بلدان «مستعصية».. على الصحافيين

زيارة سيمفونية نيويورك لكوريا الشمالية تحولت حدثا أساسيا.. سيما مع رفع الحظر مؤقتا عن الإعلام

شغلت زيارة الفرقة لكوريا الشمالية الإعلام الأميركي مؤخرا
TT

لأول مرة منذ حرب كوريا (انتهت سنة 1953)، رفع العلم الاميركي، وعزف السلام الجمهوري الاميركي، في بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية، وذلك خلال العرض الذي قدمته فرقة نيويورك السيمفونية في مبادرة ثقافية، يعتقد انها ستفتح الباب امام تحسن العلاقات بين البلدين. لكن كان هناك سبب اضافي للاعلام الغربي ان يكون متحمسا خلال هذه الفعالية التي حصلت قبل أسبوعين، وذلك انه لأول مرة، زار كوريا الشمالية وفد من الصحافيين الاميركيين، بعدما كانت زياراتهم في الماضي فردية، ونادرة. وذلك لسببين: اولا: عدم حماس وزارة الخارجية الاميركية لزيارات صحافيين الى بلد لا تعترف به. ثانيا: تشدد كوريا الشمالية في السماح للاجانب، صحافيين وغير صحافيين، بزيارتها.

لكن، خلال زيارة الوفد الموسيقي الاميركي، فوجئ الصحافيون الاميركيون بترحيب غير عادي بهم، وبتوفير كل وسائل الراحة، والاتصالات الخارجية لهم: تلفونات، انترنت، ارسال صور وافلام باقمار فضائية، وتوفير مترجمين ومترجمات.

ولم يخف الصحافيون الاميركيون دهشتهم وبعضهم يزور كوريا الشمالية لأول مرة: كتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن «نقل الضيوف في سيارات وحافلات روسية. ومشاهدة اكثر من عربة يقودها ثور. ومنازل بائسة، في كل واحد لمبة كهرباء واحدة، او مصباح غاز. واطعام الضيوف بلحم الضأن، وبيض السمان، وشوربة طير الدراج».

وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» عن «اجسام جوعى، وظلام دامس، وبؤس».

وكتبت وكالة «اسوشيتدبرس» عن «مواطنين في شوارع بيونغ يانغ لم يعرفوا ان الفرقة السيمفونية الاميركية تزور بلدهم، بل ولم يسمعوا بها».

ولاحظ مراسل تلفزيون «سي. ان. ان» ان الحكومة امرت بنزع اللافتات العملاقة التي تهاجم الولايات المتحدة، وتدعو للقضاء على الامبريالية الاميركية، والتي ظلت مرفوعة في الشوارع لسنوات.

من جهة ثانية اكدت زيارة الوفدين الموسيقي والصحافي لكوريا الشمالية الفرق الكبير بين الصحافي والدبلوماسي. الاول يقدر على ان يذهب الى اي دولة في كثير من الأحيان، ويكتب عن اي شيء فيها (حتى اذا كانت دولته لا تعترف بها). والثاني لا يذهب الا اذا اعترفت دولته بها (وحتى اذا ذهب، لا بد ان يتقيد بسياسة حكومته). لكن، انتقد جمهوريون ومحافظون في صحف وتلفزيونات اميركية هذه الزيارة الموسيقية والصحافية المزدوجة.

وكتبت مجلة «ناشونال ريفيو»: «ليس هذا الا تملقا لنظام دكتاتوري فاسد، وضعه بوش، قبل سبع سنوات، في قائمة الدول الشريرة». واشار آخرون الى ان الوفود الموسيقية والصحافية لا تفيد احيانا، وقالوا ان زيارة فرقة سيمفونية بوسطن (ولاية ماساجوستس) الى روسيا سنة 1956، بهدف تحسين العلاقات، لم تمنع روسيا من غزو المجر في تلك السنة. وان زيارة فرقة سيمفونية فلادلفيا (ولاية بنسلفانيا) الى الصين سنة 1973 ساعدت على تحسين العلاقات بين البلدين، لكن استمر التحالف الشيوعي الصيني الروسي ضد الغرب.

