ساركوزي والإعلام.. بين العصا والجزرة

الرئيس الفرنسي غزا الصحافة.. وبات ينافس وزوجته كبار المشاهير

لم يقل الاهتمام بساركوزي حتى بعد انتهاء حملته الإنتخابية (أ.ف.ب)
TT

حتى قبل أن يعتلي سدّة الحكم، كان الفرنسيون قد عرفوا كل شيء عن رئيسهم نيكولا ساركوزي: شبابه، علاقته بالإعلام، بالدين، مشاكله العائلية، علاقاته العاطفية.... حياته الخاصة أضحت كالمسلسل الذي أصبح الفرنسيون يتابعون حلقاته على أغلفة المجلات والصفحات الأولى للجرائد أولاً بأول. هي بلا شك ظاهرة جديدة تدخل المشهد الإعلامي الفرنسي إذا علمنا انه لم يسبق لرئيس فرنسي منذ قيام الجمهورية الخامسة أن احتل مثل هذه المساحة الواسعة في الإعلام حتى أكثرهم شعبية وهو الجنرال ديغول، كما أن تقليد الحكام الفرنسيين كان يقضي بالتكتّم على تفاصيل الحياة الخاصة والابتعاد قدر المستطاع عن أضواء الصحافة الفضولية. فالرئيس فرانسوا متران مثلاً استطاع أن يحتفظ لنفسه طويلاً بأسرار خطيرة كمعاناته من المرض الخبيث، ووجود ابنة غير شرعية في حياته تدعى «ميزارين»، لم يتّعرف عليها الفرنسيون إلا بعد وفاته، كما أن الرئيس شيراك كان يمنع الصحافة من التعرض لحياته الخاصة ولم يستطع الصحافيون إلى غاية يومنا هذا الاقتراب أو تصوير ابنته المريضة عقلياًً. على أن الأوضاع تختلف مع الرئيس الجديد الذي تربطه بوسائل الإعلام علاقة قوية تتأرجح بين الجاذبية وحب السيطرة، وتميزها براعة هذا السياسي في احتراف فن مخاطبة وسائل الإعلام. فهو أول الحكام الفرنسيين الذي يطبق المبدأ الانجلوسكسوني الذي يؤمن بأن التّحكم في الأجندة السياسية يستدعي «إطعام الآلة الإعلامية»: خلق أحداث جديدة كل يوم، احتلال المكان وجعل كل شيء على مسمع ومرأى من الإعلام، وهو ما يسميه خبراء الاتصال البريطانيون «صنع النشرة الجوية». أداؤه الجّيد يستلهمه أيضاً من حبه القديم للصحافة «حلم الطفولة» التي كاد يمتهنها لولا تأثير الأهل في تغيير مساره المهني إلى المحاماة ومن ثم إلى السياسة، ولكن أيضا من خبرته في ميدان العلاقات العامة التي مكنته من تكوين شبكة قوية من الصداقات في الوسط الإعلامي لا سيّما حين أشرف على تنظيم الحملة الإعلامية للمرشح إدوارد بلدور سنة 1995 وحين كان عمدة لدائرة «نويي سورسان الراقية».

رغم ما يقال من محاولة ساركوزي التلاعب والتأثير في وسائل الإعلام من اجل خدمة صورته لدى الناخبين وتنديد الإعلاميين أنفسهم بذالك في عدة مناسبات، إلا أن الصحافة نفسها تستفيد من هذه الوضعية. فهي لا تمانع في التعرض لكل صغيرة وكبيرة في حياته بل وتعطي الأولوية للأخبار المتعلقة بحياته الخاصة على حساب أحداث سياسية واجتماعية قد تكون أكثر أهمية بالنسبة للفرنسيين، كما فعلت معظم الجرائد والصحف ـ حتى الأكثر جّدية كـ «اللومند والفيغار» ـ حين خصّصت الصفحات الأولى لخبر طلاقه من سيسيليا في اكتوبر 2007، مقلّلة بذلك من أهمية الاضرابات الواسعة التي عّمت البلد وتصادف انطلاقها مع خبر الطلاق الرئاسي. الاهتمام بهذا الجانب اخذ حيزاً كبيراًً لدرجة أصبح فيها النزيل الجديد للإليزيه بمثابة «أحسن زبون عرفته الصحافة الفرنسية»، بعد أن تبّين أن المواضيع التي تخّصص له ترفع مبيعاتها وتسجل أقوى معدلات مشاهدة القنوات، كما تساهم بطريقة غير مباشرة في إعادة بعث الحركة والحيوية في قطاع الصحافة الذي يعاني أزمة ركود حادة.

