لبنان.. بين «الإعلام الحربي» و«الإعلام المنحاز»

على خلفية الأحداث الأمنية الأخيرة التي شهدتها البلاد

الاعلامية في «المستقبل» سحر الخطيب خلال ظهورها على شاشة ال. بي. سي في بداية الأزمة
TT

على ايقاع معركة احتلال بيروت ومعارك الحوار في الدوحة عرضت قناة «المنار»، احدى أبرز وسائل اعلام «حزب الله»، برنامجا وثائقياً من حلقتين عن عظمة ايران العسكريّة. التوقيت ليس بريئا بالتأكيد لا سيما اذا أخذنا في الاعتبار ان للمعركة اولوياتها التي تقضي بتطبيق مضمون لافتة علقها «المنتصرون» في أحد شوارع بيروت على خلفية لصورة تجمع بين الامين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله ورئيس مجلس النواب و«حركة أمل» نبيه بري. على اللافتة كتبت الآية الكريمة:«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» وأضيفت اليها عبارة «الامر لنا». العدة على الارض كانت حربية بامتياز وأدت الى اقتحام شوارع بيروت واحكام السيطرة عليها كما هو واضح. اما على أثير موجات البث، فكان استخدام قناة «المنار» بصفتها وسيلة حربية من وسائل المعركة البيروتية. ومن دون مراعاة واعتبارات مهنية تابع الجمهور المذيع في المحطة عبد الله رسلان يقول على الهواء بعد الاقفال القسري للمستقبل:«اخيرا انتهى التلفزيون الذي اعتاد على بث الفتنة والاكاذيب». كذلك من دون ادنى اعتبار لمصداقية المهنة «لفّق» مراسل المنار في منطقة «كليمنصو»، حيث كان «يصمد» الزعيم الدرزي والنائب وليد جنبلاط خبرا «ميدانيا»، فقال:«الآن هرب وليد جنبلاط في موكب سيارات مدنية بحماية آليات عسكرية والاهالي الغاضبون يحاولون اقتحام منزله». وتبين بعد دقائق ان جنبلاط لم يهرب وان المواطنين كانوا يختبئون في منازلهم خائفين من ميليشيات «الحزب السوري القومي الاجتماعي» الذين كانوا ينتظرون اوامر الحزب «الالهي» ربما ليقتحموا منزل جنبلاط، ويقال بعد ذلك ان المواطنين الغاضبين هم المقتحمون. ومن باب الموضوعية اعتبر تلفزيون «المنار» ان دفاع اهالي القرى في الشوف الاعلى عن منازلهم هو «تسلل» لمسلحين اشتراكيين بنية الاعتداء على قوات «حزب الله» التي تقوم بعملية حربية في منطقة لا اسرائيليين فيها. كذلك من باب الموضوعية علمنا ان «ابناء بيروت مستاؤون من خطاب السنيورة لأنهم كانوا يتوقعون استقالته». وسمعنا ايضا ان «عناصر ميليشيا المستقبل استولت على آلية للقوات الدولية». وبالطبع لم نسمع عبر «المنار» وأخواتها من وسائل اعلام «حزب الله» اي نفي لشائعة روّجت او أي موقف شاجب صادر عن حليف «سني» يحذر من تداعيات الفتنة التي تسببت بها عمليتهم العسكرية ضد المواطنين.

هذه الوقائع طرحت معادلة جديدة أثارها الكاتب في صحيفة «السفير» وسام سعادة عندما قال:«إعلام حزب الله حربي واعلام الآخرين منحاز».

هل تصح هذه المقولة في ضوء التغطية الاعلامية التي رافقت أحداث السابع من مايو (أيار) واقتحام «حزب الله» وحلفائه بيروت؟

استاذ الاعلام الدكتور محمود طربية يعتبر ان السؤال كبير. ويقول لـ«الشرق الأوسط»:«يجب أن نوضح مفهوم الاعلام الحربي. المعروف ان هذا الاعلام لديه جانب عسكري يلجأ اليه في الأزمات والحروب. وهو يلتزم مهمة لا تنتهي الا بانتهاء الحرب. وبالتالي هو ذراع العملية العسكرية. اما الاعلام المنحاز فهو رديف الرؤية السياسية والحزبية. ومن هذا الاطار الواسع ندخل الى المشهد الاعلامي الحالي في لبنان لنوافق على ان قناة المنار التزمت اعلاما حربيا. ونجد ان الاعتداء والمس بوسائل اعلامية للفريق الخصم يتم الدفاع عنهما في الوسيلة الاعلامية الحربية التي تصبح عدة الشغل للدفاع عن العملية التي حصلت. هي سلاح مثل سلاح المقاومة وسلاح الاشارة».