وعن الصحافيين، كتب رتش نويز، خبير في مركز «ميديا ريسيرش» (ابحاث الاعلام) في واشنطن، عن تملقهم للحكام الدكتاتوريين. واشار الى كيم ايل سونغ، رئيس كوريا الشمالية السابق، وابنه، الرئيس الحالي. واشار الى فيدل كاسترو، رئيس كوبا السابق، وشقيقه، الرئيس الحالي. وعن كاسترو قال: «يظل الاعلام الاميركي الليبرالي، الذي لم يتردد في ادانة حكام دكتاتوريين مثل الجنرال بينوشيه في شيلي، يتردد في ادانة كاسترو. لاكثر من نصف قرن، ظهرت تقارير ايجابية، وايجابية جدا، عن كاسترو. بداية بتقرير «نيويورك تايمز» الذي قال: «يرى كل الناس هنا ان القدر ارسل كاسترو». وقال نويز ان الصحافيين الاميركيين ظلوا يزورون كوبا رغم ان الحكومة الاميركية تمنع اي مواطن اميركي من ذلك. (وهناك عقوبات صارمة، لكنها لم تنفذ، على الاقل ضد اي صحافي).

وفي سنة 1997، كان تلفزيون «سي ان ان» اول جهاز اعلامي اميركي يؤسس مكتبا رسميا في كوبا منذ ثورة كاسترو سنة 1959. لكن، منذ البداية، انتقد ذلك اعلاميون وسياسيون جمهوريون. ومؤخرا، انضم الى حملة النقد تلفزيون «فوكس» اليميني، الذي ينافس «سي. ان. ان». وقال فيه المعلق بيل اورايلي: «قالوا انهم يريدون نقل حقيقة دكتاتور الى الشعب الاميركي، لكنهم اعطوا الدكتاتور منبرا ليدافع عن نفسه. وشتان ما بين هذا وذاك».

لكن، رغم هذا النقد من الجمهوريين واليمينيين، تبقى حقيقة ان الصحافيين اكثر جرأة وشجاعة من الدبلوماسيين. وحتى اليوم، يظل الاعلام الاميركي اكثر ودا نحو كوبا من الحكومة الاميركية. ويظل الاعلام الاميركي يتحدث عن السبب، وهو «خضوع» البيت الابيض والكونغرس امام لوبي (الاغنياء) المهاجرين من كوبا الموجودين في ولاية فلوريدا. وهناك سبب ثان، وهو ان الصحافيين يزورون كوبا ويكتبون عنها، بينما لا يكتب الدبلوماسيون عن كوبا لانه لا توجد علاقات دبلوماسية معها.

ويوجد مثال آخر للهوة بين انفتاح الاعلام الاميركي وانغلاق الحكومة الاميركية: في نيبال.

لان نيبال تقع تحت دائرة النفوذ الهندية، ولأن الهند ايدت، لسنوات طويلة، النظام الملكي في نيبال، ظلت الحكومة الاميركية حذرة في تأييد المظاهرات المعادية للملك غيانندرا التي بدأت في نيبال من قبل ثلاث سنوات، وزادت خلال السنة الماضية. في البداية، اهمل الاعلام الاميركي نيبال، ايضا، ليس فقط لاعتقاده، مثل الحكومة الاميركية، ان نيبال لن تخرج عن دائرة النفوذ الهندية، ولكن، ايضا، لانها بعيدة، وصغيرة، وغير مهمة، ولا يهتم بها القارئ الاميركي العادي.

لكن، اهتم الاعلامي الاميركي بالجانب الثقافي لنيبال، والذي تمثل في متابعة سفر ممثلين وممثلات في السينما والتلفزيون الى كاتاماندو، عاصمة نيبال، والدعاية لمعابد وممارسات دينية. غير ان المتظاهرين في نيبال فاجأوا الصحافيين والحكومة الاميركية، وحتى ملكهم. في البداية، طلبوا حكومة منتخبة، بدلا عن الحكومة التي كان يعينها الملك. وعندما وافق، طلبوا سلطات اكثر للحكومة. وعندما وافق، طلبوا ملكية دستورية. وعندما وافق، طلبوا، او طلب بعضهم على الاقل، الغاء الملكية.

