هل فقدت صحافة مصر قدرتها على «الهزار»؟

تراجع ملحوظ في الكتابة الساخرة التي كان الإعلام المصري رائدا فيها

TT

رغم أن المصريين معروفون بأنهم «شعب ابن نكتة» يقاومون مشاكلهم بالتنكيت والسخرية، لكن هذا لا ينعكس على صحافتهم وإعلامهم الآن، التي تكاد تخلو من صحيفة تعبر عن هذا الاتجاه، ورغم أن الصحافة المصرية حين بدأت منذ أكثر من قرن ونصف القرن كان يغلب عليها الطابع الساخر، بل إن عبد الله النديم أحد آباء الصحافة المصرية قام بتأسيس عدد كبير من المجلات الساخرة، التي كان يوجه من خلالها نقدا للسلطة، ولعل أشهر هذه المجلات مجلة «التبكيت والتنكيت» و«الأستاذ»، وهي المجلات التي عاش مطاردا من الشرطة بسببها.

من ينظر لتاريخ الصحافة المصرية سيذهله هذا العدد الضخم من المجلات الساخرة التي كانت تصدر في مصر أوائل القرن الماضي، مثل «البعكوكة» و«كلمة ونص» و«الاثنين والدنيا» و«ألف نكتة ونكتة» والتي اختفت تماما في السنوات الاخيرة لأسباب ربما تعود لتضييق الرقابة على الصحافة الساخرة التي تنتقد السلطة مباشرة ، أو لعدم تحمس الناشرين لإصدار صحيفة ساخرة، أو لتغير مزاج المصريين تجاه هذا النوع من الصحافة أو لقلة عدد الكتاب الساخرين في مصر وإذ كانت مصر تتميز بعدد كبير منهم مثل محمود السعدني، أحمد رجب، يوسف عوف، حسام حازم، عبد الله أحمد عبد الله، بيرم التونسي، بديع خيري، إبراهيم عبد القادر المازني وعبد العزيز البشري وغيرهم.

ورغم بعض المحاولات البسيطة التي كانت تحاول أن تصدر في الفترة الأخيرة إلا أن معظمها باء بالفشل مثل «أيامنا الحلوة»، «مجلة كاريكاتير»، أو بالإغلاق مثل ملحق «أيامنا الحلوة» الذي كانت تصدره الأهرام، أو ملحق «المضحك» الذي كانت تصدره مجلة الإذاعة والتلفزيون أو جريدة «اضحك للدنيا» التي أغلقت.

الكاتب الصحافي الساخر سمير الجمل، أحد أبناء الجيل الوسط من الكتاب الساخرين كان أحد أبرز مؤسسي مجلة «كاريكاتير»، المجلة الساخرة الوحيدة التي تصدر في مصر، كما أصدر جريدة ساخرة بعنوان «ابن البلد»، لكنها توقفت لمشاكل في الإدارة المالية والتوزيع، ويرفض سمير اعتبار أن هناك أزمة في الصحافة الساخرة، فالضحك هو سلاح مصر الاستراتيجي في رأيه، ويضيف: «السخرية هي سلاح المصريين الأساسي في مواجهة أي أزمة، ولولا السخرية لانقرض الشعب المصري» ويرى الجمل أن هذه إحدى مشاكل الكاتب الساخر في مصر، فكيف تكتب كتابة ساخرة لشعب وظيفته هي السخرية من كل شيء، يحول كل نكباته لنكات، من الصعب جدا أن تضحكه، الكاتب الساخر في مصر يشبه الذي يبيع الماء في حارة السقايين كما يقول المثل المصري، وفي رأي سمير الجمل إذا تتبع شخص ما تاريخ النكتة فإنه يستطيع أن يعرف تاريخ مصر.

رغم اختفاء المجلات والجرائد الساخرة مقارنة بما قبل ستين عاما، إلا أن الصحافة الساخرة موجودة، حسب تعبير الجمل، رغم أنف الناشرين ورؤساء التحرير، موجودة في صفحات داخل الجرائد، في مقالات لبعض الكتاب الصحافيين، وكثيرا ما كنا نبدأ قراءة الصحف بمقال أحمد رجب «1/2 كلمة» في الأخبار، أو بمقال محمود السعدني، وكثير من الكتاب مصنفين على أنهم ساخرون مثل الروائي محمد مستجاب، أو المؤرخين السياسيين مثل صلاح عيسى.