ويضيف:«عدة الشغل هذه تستوجب ازدهار الشائعات التي تجد ارضا خصبة لها للتشويش على الخصم وتحطيم معنويات جمهور الشارع الآخر مقابل رفع معنويات جمهور شارعه. والشائعة تفعل فعلها في أكبر شريحة اجتماعية بمعزل عن النفي الذي قد يستتبعها. لا سيما اننا نعيش زمن تلفزيون الواقع».

اما الاعلامي أمجد اسكندر فيقول:«اعلام حزب الله في كل وسائله هو اعلام حربي. ومنطلقه خطاب حربي وسياسة حربية. ويكفي ان نقرأ ما قاله الامين العام للحزب حسن نصرالله في مؤتمره الصحافي لنتأكد ان لغته حربية، حيث كان واضحا استخدام فعل القتل وقطع اليد بما فيهما من تحويل للمعنى الشرعي الى معنى حربي. المقاومة تقوم على السلاح. ومنظومة حزب الله بكل مضامينها قائمة على معركة عسكرية دائمة في وجه العدو الغاشم. وبالتالي فإن المجتمع معسكر واعلامه معسكر. حتى ان حزب الله يعتبر انه يتساهل مع الشعب اللبناني الذي لا يريد ان يقاتل. هو يرى ان هذا الشعب انهزامي لأنه يريد ان يعمل ويعيش على طريقته ويفكر بمستقبله. لا يريد الحزب ان تشكل الديموقراطية والتنمية الاقتصادية وحرية الرأي والتعبير مقاومة في وجه العدو الاسرائيلي. مع ان المسؤولين فيه لو فكروا قليلا لاكتشفوا ان الدول الكبرى قوية بتراثها الحضاري واقتصادها والفكر النقدي المتنوع لنخبها». الدكتور علي رمال استاذ الاعلام في الجامعة اللبنانية يخالف اسكندر. ويعتبر ان وسائل الاعلام من الاطراف المتواجهة عملت وفق المفهوم نفسه، سواء استخدمنا عبارة «اعلام منحاز» او «اعلام حربي» في اشارة الى دور كل وسيلة من وسائل هذا الاعلام الملتزم قضية مرجعيته. ويشير الى «ان كل وسائل الاعلام تتمتع بمهارات وقدرات، لكن توظيفها ليس في مكان جامع، لأن كلا منها يرتبط بمشروعه وحركته السياسية الخاصة. ولكن الخطر يبدأ عندما تعمد الوسائل الاعلامية الى توظيف العنصر الطائفي في الصراع الدائر. حينها تصبح هذه الوسائل نحو الجحيم». ويذكر رمال بأنه «في الشكل والمضمون لم يتغير شيء. فالاعلام في لبنان تتقاسمه السياسة وتستخدمه كذراع متقدمة لها في معاركها مع الاطراف الاخرى، لتحرض جمهورها من جهة وتهزم الجمهور الآخر من جهة ثانية. واذا عدنا الى القضية الاساسية نجد ان كل الذين تقاسموا الاعلام اعطوا خصوصية لإعلام المقاومة».

الدكتور محمود طربية لا يلمس هذه «المساواة» بين الوسائل الاعلامية الحزبية. يقول ان المنار في «اعلامه الحربي متفوق على غيره من الوسائل الاعلامية. هناك كل متكامل. هم يعتبرون ان كل شيء يسخّر في خدمة المعركة. المنار اشبه بمديرية توجيه في أي جيش. هي ليست محطة تلفزيونية فحسب وانما وحدة اعلام. هذا هدفها طالما القضية مستمرة. حتى لو دخل لبنان مرحلة السلم الاهلي تبقى مروجة للامجاد. الا ان الأمر يصح بمواجهة اسرائيل ويعطي نتائج ايجابية. اما في الساحة الداخلية فالمنار تصور الخصم السياسي وكأنه العدو الفعلي، في حين ان اسرائيل هي العدو الفعلي. هنا يتم الخلط بين عدو وخصم وشريك في الوطن. المنار تلغي المسافة بين العداوة والخصومة التي قد تجد مكانا للاتفاق».