ففي أول سنة من وصول ساركوزي للإليزيه ارتفع معدل سحب الصحف والمجلات بزيادة تقدر بـ 110 ملايين نسخة إضافية مقارنة بالسنة التي سبقتها. 252 مجلة تناولت في غلافها سنة 2007 موضوعاً متعلقاً مباشرة بساركوزي وكثير منها حقّق بفضل ذلك أرباحاً خيالية. فمجلة «لكسبرس» حققت أعلى مبيعاتها منذ تأسيسها سنة 1953 على الإطلاق بفضل الحوار الذي أجرته مع زوجة الرئيس عارضة الأزياء السابقة كارلا بروني في عددها الذي صدر في 13 فيفري 2007 والذي وُزع بأكثر من 600.000 نسخة. «ماريان» المجلة القريبة من اليسار باعت أكثر من 500.000 نسخة وسجلت إيراداتها ارتفاعاً وصل إلى%38.6 حين خصصت قبل أسابيع من الدور الأخير للانتخابات موضوع غلافها «للوجه الحقيقي لساركوزي، ما تخفيه أو ما لا تريد وسائل الإعلام الكشف عنه. ارتفاع الإيرادات بنسبة %8.1 هو ما سجلته مجلة «النوفل أوبسرفتور» سنة 2007 بعد أن خصصت غلافها مرتين للزوجة السابقة للرئيس، ثم زيادة بنسبة % 9.1 سنة 2008 بعد الضجة الإعلامية التي رافقت نشر المجلة في موقعها بالانترنت لخبر حول الس.م.س الذي بعثه سركوزي لزوجته الأولى قبل زواجه من كارلا بروني. (الأرقام بحسب تقرير بمكتب OFFICE DE JUSTIFICATION DE LA DIFFUSION الذي يهتم بمراقبة توزيع الصحف والجرائد الفرنسية.) الإعلام السمعي البصري استفاد هو الآخر من «مفعول ساركوزي» حتى أصبحت برامج اللقاءات السياسية تحقق لأول مرة منذ 5 سنوات أعلى نسب المشاهدة على الإطلاق، 15 مليون مشاهد مثلا كانوا وراء شاشتهم لمشاهدة ساركوزي في البرنامج السياسي «فاس ألا أون» على القناة الأولى في شهر سبتمبر2007، كما حقّق برنامج «لو غران جورنال» لقناة «كانال +» المشفرة أعلى نسب المشاهدة منذ وجوده بعد استضافته للرئيس. ويعود تركيز الرئيس الفرنسي على تلميع صورته في الإعلام لاقتناعه العميق بأن كسب مودة رجال الإعلام هو اقصر طريق لكسب قلوب الناخبين، ولهذا فهو دائم الاحتكاك والاجتماع بهم، يلجأ مثلاً لمناداة بعضهم بأسمائهم لكسر الحواجز أو الاتصال بهم من غير مناسبة، حتى قيل انه كمن في بيته حين يزور قاعات التحرير وستديوهات القنوات الكبرى يعرف كل زاوية فيها. كما لا يتّورع عن «التّلويح بالجزرة» حين يستدعي الأمر ذلك، وكان قد نصّب فور وصوله للحكم صحافيين أبدوا إعجابهم بشخصيته أمثال: جان مارك بن حمو(نيس ماتان)، مريم ليفي (لوفيغارو)، كاترين بيكار(لوبوان) الذين يحتلون الآن مناصب مرموقة بقصر الإليزيه.