هناك عودة إلى الصحافة الساخرة، هذا المعنى يؤكد عليه الجمل مشيرا إلى عدد من الصحف التي تخصص صفحات ساخرة داخلها، خاصة أنه مع التحولات الأخيرة وظهور المدونات التي استخدم بعضها السخرية كسلاح، الصحافة في فترة تحول والشارع مستعد لتقبل صحيفة ساخرة هذا المعنى تأكد منه حين أصدر مجلته «ابن البلد» التي لم تصمد طويلا بسبب عدم وجود إدارة مالية، كما أن هناك مسابقة أحمد رجب للكتابة الساخرة، التي تقيمها نقابة الصحافيين، وفي العام الماضي تقدم للمسابقة أكثر من 36 كاتبا، وهو عدد كبير في رأي الجمل يدل على أن الصحافة الساخرة بخير. محمد فتحي أحد الكتاب الساخرين الشباب، وشارك في أكثر من كتاب دوري ساخر مثل «مجانين»، ويكتب في العديد من الصحف بهذه الصفة، وله كتاب ساخر بعنوان «ليك شوق في حاجة؟»، غير أنه يرى أن اختفاء المجلات الساخرة يرجع لأن الكاتب الساخر أصبح عملة نادرة، فبعض الناس تلقي نكات في مقالاتها باعتبارها مضحكة بينما الحقيقة تؤكد أن بعض من يسمون أنفسهم كتابا ساخرين لا علاقة لهم بالسخرية إلا من باب (تقل الدم)، يضيف فتحي إلى ذلك أن الناشرين يحبون اللعب في المضمون، وكبار الكتاب اعتزلوا الكتابة الساخرة إرادياً مثل أحمد رجب الذي يكتفي بنص كلمة أو إجبارياً للرحيل مثل يوسف عوف ومن قبله محمد عفيفي أو للمرض الشديد مثل محمود السعدني. سوق المجلات الساخرة رائج في تقدير فتحي والدليل تجربة جريدة «إضحك للدنيا» التي كان يرأس تحريرها خيري رمضان، التي حققت نجاحاً كبيراً لكنها لم تستمر بسبب الخلافات داخل دار النشر التي كانت تصدرها.

الأقلام الساخرة في رأي فتحي لم تختف، لكنها نادرة جداً، والصحافة لا تعطي لهم المساحة المناسبة ربما خوفاً من أن يطغوا على أسماء أخرى فخفة الدم أقرب الطرق للوصول إلى القارئ في مصر، ويعتبر محمد نجاح تجربة جريدة «الدستور» دليلا على ما يقول، فبالإضافة لخطها السياسي المعارض فإن خطها الساخر أضفى على ملامحها سمات جعلتها تتفرد بين الصحف الأخرى، أما بالنسبة للصحافيين فتقييم فتحي لهم هو أن معظمهم أصبح حرفيا يرى الكتابة في الصحافة مثل العمل الإلزامي الذي يقبل عليه لمجرد تسلم مرتب آخر الشهر، وأن روح الإبداع لم تعدم موجودة في أكثر من 90 في المائة من صحافيي الوطن العربي، فالكل اختفى خلف الكتابة التقليدية الكلاسيكية وذهبت خفة دمهم ولم تعد.

تحتاج الصحافة الساخرة في رأي محمد لحرية أكبر ولناشر يؤمن بها ولرئيس تحرير خفيف الظل يستطيع فهم الدعابة لا الخوف منها، ويذكر فتحي هنا بالكاتب الكبير أحمد رجب الذي تعرض لمضايقات من رئيس تحرير في عمر تلاميذ تلاميذه بسبب كتابته الساخرة وكاريكاتيراته التي اعتذر عنها منعاً للحرج بعد تاريخه الكبير حتى لا يضيع على يد من لا يفهم أو يقدّر، آخر ما تحتاجه الصحافة الساخرة في رأي محمد هو القراء، فقراء هذا النوع من الصحافة موجودون في كل مكان ومخلصون لها على الدوام ولو صدرت مجلة ساخرة أعطيت لها الإمكانات المناسبة يعتقد فتحي أنها ستحقق مبيعات كبيرة وستجد لها عشرات الآلاف من القراء.

