ظاهرة الـ «أنا»

مزيد من الصحافيين باتوا يقحمون أنفسهم في قصصهم.. فهل يشكل ذلك «خروجا» عن قواعد الصحافة الأساسية؟

ملصق فيلم «اين هو أسامة بن لادن» لمورغان سبورلوك
TT

افتتح في صالات السينما العالمية أخيرا فيلم بعنوان: «أين هو أسامة بن لادن؟» لصانع الأفلام الأميركي مورغان سبورلوك، ويحمل الفيلم طابعا وثائقيا.. وإن لم يكن غير جدي، حين ترافق الكاميرا سبورلوك في جولة على بلدان شرق أوسطية وإسلامية بحثا عن زعيم تنظيم القاعدة. ولمن لا يعرف سبورلوك، فلعله يتذكر ذلك العمل السينمائي عام 2004 الذي حمل اسم «سوبر سايز مي» Supersize Me وهو العمل الذي أطلق شهرة هذا الرجل عندما «تبرع» بتناول وجبات عملاقة من سلسلة مطاعم ماكدونالدز لمدة 30 يوما متواصلة ليحصل على نوع من الدراسة الحية لما يمكن ليحدث لشخص عادي عندما يتناول الوجبات السريعة لتلك الفترة... وكانت النتيجة ازديادا في الوزن وتدهورا في الصحة بالتأكيد. وفي «مغامرته» الجديدة يسعى سبورلوك لإنجاز ما لم تتمكن أجهزة الاستخبارات وجيوش الولايات المتحدة من انجازه، وهو العثور على بن لادن... وليس جديدا القول بأن مساعي هذا المخرج الشاب لم تكلل بالنجاح، لكنه في النهاية انتج فيلما لافتا بجميع الأحوال عن مغامرته الشخصية، ومشاهدته ونظرته للقضايا. ولعل الأمثلة حول صحافة الـ «انا» في ازدياد، فكلنا يتذكر كيف تحول صانع الأفلام الأميركي الشهير الآخر مايكل مور إلى طرف ضد سياسات الرئيس جورج بوش في «فهرنهايت 9-11» (2004) ونظام الطبابة وشركات التأمين في أميركا في «سيكو» (2007) ولوبي السلاح في «بولينغ فور كولومباين» (2002) Bowling For Columbine، كذلك هناك الصحافية البريطانية نكي تايلور التي استوحت من «مغامرة» سبورلوك مع سندويشات الهمبرغر فكرة تتناول بها قضية تشغل بال الكثيرين في بريطانيا وهي: الإفراط في الشرب. فعلى امتداد 30 يوما عام 2004 خرجت تايلور كل ليلة وافرطت في تناول الشراب وصنعت فيلما تتحدث فيه عن ما شعرت به ومرت خلاله في تلك الفترة. عادت نيكي تايلور بعد ذلك لتقوم بالتجربة نفسها مع تدخين الحشيش، وقامت بفيلم كذلك عن تأثير مستحضرات مكافحة الشيخوخة عليها. من جهة ثانية، تزداد في الصحافة الغربية ظاهرة كتابة التقارير بصيغة الـ «أنا» سواء كانت «مشاهدات» صحافي معين خلال تغطية حدث معين، أو سرداً لتجربة قام بها... مما يستوجب طرح سؤال جوهري هنا، سيما وأن أول ما تتعلمه في دورات تعليم الصحافة هو أن تخرج نفسك من الموضوع ولا تبدي رأيا مطلقا لأن واجبك هو نقل الخبر بتجرد وتترك التحليل والآراء للخبراء والمصادر أو لكتاب الرأي والأعمدة. من جهتها لا ترى ماجدة أبو فاضل، مديرة برنامج التدريب الصحافي في الجامعة الأميركية في بيروت، تناقضا بين ما يدرس من قواعد صحافية ومع ما نشاهده حاليا من تنامي ظاهرة صحافة الـ «أنا»، حيث الخبر يبقى خبرا مجردا من الانطباع الشخصي لكن ما يحدث هو أنه بات يطلب من الصحافيين كذلك كتابة قصة مستقلة عن انطباعاتهم الشخصية. وتعتقد أبو فاضل أن أكثر ما ساهم في تنامي شعبية هذا النمط هو تأثير المدونات الإلكترونية وانتشارها وشعبيتها، مما انعكس على الصحافة بشكل عام. وتقول ماجدة انه بعيدا عن ذلك فإن الكتابة بصيغة الـ «أنا» متوفرة كذلك في زوايا تقييم المنتجات والخدمات، فتجد صحافيي الطعام والسفر والمنتجات الالكترونية يكتبون من واقع تجربتهم الشخصية ويبدون النصائح، وهم يتحولون مراجع في هذا السياق. وتقول أبو فاضل ان هذه الظاهرة لا تجد نفس الصدى في الإعلام العربي لأسباب عدة، من بينها أولا كون الظاهرة جديدة بحد ذاتها في الإعلام الغربي (باستثناء أعمدة الرأي)، وثانيا بسبب طغيان مواضيع معينة على الصحافة العربية، وتعطي مثلا عن جريدة لبنانية محلية تغلب المواضيع السياسية على المواضيع الحياتية، فتجد أخبار السياسيين وآراءهم تعطى الأولية على حساب المواضيع الأخرى، فيما في الصحافة الغربية فإن كل المواضيع تعطى مساحتها وأهميتها، مما لا يترجم تطورا في جانب معين من تغطية الوسيلة الاعلامية على حساب جانب آخر. بخصوص الأفلام الوثائقية المشابهة لفيلم «سوبر سايز مي» أو «أين هو أسامة بن لادن» فتقول إن مثل هذه الأعمال تحتاج لميزانيات وسوق، وهما امران نفتقدهما في العالم العربي، حيث مكان الأفلام الوثائقية المنتجة محليا هو شاشات التلفزيون وحسب، وليس صالات السينما. من جهته يعتبر البروفيسور إدريان مونك من جامعة «سيتي» اللندنية، أن بدايات صحافة الـ «أنا» تعود لبرنامج 60 دقيقة الأميركية، حيث كان منتج البرنامج دون هيويت يقول ان ما ينتجه هو عبارة عن «مغامرات اولاده» (قاصدا الصحافيين). ويوضح أن الخطورة في هذا النوع من الصحافة بأن في بعض الأحيان تصبح الـ «أنا» أكبر من القصة. ويستطرد قائلا انه في حالات مثل «سوبر سايز مي» والافراط في الشرب، فإن الصحافي يستخدم نفسه كفأر تجارب وفي ذلك مخاطرة، والمشكلة انك في مشروعك المقبل ستحاول القيام بمخاطرة أخرى، إلى أن تتحول التجربة نفسها أهم من الدوافع وراءها. ويختم قائلا: «والخطورة في هذا النوع من الصحافة هو انها تتوقف عن كونها إخبارية وتصبح ترفيهية أكثر»، موضحا فمثلا يفتقد فيلم سوبر سايز مي إلى العناصر الصحافية بالكم الذي تفتقده الوجبات السريعة التي تناولها سبورلوك في الفيلم للعناصر الغذائية.