكز الغربية، فالحجز عبر الأقمار الصناعية كان يتم عبر الشركات الغربية، وحتى الصور كانت تؤخذ من تلك المراكز، وهو عمل لا يمكن أبدا أن يكون بعيدا عن وجهة نظر تلك المراكز. وكانت المحطات التلفزيونية العربية «جميعها تقريبا»، تتعامل مع شركة «دبل يو تي إن» كوسيط لنقل الصور وتقارير المراسلين، وكانت الشركة المذكورة تأخذ نحو 2000 دولار على كل تقرير. وليست الصورة فحسب، التي تؤخذ من الوكالات الغربية، بل الخبر غالبا ما تكون طريقة عرضه غربية، حتى وإن كان هناك تقرير خاص بذلك الخصوص من المراسل المعتمد.

الوضع الآن اختلف كما يقول أحمد القاضي، فقد «ظهرت محطات تلفزيونية جديدة، وأصبح هناك مراسلون أكفاء لبعض الصحف..»، و«لو كانت الحرب في هذا الوقت لكانت التغطية مختلفة عما كانت عليه قبل 12 سنة، لقد تطور الإعلام العربي في بعض مؤسساته».

أما غياب كثير من الوجوه الإعلامية التي كانت بارزة في الساحة البلقانية، يرجعه البعض لأسباب مادية،وأخرى تتعلق بسياسة وسائل الإعلام التي يعملون لصالحها.. الأسباب المادية وراء ذلك، فعندما يقارن الصحافي العربي ما يتسلمه من المحطة أو الجريدة التي يعمل لها مع زملائه الغربيين، يشعر بالغبن، وهناك مَن وجدوا عروضا أفضل في مؤسسات غربية وغيرها فالتحقوا بها، وبعضهم تركوا العمل الصحافي كلية وعملوا في التجارة أو مجالات أخرى، توفر لهم دخلا أفضل من العمل الإعلامي، لكن البعض لا يزال صامدا.