المجلات والصحف الساخرة فقط هي التي اختفت وليس الكتابة الساخرة، هذا ما يراه الصحافي والكاتب الساخر محمد هشام عبيه، ويضيف: المتأمل لحالة الرواج التي حدثت مؤخرا في سوق الكتاب المصري سيكتشف أنها قامت على ضلعين.. الرواية والكتابة الساخرة، وأكبر دليل على ذلك أن كتب «شكلها باظت» و«كابتن مصر» للصحافي والسيناريست عمر طاهر طبعت ـ كل على حدة ـ ما يزيد على عشر طبعات وهو رقم كبير وضخم جدا بغض النظر عن أن الطبعة الواحدة لا تزيد عن ثلاثة آلاف نسخة، الأمر ذاته يتعلق بكتاب الكاتب أسامة غريب «مصر مش أمي دي مرات أبويا» الذي طبع أكثر من أربع طبعات، مع الأخذ في الاعتبار أن كل محتويات الكتاب الأول نشرت في جريدة اضحك للدنيا، والكتاب الأخير نشر من قبل في جريدة المصري اليوم والمفارقة أن المصري اليوم جريدة محافظة بالأساس، ونادرا ما يجنح أحد كتابها للسخرية.

كل هذا يشير في رأي عبية إلى أن الكتابة الساخرة لا تزال تلقى رواجا وتفاعلا من القراء وأكبر دليل على ذلك تلك الصفحة الساخرة التي كان يكتبها لما يقرب من عامين متصلين في جريدة الدستور الكاتب والسيناريست الساخر بلال فضل، ويعتقد عبية أن صفحته هذه كانت أحد أهم الأسباب التي صنعت شعبية ورواجا للدستور في إصدارها الثاني وخاصة بين الشباب، ثم إن هناك تجربة مهمة جدا منذ عدة سنوات هي جريدة «اضحك للدنيا» الساخرة والتي صنعت شعبية كبيرة جدا.

لكن «اضحك للدنيا» في النهاية توقفت لأسباب متضاربة بين الخسائر ـ وحاليا هناك تجربة اسمها الدبور «جريدة ساخرة» وهي تحاول ان تثبت نفسها، فيما تفعل ذلك أيضا مجلة كاريكاتير، التي يرى عبية أنها لا تقوم بدورها بشكل كاف. إلا أن الكتابة الساخرة لم تختف في رأي عبية، فقط الوسائط التي يمكن فيها استعراضها تنوعت فلم تعد الصحف وحدها هي المستحوذة عليها، المدونات مثلا فتحت الباب أمام كاتب ساخر شاب هو اشرف توفيق ليكتب بتدفق واضح جعل كثيرين يقتبسون ما يكتب من أدب ساخر لينسبوه لأنفسهم، ومثل المواقع الإلكترونية، فموقع مثل بص وطل نشر على حلقات امتدت لما يقرب من عام سلسلة مقالات ساخرة للكاتب الشاب حسام مصطفى إبراهيم عن يومياته كمدرس في الأرياف قبل أن يجمع هذه المقالات ويصدرها في كتب حقق نجاحا معقولا في معرض الكتاب، كل هذا يؤكد أن القارئ يقبل بالفعل وبحماس لافت على قراءة الأدب الساخر.. ولدينا ايضا كتاب يكتبون بشكل جيد في هذا المجال. ما ينقصنا إذن هو من يقرأ هذه التفاصيل ويقرر الاستفادة والإفادة منها.

ماذا إذا صدرت جريدة ساخرة، هل ستنجح؟، يجيب عبية، ستجد المجلة أو الصحيفة الساخرة تجاوبا كبيرا من القراء، خاصة بعد زيادة قاعدة القراء المهتمين بالصحافة الساخرة، فقط يكمن النجاح في طبيعة هذه المجلة وسقفها السياسي والاجتماعي وكذا إخراجها الفني وجودة طباعتها.

ويرى الدكتور صفوت العالم الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة إن عدد الصحافيين الساخرين قليل نسبيا وهم معروفون عربيا مثل أحمد رجب وعلي فرزات، وخالد القشطيني وأنيس منصور ومحمود السعدني، ولم يتعرف الجمهور على الجيل الجديد بعد، ويضيف أن الصحافة الساخرة لم تعد ذات تأثير مثلما كانت من قبل، كما أنها لم تعد تصنع نجما صحافيا، وهي صحافة قلة لأنها مرتبطة بالوعي المستنير لدى القارئ، مؤكدا أن أي صحيفة ساخرة ستصدر ستواجه قيودا رقابية وستواجه حربا في التوزيع.