والمعروف أن ساركوزي يجمع في شبكة علاقاته صداقات قوية وكثيرة مع أكبر مديري وملاك وسائل الإعلام الفرنسية: «فمارتان بويغ» صاحب أقوى القنوات الفرنسية TF1 وقناة LCI الإخبارية هو صديق شخصي للرئيس وقد كان الشاهد الأول على زواجه من سيسيليا وأيضاً عرّاب ابنه الصغير«لويس»، أما «أرنو لغردر» رجل الأعمال المعروف بتربعه على مملكة حقيقية من وسائل الإعلام المختلفة: (باري ماتش، أورب 1 ، لومند، جورنال دو ديمانش، أل، هاشيت...) فهو يّصف الرئيس بـ «أخيه الأكبر» في كل المناسبات العامة، «فنسان بولوغي» الذي يملك أهم عناوين الصحافة المجانية في فرنسا: (ديراكت سوار، ديراكت ماتان، وقناة ديراكت 8) والذي كان قد أعار الرئيس يخته الخاص بمناسبة العطلة التي قضاها مع عائلته بعد فوزه في الانتخابات يعدّ أيضا من أصدقائه المقربين وكذالك صاحب شركة صناعة الطائرات الشهير «سارج داسو» الذي يملك أيضا صحيفة لوفيغارو العريقة، و«برنار أرنو» مالك جريدة (لتربون الاقتصادية وراديو كلاسيك) بالإضافة إلى صداقات أخرى قوية تربطه بمسؤولي قنوات ورؤساء تحرير يعملون في القطاع الحكومي.

علاقة الرئيس بهذا الوسط خلقت جدلا واسعاً وأطلقت العنان لسلسلة من الشكاوى تتهمه باستغلال هذه الوضعية لكبح حريات الصحافيين وبسط نفوذه على الإعلام على الطريقة «البرلسكونية»، لا سّيما بعد ظهور أحداث متفرقة: كأخبار إقالة رئيس تحرير «باري ماتش» (الذي يملكه أرنو لغردر صديق ساركوزي) بسبب سماحه نشر صور للزوجة السابقة للرئيس مع عشيقها، ثم مع حجب خبر من جريدة «جورنال دو ديمانش» (التابع لشركة لغردر) يفيد بأن سيسيليا قد امتنعت عن التصويت لزوجها، اختفاء ملف صحافي كان يعدّ للنشر حول الرئيس والإعلام من جريدة لوبرزيان (التابعة لشركة لغردر أيضاً) ومقاضاة الرئيس لصحافي من جريدة «نوفيل أوبسرفتور» كسابقة أولى بالنسبة لرئيس جمهورية، طالب فيها بسجن الصحفي 3 سنوات وتغريمه مبلغ 45.000 يورو لقاء الخبر الذي نشره في موقع المجلة حول الـ س.م.س الذي بعثه الرئيس لزوجته السابقة سيسيليا قبل زواجه. نفس الهواجس بتقلص هامش الحريات عادت إلى الظهور بعد إعلان الرئيس عن قرار سحب الدعاية من القنوات الحكومية مما أثار ثائرة بعض الإعلاميين الذي رأوا فيها نيّة مبّيتة لإضعاف نفوذ القطاع الحكومي وتقوية إيرادات القنوات الخاصة التي يملكها أصدقاء ساركوزي، ثم مع التّحول الملحوظ لجريدة «لوفيغارو» منذ انتقالها إلى يد «سارج داسو» لتصبح بمثابة منبر حقيقي لساركوزي على منوال «البرافدا» الروسية. على أن الرئيس لا يهتم فقط بالإعلام الرسمي، فشبكة الانترنت التي تسّببت في تسّرب أخبار أثرت سلبًا في صورة الرئيس لدى الرأي العام كحادثة شتمه لرجل رفض مصافحته وخبرالـ س.م.س دخلت هي الأخرى ضمن دائرة اهتماماته، حيث قام أخيراً بتعيين شاب يدعى «نيكول بونسون» خريج كلية التجارة المعروفة H.E.C لتسجيل ومراقبة كل ما يقال ويكتب عنه في شبكة الانترنت حتى أصبح هذا الشاب معروفاً لدى الصحافة الفرنسية بـ «ن ساركوزي على الشبكة».