أزمة الصحافة في فرنسا.. تحت المجهر

شغف الفرنسيين بالقراءة والتلفزيون في هبوط مستمر وهذا على حساب الإقبال على الإنترنت

TT

من يصدق أن جريدة «لوموند» العريقة التي تعتبر رمز المصداقية والمهنية في عالم الصحافة العالمية، هي الآن مؤسسة إعلامية على وشك الإفلاس وتغرق منذ سنوات في ديون متراكمة وصلت سنة 2007 إلى 150 مليون يورو…!! إنها الحقيقة التي كشف عنها مسلسل الإضرابات الأخيرة التي طالت هذه الجريدة لأول مرة منذ ظهورها سنة 1944 احتجاجا على مشروع تسريح 130 عاملا 90 منهم من الصحافيين.

الوضعية الصعبة التي تعيشها اليوم اعرق الصحف الفرنسية تعكس بحّق فداحة الأزمة التي تعاني منها الصحافة المكتوبة بفرنسا خاصة اليومية، لكنها ليست الأولى من نوعها، حيث مّرت عدة جرائد كبرى بأزمات مالية صعبة أفضت إلى عمليات تقويم وإعادة هيكلة مهّمة نتجت عنها عدة تسريحات عند جريدة «ليبراسيون» سنة 2006 «لومانيتي» سنة 1994 و« الفيغارو» سنة 2004. كما شهدت حقبة التسعينات اختفاء عدة جرائد يومية «كلوغور»، «نيس ماتان»، «لوكتديان دو باري»، «فرانس سوار» وكلها لم تتمكن من الصمود أمام المصاعب المالية. ورغم أن تراجع المبيعات يكاد يكون القاسم المشترك لجميع أنواع الصحافة الورقية في العالم، إلا أن الوضع الفرنسي متمّيز، ففي الوقت الذي استطاعت فيه الصحف الغربية التأقلم في وقت قيّاسي مع التغيرات التي يشهدها مجال الإعلام بعد دخول الانترنت بقيت الصحافة اليومية الفرنسية متّمسكة بتقاليد النسخة الورقية رافضة الرهان على التكنولوجيا الحديثة. فجريدة «لومند» التي فتحت موقعها لأول مرة سنة 1996 ظلت طويلا لا تعيره أهمية كبيرة ولا تعرض لقارئيها فيه سوى بعض الأرشيف والملّفات ولم يتطور الموقع بصيغته الحالية إلا سنة 2001 حين بدأ يبّث الأخبار بصفة آنية ومجانية ما عدا بالنسبة للأرشيف، كذلك الوضع بالنسبة لجريدة «ليبراسيون» التي فتحت موقعها سنة 1995 و«لومانيتي» 1996 حيث لم يجرِ الاهتمام بتطوير خدمات هذه المواقع إلا في بداية السنوات 2000. كما بقيت الصحافة الفرنسية طويلاً حريصة على الاحتفاظ ببعض أخلاقيات المهنة كتفادي اللّجوء لأساليب تسويق معينة مثل منح هدايا والإعلان عن خصومات مقابل اشتراكات كما تفعل جارتها الإيطالية أو الإسبانية بكثرة. أما «جون فرانسوا كان» الفيلسوف المعروف ومؤسس مجلة «ماريان« فيقول: أن «مأساة الصحافة الفرنسية يكمن في «أسلوبها» فهي لا تعرف التخاطب مع القراء إلا بلغة «النخبة» في الوقت الذي لم يعد فيه لأحد الوقت الكافي للوقوف عند المعاني. التعبيرات المجرّدة، المفردات المركبة والجمل الطويلة كلها أصبحت تؤرق القّراء اليوم، ويضيف أنه كثيراً ما كان يتسّلم رسائل من قراء لم يفهموا هذه الكلمة أو تلك، ثم يقول الصحافيون عندنا ما زالوا يرفضون الكتابة بأسلوب يفهمه القراء تماما كما يفعل الماركسيون الذين يفّسرون الحقيقة كما يحبّونها أن تكون وليست كما هي في الواقع. وعموما فإن شغف الفرنسيين بقراءة الصحافة المكتوبة وحتى مشاهدة التلفزيون في نزول مستمر وهذا على حساب الإقبال على الانترنت، حيث بلغ عدد المشتركين فيه سنة 2007: أكثر من 15 مليون شخص وهو ما كشفت عنه دراسات كثيرة، كتلك الدراسة الأخيرة لمعهد «ميديا متري» التي نشرت في سبتمبر من نفس