لبنان: القبض على الإعلام

ما جرى لتلفزيون «المستقبل» يضع بقية وسائل الإعلام العاملة في لبنان غير التابعة للمعارضة في قلق شديد

إحراق مبنى تلفزيون المستقبل القديم حمل أكثر من معنى («الشرق الاوسط»)
TT

التغطية الاعلامية للأحداث الامنية التي شهدتها بيروت ابتداء من السابع من مايو (أيار) الحالي لم تكن ممكنة علنا، لا سيما في الايام الاولى. اكتشف المراسلون هذا الواقع بالتدريج. ولمسه المتلقي على ايقاع أخبار تواترت عن اعتداءات بالجملة والمفرق على صحافيين ومصورين، سواء كانوا تابعين لوسائل اعلام المعارضة اوالموالاة. وصلت الاعتداءات الى ذروتها مع الاقفال القصري لوسائل اعلام «المستقبل» من تلفزيون وراديو وصحيفة، اضافة الى اقتحام مكاتب مجلة «الشراع» المعارِضة للمعارَضة، وكذلك اذاعة «سيفان» الارمنية في منطقة مار الياس. باختصار منذ صباح السابع من مايو (أيار) كان مخطط «حزب الله» يقضي بالسيطرة على الارض، وأيضا على أثير موجات البث، حيث تمكن من فرض سيطرته في الجزء الغربي من بيروت. ولعل مشهد احراق المبنى القديم لتلفزيون «المستقبل» في منطقة الروشة يذكرنا بـ«البيان رقم واحد» الذي يعلن بواسطته الانقلابيون انهم استولوا على مقاليد الحكم. المفارقة ان الاغلبية لم تسع يوما الى قمع اي وسيلة اعلامية. واذا سلمنا جدلا بمنطق المعارضة بأنها سلطة مستأثرة بالحكم ومانعة للمشاركة، فكيف يمكن تفسير المشهد الاعلامي المعارض والشرس منذ اللحظة الاولى لتسلمها مقاليد الحكم وحتى حصول الانقلاب عليها؟ كيف يمكن تفسير منحها «التيار الوطني الحر» المعارض لها ترخيصا لمحطة «او تي في»؟

المفارقة ان الانقلاب الحاصل انعكس على الساحة الاعلامية اللبنانية قمعا تكونت ملامحه عبر بث وقائع مختلقة ومزورة وعلى اعلى المستويات.

لعل ابرز مشهد للقمع هو غياب الميكروفون الذي يحمل شعار «تلفزيون المستقبل» عن النشاطات السياسية. ولعل المضحك المبكي على هذا الصعيد هو اصدار تلفزيون «المنار» بيان استنكار لما تعرض له «الزملاء» في وسائل اعلام «المستقبل»، الذي وصفت شاشته بعيد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعلى لسان أحد المسؤولين السوريين بـ«أنها اخرجت الجيش السوري من لبنان».

جراء هذه الاحداث الاعلامية لا يمكن للمراقب الا ان يتساءل عن مصير باقي وسائل الاعلام اللبنانية البعيدة حتى الساعة عن مرمى القصف المعارض والرافضة الدخول في عملية غسل دماغ المتلقي بغية ارساء الامر الواقع الجديد واقناع الرأي العام ان ما حصل ليس سوى حادث عابر ورد فعل عفوي على اعتداء من قبل «ميلشيا السلطة» على مظاهرة للاتحاد العمالي العام. وبالطبع من دون اي دليل بالصوت او الصورة او المصدر المسنود لهذا الخبر باستثناء ما عممه مسؤولو المعارضة. ومن لا يعجبه فليشرب من البحر.

كاميرات المؤسسات غير التابعة للمعارضة، كما لاحظنا لا يمكنها الدخول الا الى مناطق الاغلبية التي لم تقع تحت سيطرة المعارضة سواء في بيروت او الجبل. اما الاقتراب من المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة فهو ممنوع. والامر يقضي على موضوعية العمل الاعلامي ومهنيته. اما كاميرات «المنار» فهي لا تهتم الا بنقل ما يخدم غايات «حزب الله». لذا لم تشغل بالها اساسا بتكثيف عمل مراسليها الا وفق انتقائية محدودة. كأن يصبح مشهد طاولة عليها بعض المسدسات والبنادق دليلا قاطعا على وجود «ميليشيا السلطة المسلحة». هم «المنار» انحصر في «الكلام» اكثر مما انحصر في «الصورة». ولا بأس لترويج عملية غسل الدماغ بتركيب وثائقيات تهدف الى النيل من رموز الاغلبية، حتى لو استدعى ذلك طمر الحاضر والعودة الى عقود خلت.