هذه الضغوط المالية والمهنية والرقابية،في اعتقاد العالم، تكبل الصحافة الساخرة في مصر، خاصة وأنها صحافة رأي أكثر منها صحافة خبرية، كما أنها مقلقة للحكام، ويحاربونها، كما أنها تحتاج إلى جهد أكبر للتحايل على الرقابة والقيود القانونية.

* تاريخ باسم

* يعود الفضل في نشأة الصحافة الساخرة في مصر إلى اثنين هما عبد الله النديم، ويعقوب صنوع رائد المسرح العربي والذي أصدر العدد الأول من مجلته أبو نضارة سنة 1874 وكان اسمها «أبو نضارة زرقاء» وقد كتب تحت العنوان هذه العبارة «جريدة مسليات ومضحكات» وكان توزيعها في ذلك الوقت يتجاوز العشرة آلاف نسخة، وقد قام الخديوي بإغلاقها ونفي صنوع إلى فرنسا، وهو أيضا ما حدث مع عبد الله النديم الذي أصدر العدد الأول من صحيفة التنكيت والتبكيت يوم 6 يونيو سنة 1881 في حجم كتاب عادي باعتبارها وطنية أسبوعية أدبية هزلية هجومها تنكيت ومدحها تبكيت ولغتها لا تلجئك إلى قاموس الفيروزبادي ولا تلزمك مراجعة التاريخ ولا نظر الجغرافيا، وسخريتها نفثات صدور وزفرات تصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا، وكانت المقالات تكتب بالعامية والفصحى تنتقد الخديوي والاحتلال الإنجليزي، وقد أغلقت وتم نفي النديم إلى فلسطين، ثم صدرت جريدة اللطائف وكان النديم معنيا فيها بالدرجة الأولى بالثورة العربية، وقد قام الشيخ محمد عبده رقيب المطبوعات العربية والتركية وقتها بتعطيلها شهرا، وبعد عودته من المنفى أصدر النديم جريدة الأستاذ في أغسطس 1892 وكانت في حجم التنكيت، وبلغ عدد مشتركيها في ذلك الوقت من مصر 860 ومن الخارج 1780، وكان يصدر معها ملحق اسماه «كان ويكون»، وسنة 1900 صدرت مجلة حمارة منيتي التي أسسها محمد توفيق وهو ضابط سابق في الجيش المصري واشتهر بقدرته الفائقة على التنكيت والاضحاك وهاجم الكثير من الشخصيات السياسية البارزة حتى ان الشيخ محمد عبده لم يسلم من هجومه وقدمه للمحاكمة بسبب كتاباته، وأيضا صدرت مجلات: الفكاهة، السيف، المسامير، أبو فصادة، أبو شادوف، المطرقة، أبو الهول، المنارة والبعكوكة، وفي سنة 1907 أصدر أحمد حافظ عوض مجلة «خيال الظل» وأدخل فيها الصور الكاريكاتورية ناقدة للحكومة والحكام، ثم مجلة «السيف والمسامير» التي أصدرها حسين علي وأحمد عباس، ثم مجلة «الكشكول» التي ظهرت سنة 1921 لصاحبها سليمان فوزي، وقد اهتمت بالفكاهة السياسية، وقد وقفت لحزب الوفد بالمرصاد تهاجم الزعيم سعد زغلول وتنقد سياسة الوفد بالصور الكاريكاتورية والمقالات والمقامات، وأصدر حسين شفيق المصري مجلات «البغبغان» و«السيف» و«الناس» و«المسامير»، وكان يحررها بالكامل، وفي عام 1928 أصدر الأستاذ بديع خيري مجلة «ألف صنف»، وفي عام 1930 صدرت مجلة المطرقة وكانت لسانا شعبيا لحزب الوفد المعارض، تنشر الفكاهات والأزجال والمواد الأخرى تسخر بها من صدقي باشا وحكومته، ثم أصدر محمود عزت المفتي مجلة «الراديو» عام 1932 التي تحولت فيما بعد الى «البعكوكة» وكانت توزع 200 ألف نسخة بينما كان توزيع الصحف لا يتجاوز المائة ألف نسخة، وأصدر بيرم التونسي من منفاه عام 1937 مجلة فكاهية باسم «الإمام» ولما عاد أصدر «الصرخة» و«اضحك» وغيرهما.