السنة والتي خلُصت في نتائجها إلا أن نصف الفرنسيين الذين تزيد أعمارهم على 11 سنة يمضون في المتوسط ما يعادل 34 ساعة في الشهر على شبكة الانترنت أي 4 أضعاف ما كانوا يمضونه سنة 2000، على أن معظم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 19 و25 سنة قد صّرحوا أن الشبكة أصبحت تشكل مصدرهم الوحيد للاطلاع على الصحافة اليومية، والحسبة سهلة إذا علمنا أن تكلفة الاشتراك في شبكة الانترنت تتراوح ما بين 10 إلى 30 يورو شهرياً بينما ثمن عدد واحد من أي صحيفة لا يقل عن 2 يورو وهو ما يجعل الفرنسيين الذين يعانون أعلى معدلات البطالة في أوروبا (أكثر من%8) وتدهور قدراتهم الشرائية يقلّلون من مصاريفهم ويفكرون مرتين قبل أن يقّرروا اقتناء أي جريدة مهما كانت حاجتهم إليها. اعتقاد الفرنسيين بأن «كل الجرائد أصبحت تكتب نفس الشيء وأحياناً باستعمال نفس العبارات» أصبح هو الآخر في تزايد مستمر والمسألة أصبحت تخص أيضا مصداقية الصحافة المكتوبة التي أضّحت على المحّك منذ السنوات الأخيرة، خاصة أن معظمها الآن واقع في يد مجموعة من رجال الأعمال والصناعيين أمثال سارج داسو، ارنو لغردر، فرانسوا بينو، فنسان بولوغي وآخرين ممن يعتقد أن همهم الوحيد هو تحقيق الأرباح، فها هو «سارج داسو» الصناعي المعروف في مجال الأسلحة الحربية يتّوجه لقراء جريدة «لوفيغارو» على صفحتها الأولى فور حصوله على ملكيتها سنة 2004 قائلاً: «أتمنى في حدود المستطاع، أن تعمل الصحيفة على إظهار قيمة شركاتنا، وأنا اعتقد أن هناك بعض الأخبار التي يجب التعامل معها بحذر كتلك التي تخّص العقود التي يجرى التفاوض عليها... والخطر هو في إلحاق الضرر بمصالح بلادنا التجارية والاقتصادية» وما يسميه سارج داسو «بلادنا» هي بطبيعة الحال شركاته المختّصة في صنع الأسلحة والطائرات الحربية والتي منَع بموجبها نشر أخبار حول صفقة لبيع طائرات الميراج لتيوان وأخرى لبيع طائرات ميراج للجزائر. وبنفس القدر الذي أصبح فيه إحساس الفرنسيين بأن صحافتهم المكتوبة لم تعد سوى أداة دعاية ونفوذ لأصحابها، يتعاظم إحساسهم أيضا بأن الإعلام الذي ينتشر في الشبكة هو أكثر مصداقية وحيادا والأول دائما لتحقيق السّبق الصحافي، فمن كشف لهم عن حادثة شتم الرئيس لرجل رفض مصافحته، ومن أعلن عن خبر استعداد الدولة لبيع بعض محطات التلفزيون الجهوية ومن ومن... لو لم يكن الانترنت. لكن تراجع مبيعات الصحافة المكتوبة لا يعود لمنافسة الانترنت الشرسة فحسب وإنما أيضا لمنافسة الجرائد المجانية التي أضحت تكتسح السوق وتترأس قائمة أعلى المبيعات كما حدث مع يومية «20 منوت» وجريدة «مترو» المجانيتين اللتّين وصل عدد قرائهما على التوالي إلى 2.5 و2.3 مليون قارئ وهي أرقام تسيل لعاب الصحف اليومية الكبرى الأخرى كلبراسيون: 890.000 نسخة والفيغارو التي تصل بالكاد إلى المليون نسخة بحسب إحصاءات دراسة «إبيك» لسنة 2007 نشرتها مجلة «لوبوان». سرّ نجاح هذه الصحافة لا يكمن فقط في طابعها المجاني ولكن أيضا في طريقة توزيعها، حيث تسلم للقّراء في أيديهم عند مخارج المترو وفي محطات القطار وهو ما لا يترك أيّ مجال لرفضها. إلى قائمة المشاكل يضاف ارتفاع تكاليف الطبع والتوزيع اللذين تحتكرهما شركتان حكوميتان وخضوع الصحف لضرائب عالية في حالة رجوع المبيعات.