لعل تلفزيون «الجديد» المرضي عنه من «حزب الله» كان السباق «صورةً» مع بقائه «صوتاً» في حيز المعارضة. فقد تمكن مراسلو «الجديد» من التوغل أكثر من زملائهم لنقل ما يحصل في أماكن محظورة على غيرهم، ما ساعد المشاهدين في الاطلاع على مجريات الامور. ولعل هذه «الحظوة» سمحت لمديرة الاخبار مريم البسام بطرح الاسئلة المفيدة والحقيقية على السيد حسن نصرالله في مؤتمره الصحافي، في حين اكتفى زملاؤها بتسجيل أسمى آيات التأييد والمدح من خلال اسئلتهم. وفي هذه الاثناء لا يزال البحث مستمرا عن كاميرا سجلت تفاصيل ما جرى في وسائل اعلام «المستقبل». لأجل هذه الكاميرا تم احراق مبنى تلفزيون المستقبل القديم في منطقة الروشة بعد نبش ارشيفه. ولأجلها تمت مداهمة شقة في منطقة مار الياس. من هنا كان مستحيلا على الصحافي ان يحمل الكاميرا او آلة التسجيل او القلم والورقة وان يتوجه الى محيط الاماكن الفعلية للأحداث حيث كانت تتم عمليات «الغزو» والاقتحام. لم يسمح لأي كان مثلا بالتوغل في بربور او رأس النبع واستصراح اي طرف على الارض عن حقيقة ما يجري. جل ما حصل هو نقل جزئي لجوانب من المعارك، خلف الجيش اللبناني في معظم الاحيان. والاكتفاء بالتعليق على الصور. اما السبب فهو حرص المسلحين المسيطرين على الارض على التعتيم ومصادرة اي كاسيت او منع اي مراسل من العمل بموضوعية لنقل الصورة كما هي.

قد يعترض البعض على هذا الطرح. لكن هذا ما حصل. والجزم بأنه حصل مستند الى معايشة عمق مكان الحدث ومن دون اي «تمظهر اعلامي» متابعة تحركات المسلحين على الارض، اي التلصص على اولاد الجيران الذين نزلوا الى الشارع مدججين بالسلاح وجعب الرصاص منذ الساعات الاولى لصباح السابع من مايو (ايار). الجزم انه حصل مستند الى سماع وقع سياط على اجساد يصرخ اصحابها خلف باب حديدي مقفل عند العاشرة صباحا ولدى محاولة الاستفسار المذهول عن الامر بالنظر ليس الا، يكون الجواب زجرا وطردا من المكان بلهجة تهديدية حاسمة. هذه الصور وكثير مثلها بقيت غائبة عن الاعلام.

التلصص على ما يحصل يأتي ايضا من المراقبة العينية للسواتر التي اصبحت مرتعا لأطفال يدفعون الاهالي بسياراتهم الى توسلهم الدخول المربعات الامنية الجديدة التي لا تضم مقاومين او شخصيات مستهدفة بالاغتيال. لكنها تضم منازل الاهالي المعتقلين فيها او خارجها. الخطر في المشهد الاعلامي اللبناني، كما أصبح، يكمن في ان تغطية الخبر لم تعد تخضع لمرجعية كل وسيلة ممتلكة في الاصل من طرف سياسي، كما كانت الحال قبل الانقلاب الحاصل. على سبيل المثال يصبح نقل مشاهد القصف المدفعي في منطقة عاليه من قبل محطة «العربية» سببا لايقاف المحطة عن النقل بالقوة وإيقاف بثها في الضاحية الجنوبية لبيروت. فالسائد الاعلامي على لسان اقطاب المعارضة واعلامها هو الصورة الوحيدة التي يجب ان تنقل. وتقضي هذه الصورة بإظهار الاهالي الذين تعرضوا الى القصف والقتل وانتهاك الاملاك وكأنهم تحرروا. مِنْ مَنْ ومن ماذا؟ لا يهم. ومن باب: «ان لم تستح فافعل ما شئت» يتم الاعلان عن ان بيروت مفتوحة امام وسائل الاعلام. لكن هذا الاعلام لا يمكنه نقل صورة مراهق مسلح يستوقف امرأة في شارع الحمراء ويسألها عن هويتها لتستشيط غضبا وتنهره وتأمره بالعودة الى أمه. ولا يمكنه تصوير أسرّة وجهاز تلفزيون في الهواء الطلق لزوم مسلحين يتولون مهام الحراسة ليلا على قارعة الطريق في احد الاحياء السكنية لبيروت الغربية.

بيروت مدينة مفتوحة امام وسائل الاعلام بعد يومين كاملين من تنظيف شوارع بعينها. وممنوع على وسائل الاعلام التجول في غيرها. و... صوّر يا مصوّر حكاية القبض على الاعلام في لبنان.