واخيرا، اثار هذا اهتمام الاعلام الاميركي. واثارت صورة نشرتها «نيويورك تايمز» ضجة: الملك غيانندرا يقع في حفرة، والمتظاهرون يرمونه بالبيض الفاسد. هل ساعدت التغطية الاعلامية على تغيير موقف الحكومة الاميركية؟ صار ذلك واضحا. مؤخرا، اصدرت الخارجية الاميركية بيانا قالت فيه: «نرحب بالاتفاقية بين الاطراف المختلفة في نيبال. ونؤمن ان انتخابات حرة وعادلة هي هدف كل النيباليين، في الهضاب، وفي الجبال، وفي الوديان. والولايات المتحدة ملتزمة بان تساعد على تحقيق هذه الاهداف التاريخية».

ومثلما كانت الحكومة الاميركية تتحاشى اغضاب الهند في علاقتها مع نيبال، لا تزال تتحاشى اغضاب الصين في علاقتها مع اقليم التبت (كان مستقلا، قبل ان تغزو الصين سنة 1963، وتجبر الدلاي لاما على الهروب، حتى اليوم). ومثلما كان اهتمام الاعلام الاميركي بنيبال، في البداية، اهتمام ممثلين وممثلات، وديانات وروحانيات كان اهتمامه بالتبت.

وكتب جون فوستر، استاذ في جامعة روشستر، ومتخصص في شؤون التبت:

«ظل الاعلام الاميركي يهتم بالتبت في نطاق رواية «الافق المفقود» عن جنة «شانغري لاي». وينقل صورة شعب بسيط وساذج، ولا يعرف كثيرا عن امور الحياة الحديثة». واضاف: «في نفس الوقت، يعرف الاميركيون اهمية الصين بالنسبة لهم، لا الاهمية السياسية، ولا العسكرية، ولكن الاقتصادية».

لكنه قال: «مؤخرا، مع زيادة اهتمام الاعلام الاميركي بحقوق الانسان في الصين، وخاصة مع اقتراب دورة الالعاب الاولمبية هناك، زاد اهتمامه بحقوق الانسان في التبت».

هل سيقدر الاعلام الاميركي على ان يقلل من مجاملة الحكومة الاميركية للصين في مجال حقوق الانسان في التبت؟ مؤخرا، انتقل اهتمام الاعلام الاميركي بالتبت من متابعة زيارات الممثلين والممثلات لها الى متابعة حقوق الانسان فيها. بل ان عددا كبير من هؤلاء بدا، هو الآخر، يهتم بحقوق الانسان في التبت. ولن تقدر حكومة الصين على تجاهل ذلك، مثلما انها لم تقدر على مواجهة نقد الاعلام الاميركي لها في موضوع دارفور (لأنها تساند حكومة السودان المتهمة بالابادة).

ومرة اخرى، يقدر الصحافيون على ان يذهبوا الى التبت ويكتبوا عنها، بينما لا يقدر الدبلوماسيون في بيكنغ على زيارة التبت الا بإذن من وزارة الخارجية الصينية.

من جهة ثانية كان لافتا مؤخرا، اصدار روبين رايت، صحافية مع صحيفة «واشنطن بوست» كتاب «أحلام واشباح» عن السياسة الاميركية في الشرق الاوسط. انتقدتها في مجالات كثيرة، منها ايران. واشارت الى ان العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مقطوعة منذ ثلاثين سنة تقريبا. وسالت: «كيف تعرف الخارجية الاميركية ما يحدث في ايران في غياب سفارة فيها؟» واشارت الى دورها هي كصحافية، والى المرات الكثيرة التي زارت فيها ايران.

ويؤكد هذا الهوة الكبيرة بين انفتاح الصحافيين الاميركيين على «العدو» وانغلاق الدبلوماسيين الاميركيين نحو «العدو».

لهذا، مثل مبادرات السيمفونية مع كوريا الشمالية، ومع روسيا، والمصارعة مع ايران، وكرة البنغ بونغ مع الصين، تلعب جولات الصحافيين في دول «العدو» دورا هاما، خاصة في غياب علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة ودول تراها عدوة لها، او كانت عدوة لها.

ويبدو ذلك واضحا، ايضا، في تغطية الحرب ضد الارهاب: قابل صحافيون اميركيون «اعداء» لاميركا في افغانستان، والعراق، والصومال، والشيشان، وكشمير، وجزيرة مدندناو في الفليبين. لم يتنازلوا عن حبهم وولائهم لوطنهم، لكنهم، كما اثبتوا في الماضي، يرون ان الاتصال افضل من المقاطعة، وان الانفتاح افضل من الانغلاق، حتى مع «العدو».