الإنترنت والإعلام في فرنسا.. تجربة مثيرة للاهتمام

المجموعات الإعلامية الكبرى تتنافس بشراسة على المعلن والجمهور

TT

حركة غير عادية تعرفها المجموعات الإعلامية الكبرى منذ فترة من اجل تطوير نشاطها على شبكة الانترنت. إنه التحدي الجديد الذي أصبح يحتّم على وسائل الإعلام التقليدية البحث على امتداد لها في الشبكة، ليس فقط لإيجاد جمهور جديد أكثر شبابًا ولكن أيضا لإيجاد موارد إعلانية جديدة، ونفسْ آخر. هو حال كثير من الشركات الإعلامية الفرنسية والأوروبية التي دخلت في مواجهة مفتوحة مع بعضها بعضا من جهة، ومن جهة أخرى مع عمالقة الشبكة أمثال غوغل، ياهو و(م.س.ن) من أجل إثبات وجودها وتقليص حجم تأخرها في مجال الانترنت. هذا ما اقتنعت به مجموعة «لغردر الفرنسية»، (المشرفة على صحيفة لومند، مجلة باري مارش، جورنال دوديمانش، قناة غولي.. وغيرها)، التي وضعت يدها في أبريل 2008 على موقع «دوكتوسيمو» المختص في الصّحة بصفقة بلغت قيمتها 138 مليون يورو مما ساهم في رفع ترتيبها بين المجموعات الأخرى على الشبكة إلى الأولى (فرنسيا) بنسبة زيارات تصل إلى 11 مليون ونصف المليون. الخطوة نفسها كانت قامت بها الشركة الإعلامية الألمانية المعروفة «بريس أكسل سبرنغر» في الصيف الماضي حين وضعت يدها هي الأخرى على الموقع المنافس لـ «دكتوسيمو» وهو موقع «أوفمنان». القناة السادسة الترفيهية والمسماة في المشهد الإعلامي الفرنسي «بالصغيرة» هي الآن بصدد التحول إلى «الصغيرة التي تكبر» بحيث إنها أصبحت تنافس القناة الأولى بل وتتفوق عليها ليس من حيث نسب مشاهدة البرامج التلفزيونية بل من حيث نسبة الزيارات على الموقع الرسمي للقناة على الشبكة: م.6 ويب، والفضل يعود للمبادرة الجيّدة التي قامت بها إدارة القناة حين قررت شراء حقوق ملكية مجموعة «سيرياليس» التي تشرف على عدة مواقع مختصة في التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية مثل: جوفيديو.أف.أغ، كليبك، نِتيكو.كوم التي من المنتظر أن ترفع نسب زيارات م.6 ويب من 5.8 مليون زيارة إلى 8.9 مليون لتصبح بذلك من أهم بوابات الانترنت في فرنسا. مجموعة القناة الأولى التي لم تقرر بعد خوض معترك المشاريع الكبرى بدأت في تجريب بعض الخطط المتواضعة كبداية أولى. حيث وضعت يدها أخيراً على الموقع الخاص بالمدونات (أوفر بلوغ) الذي سرعان ما أصبح يحقق لموقع القناة الفرنسية الأولى، وحده، نصف نسب الزيارات، أي 2 مليون زائر في الشهر. الإذاعات التي تريد هي الأخرى حصّتها من الكعكة لم تحصل لغاية الآن إلا على القليل. فأكثر الإذاعات الفرنسية شعبية وهي إذاعة RTL العامة لم تتمكن على الرغم من نجاحها الكبير من فرض وجودها على الشبكة، بحيث لا تتعدى نسبة الزيارات على موقعها 1.8 مليون زائر في الشهر. علماً بأن الوضع معكوس تماما بالنسبة لإذاعة «سكاي روك» الشبابية التي تميّزت عن باقي الإذاعات بنجاح موقعها ومدونتها «سكاي بلوغ» التي يعرضها أصحابها للبيع بمبلغ مرتفع يصل إلى 130 مليون يورو، حيث تسجل شهريا حوالي 6.8 مليون زائر.

لكن قطاع الأخبار هو الذي يشكل الصف الأمامي للمعركة. فإن كانت المعركة تشمل كل مجالات الإعلام المكتوب والسمعي والبصري إلا أنها لا تحتدم بشدة إلا في قطاع الأخبار. هي الوضعية التي عاشتها وسائل الإعلام، خاصة الصحافة المكتوبة التي شهدت مواقعها على الانترنت سباقا محموما للفوز بأكبر قدر ممكن من الزيارات خلال تغطية الحملة الانتخابية الفرنسية الأخيرة: الشائعات واللقاءات الحصّرية وتنظيم استفتاءات وكل الوسائل كانت مباحة. المنافسة التي كانت على أشدها آنذاك بين «لومند»، «لوفيغارو» والآخرين أوصلت نسب الزيارات إلى أرقام قياسية: 4 ملايين لموقع لومند و3 ملايين زائر للفيغارو ولوبرزيان والقناة الأولى. تجنيد الوسائل المادية والبشرية أصبح هو الآخر عاملا مهما لتطوير النشاط الرقمي الجديد لوسائل الإعلام التقليدية، فموقع لومند أصبح يشغل اليوم حوالي 60 شخصا بالإضافة إلى فريق تحرير الطبعة الورقية، وهناك 20 صحافيا وتقنيا يتفرغون لموقع «نوفل أوبسرفاتور» بينما يرتفع عدد الذين يساهمون في موقع «لوفيغارو» إلى 80 فردا.