الاعلامي أمجد اسكندر يوضح الفكرة أكثر، فيعتبر أن «ادارة المعركة من خلال خطاب عسكري لا يوصل الى نتيجة. واذا عدنا الى المنار نجد ان ترخيصها ليس مثل ترخيص غيرها من المحطات التلفزيونية اللبنانية، هي وسيلة اعلام تجمع الدين والمقاومة». ويشير الى ان ترخيصها يظهر انها «دينية مقاوماتية» او بعبارة أخرى هي «اعلام ديني على ظهر دبابة». ويضيف:«بالتالي هي اشبه بدراجة تسير على عجلة واحدة ما يعني انه يجب استعمال دواستها على الدوام. والدواسة هي الشحن المتواصل. وآخر الصرعات فتح باب الاجتهاد لتبرير غزو بيروت تحت شعار (مقاومة اسرائيل في الداخل). وهذا الباب مفتوح ولا يمكن لجمه لا سيما اذا وضعت كل التصرفات التي لا تروق للحزب تحت خانة المؤامرة. المنار اضافة الى المعركة العسكرية تشن حروبا نفسية. وبالتالي اعلامها منسجم مع نفسه. لكن هذا الاعلام لا يواجه خصمه بالاعلام وانما بإسكات الاعلام. وهذا امر لم يأخذ حجمه في ما جرى. لم يكتف حزب الله بالقصف الاعلامي الذي يمارسه تلفزيون المنار وانما استبدلوه بالقصف الفعلي. واخذ هذا الامر بالاستخفاف. اسكات الصوت على الارض حدث خطير. والاخطر انهم اعتدوا على بندقية بصواريخ وقذائف وشبكة اتصالات وتدريب بالذخيرة الحية وصوروا الامر في المنار على انه اشتباك مع معتدين. والادارة الاعلامية الخاطئة لقوى 14 آذار لم تظهر هذه الاخطار».

عن تأثير «الاعلام الحربي» على المتلقي، يقول طربيه:«الجماهير غفورة كما هي الطبيعة البشرية. ويكفي بعد انتهاء الحرب سياسة اعلامية مضادة لتنسى هذه الجماهير، مع الاشارة الى ان الجو العام الضاغط تستتبعه كل هذه الافرازات في الشرع. الا ان اي تغيير في الجو العام سيرافقه تنفيس اشبه بفترة نقاهة وترتبط بالقدرة على الوصول الى تسويات تستدعي تغييرا في الخطاب السياسي وتبدأ عملية بناء الثقة من جديد».

ولا يستخف طربيه بـ«جرعات الشحن» التي لم تهبط على المتلقي بين ليلة وضحاها وانما بنيت بأسلوب تراكمي متصاعد، وان بقي يراهن على قدرة الانسان على النسيان. وهو ايضا يستبعد نشوء اعلام مواجه قادر على احداث توازن في المعركة الدائرة. يقول:«هذه العملية تأتي في سياق متكامل. وقد استغرقت سنوات طويلة مع حرفية قلما نجد مثيلاً لها في أي مكان. والعمل على تأسيس ما يوازيها يحتاج الى وقت، وتمرس طويل وصعب ايجاده في ظل شُبه مستمرة او غداة تلقي الضربات».

من جهته يشير الدكتور علي رمال الى «اعلام البيوت والحواجز والرسائل الهاتفية، الناشط في إطار التعبئة المذهبية التي ستؤدي الى حرب أهلية أكيدة». ويضيف: «من هنا لا بد للاعلام من الارتداد الى الخلف. وانا مع الانتقائية في هذه المرحلة لتجميل الخطاب السياسي، مع أن الامر صعب لأن المؤسسة التابعة لحزب ما يجب ان تتفوق على الخصم مهما كان الثمن». واذا يتفهم رمال ان بعض الوسائل الاعلامية مجروحة ومتألمة «لكنها لا تستطيع ان تتخلى عن وظيفتها الوطنية وترتقي بالخطاب الى ما يضمن المصلحة العامة، ولا تعطي مجالا للغاضبين مع الاقرار بحقهم، وذلك تجنبا للفتنة». كما تمنى ان يفسح اصحاب القرار السياسي في وسائل الاعلام المجال أكثر فأكثر للعمل المهني. وانتقد استخدام الشائعات التي استخدمت لتحطيم معنويات الشارع الآخر. لكنه شدد على «ضرورة اعادة النظر في القوانين المتعلقة بالترخيص لوسائل الاعلام التي وزعت في الاصل على قياس القوى السياسية وحافظت على هذا التقليد ليمنح زعيم التيار الوطني النائب ميشال عون حصته عندما عاد الى لبنان. وبالتالي لا يمكن ان ننتظر منها الا ان تعكس التحالفات السياسية على الارض وتذهب مع هذه التحالفات اينما ذهبت. من هنا غياب الموضوعية ومعالجة هذا الغياب لا تكون الا عبر اعادة النظر في القوانين. وبانتظار ذلك لا بد من الانحياز الى المصلحة الوطنية، والا فإن الاعلام متورط والاعلاميين عاجزون ومتهمون من قبل الرأي العام. وبعد سقوط ادبيات التخاطب السياسي وصولا الى الشتم على متن كل ما يقرأ ويسمع ويشاهد، لا فرق بين اعلام حربي او اعلام منحاز».