الجديد أيضا هو أن مهمة «تحليل الأخبار» التي كانت تميز وسائل الإعلام التقليدية عن «ياهو» و«غوغل» لم تعد حكراً عليها، بما أن شركتا محرك البحث والإعلام انطلقتا هما أيضا بشدة في هذا المجال منافستين وسائل الإعلام التقليدية. «ياهو» مثلا التي أعلن مسؤولوها عن تعاملهم مع 30 شريكا مختلفا أهمهم وكالة الأنباء الفرنسية أ.ف. ب، قررت الخروج من وضعية «مورد للأخبار» ومحرك البحث للخوض في تشخيص محتوياتها الإخبارية من خلال الاستعانة بالخدمات الحصرية لمحلّلين ماليين معروفين وريشة صحافيين أمثال كيفين ستز من قناة س.إن.إن. المبادرة نفسها نجدها عند م.س.ن التي أمضت عقد شراكة مع صحيفة «لِكيب» الرياضية، و«أورونج نيوز» التي تتعاون حاليا مع صحيفة لوفيغارو، راديو كلاسيك ومانداروني. المشوار المعاكس كانت قد قامت به الصحافة المكتوبة التي تعاني تحديداً من ركود كبير في مبيعاتها، حيث لجأت إلى استغلال الشبكة بدلاً من الاكتفاء باستنتاج آثار منافستها مكتوفة الأيدي. فطورت معظمها ما يسمى بـ «الموقع المرافق» الذي يكون عادة امتدادا للطبعة الورقية، بغرض الحفاظ على قرائها أو للبحث عن آخرين جدد. هذه الاستراتيجية التي تفتقر للطموح سرعان ما بدأ يظهر ضيق حدودها لان جمهور الشبكة له توقعات ورغبات مختلقة عن قرّاء الصحافة المكتوبة، فنراه يهتم أكثر بالجانب التفاعلي الحواري للشبكة بدل الاكتفاء باستهلاك المادة الإعلامية. هناك كثير من وسائل الإعلام مما تنبهت لهذه المعطيات الجديدة راحت تطور خدمات إضافية من خلال تخصيص مساحة للمنتديات، المدونات أو مساهمات كتاب متّطوعين لجذب الزوار وبالتالي المعلنين، كما فعلت إدارة صحيفة «لوبرزيان» التابعة لمجموعة «أموري» أخيرا حين قررت تطوير نشاطها الرقمي ابتداء بتغيير الصيغة القانونية للمؤسسة الإعلامية التي أصبحت تسمى الآن مؤسسة إعلامية «متعددة الخدمات» وأصبح لها موقع خاص بالهواتف النقالة وخدمات الفيديو والبورصة. مثل هذه المبادرة التي كانت تبدو كمالية منذ عشرية مضت، أصبحت الآن حتمية لا مفر منها في ظل المنافسة الكبيرة، وهو ما عبرّ عنه مدير صحيفة «لوبرزيان» جان أورنان حين قال: «إما أن نتحرك وإما أن نموت». أما بخصوص الموارد الإعلانية فاللافت هو انه باستثناء ياهو، غوغل، أورنج نيوز، والمواقع التي راهنت على الانترنت مبكراً، فإن البقية ما زالت تشحن جهودها وتسخر إمكاناتها في الشبكة على أمل تحقيق الأرباح والموارد الإعلانية التي لا تزال غائبة عن الموعد. فالموقع الرسمي للقناة الأولى لن يصل إلى تحقيق توازنه المالي إلا مع أواخر 2008، أرباح موقع «نوفل أوبسرفاتور» لا يتوقعها أحد قبل مطلع 2009، أما موقع القنوات التلفزيونية الحكومية «فرانس تلفزيون» فليس قبل 3 أو 4 سنوات على الأقل. الاستثناء الوحيد نجده عند موقع «لومند» الذي أصبح يحقق أرباحاً منذ حوالي سنتين. يبقى أن جزءاً من هذه الوسائل لا يُعمّل كثيراً على الموارد الإعلانية لأنها ما زالت ضعيفة، بحيث لم تشكل سنة 2006 سوى نسبة 1.5% من مجموع الموارد الإعلانية التي تحققها وسائل الإعلام التقليدية الأخرى (تلفزيون، إذاعة، جرائد) بينما توقعات سنة 2010 تتحدث عن نسبة لا تتجاوز%3 بحسب نتائج دراسة قام بها مكتب بريسبتا المختص في وسائل الإعلام، علما بأن معظم الواردات الإعلانية اليوم محتكرة بيد البوابات العملاقة أمثال ياهو، غوغل و(م.س.ن)، إضافة للمواقع التي بدأت نشاطها مُبكرا على الشبكة. من بين الحلول التي فكرت فيها بعض الصحف لرفع نسب الزيارات وبالتالي زيادة وارداتها الإعلانية: تطوير استراتيجيات تجارية جديدة كشراء «الكلمات المفاتيح» التي تجعل محرك البحث يقود المتجول في صفحات الانترنت إلى الوصول أوتوماتيكيا إلى هذه المواقع. بعض وسائل الإعلام التقليدية فكرت أيضا في ابتكار صيغ مختلفة لتسجيل تميزها على الشبكة. فها هنا طبعات إلكترونية مدفوعة الأجر لجريدة «لومند» انضم إليها لغاية الآن حوالي80.000 مشترك نصفهم لم يكن له اشتراك سابق في الطبعة الورقية. وهناك صيغ تجمع بين المجاني والمدفوع الأجر بالنسبة ليومية «لوبرزيان» مثلا وأخرى تقترح صيغاً متخصصة كما تفعل صحيفة «لي إكو» الاقتصادية التي تعرض طبعة إلكترونية خاصة بالطلبة والإطارات تشمل مجموعة خدمات كالوظائف الشاغرة، أخبار البورصة وعالم الأعمال وتحليلات اقتصادية.