مصر.. جدل حول استخدام الصور الصحافية

مناظر لأشلاء وجثث الضحايا على صفحات الجرائد المحلية

تتسبب بعض الصور التي يلتقطها المصورون وسط الأحداث بجدل حول صلاحيتها للنشر («الشرق الاوسط»)
TT

«جثث متناثرة هنا وهناك.. أشلاء.. موتى في العراء.. قتلى على القضبان» هكذا عبرت الصور الصحافية التي نشرتها أخيرا الصحافة القومية والخاصة في مصر عن حوادث المرور والطرق التي تقع من وقت لآخر، كان آخرها الاصطدام المروع الذي حدث بين قطار وعدة سيارات أوائل الشهر الماضي يوليو (تموز)، أمام نقطة عبور في طريق محافظة مرسى مطروح (غرب مصر)، مما أسفر عن مقتل وإصابة 120 مواطنا. إبان هذا الحادث قامت عدة صحف منها صحيفة «الدستور» الخاصة، بنشر صور جثث وأشلاء الضحايا وهي ملقاة على قضبان السكك الحديدية، ولعدة أيام متتالية، مما أثار حالة من الاستياء لدى قطاع واسع من القراء، فضلا عن طرحه تساؤلات تتعلق بالدوافع المهنية لنشر صحيفة ما لتلك الصور على نحو يثير تقزز القراء، هل المقصود من نشرها إثارة الرأي العام وتنبيهه للحجم الحقيقي للكارثة؟ أم أن نشر هذه الصور يصب في اتجاه الابتزاز السياسي للحكومة واتهامها ضمنا أو علنا بالمسؤولية عن الأخطاء التي تتسبب في الحوادث؟ وماذا عن احترام خصوصية ومشاعر أهالي الضحايا، فضلا عن مشاعر القارئ الذي يمكن أن يشاهد صوراً في الصباح تثير امتعاضه؟ وما هي الخطوط الفاصلة بين حرية التعبير واحترام الأعراف الاجتماعية والدينية والمزاج العام للقراء؟ أسئلة تتجدد بتجدد الجدل والسجال الذي يدور منذ نشر صحيفة «الميدان» قبل عدة سنوات، صورا للرئيس الراحل محمد أنور السادات تم التقاطها له بعد وفاته في المستشفى وهو مسجى، وهو ما أثار عاصفة من الغضب والجدل بين حرية التعبير واحترام خصوصية الموتى ومشاعر أسرهم، سرعان ما وجدت طريقها إلى ردهات المحاكم. وتكرر الأمر إبان حادث قطار الصعيد الذي أودي بحياة 361 شخصا في فبراير (شباط) عام 2002. من جانبه قال خالد السرجاني مدير تحرير صحيفة الدستور إن «الدستور» لم تنفرد بنشر هذه الصور وحدها، بل قامت صحف حكومية وعلى رأسها صحيفة «الجمهورية» بنشر الصور نفسها، معتبرا أن نشر مثل هذه الصور أمر متعارف عليه في كافة الصحف العالمية. وأضاف السرجاني ان هيئة التحرير في الصحيفة تصورت أن نشر مثل هذه الصور يمكن أن يؤدي إلى تنبيه القراء لحجم الكارثة، ومدى تقاعس المسؤولين على أرواح المواطنين في ظل ازدياد حوادث الطرق بشكل ـ بحسب السرجاني ـ دفع القيادي البارز في الحزب الوطني الحاكم عضو البرلمان زكريا عزمي إلى التنبيه في قاعة البرلمان أن عدد ضحايا حوادث الطرق في مصر تجاوز 70 ألف قتيل في عام 2007. ونفى السرجاني أن يكون الدافع وراء نشر الصور هو الابتزاز السياسي، موضحا أن أداء الحكومة لا يفيد معه أي ابتزاز في ظل تلاحق كوارث الطرق والقطارات، وأن الدافع لم تحركه سوى المهنية لإظهار مدى فظاعة الحادث والتلاعب بأرواح المواطنين. واعترف السرجاني في الوقت ذاته بأن نشر الصور كان له وقع سيئ على قراء الصحيفة، حيث تلقت إدارة التحرير اتصالات كثيرة تطلب الكف عن نشرها، فضلا عن رفض كثير من الصحفيين داخل الجريدة ذاتها هذا التوجه، الأمر الذي أدى بحسب السرجاني إلى قرار هيئة التحرير بإيقاف نشر الصور بعد يومين فقط من بدء نشرها على صفحات الدستور. واعتبر السرجاني أن المزاج المحافظ للقارئ، لا الأعراف الاجتماعية أو الدينية كان هو الدافع لهذا الرفض قائلا: «الناس أرادات أن تقرأ عن الحادث لا أن ترى صورا تثير التقزز». ودافع السرجاني عن قيام صحيفته بنشر هذه الصور قائلا إن الصحف العالمية الكبرى في التسعينات قامت بنشر صور رهيبة ومحزنة للغاية لضحايا المجاعة في الصومال، وأحدثت هذه الصورة اهتماما عالميا بمدى عمق الأزمة التي كان يعيش فيها الصوماليون، في الوقت الذي حصل فيه مصورو هذه الصور على جوائز عالمية في التصوير الصحفي.

يقول توماس افيناريوس مراسل صحيفة «زد دويتش تسايتونج» الألمانية في منطقة الشرق الأوسط «إن نشر صور القتلى في حادث أو في مذبحة عرقية أو ما شابه يظل مرهونا بما تحمله من مضامين تفيد القارئ. فإذا كان هدفها لفت النظر لحجم ما حدث فالصورة هنا ضرورية، فعندما تعبر الصورة ـ والكلام لافيناريوس ـ عن جرائم ضد الإنسانية مثل مذبحة بحجم مذبحة سربرنيتشا التي ارتكبها الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك في تسعينات القرن الماضي، فإن نشر صور هذه المذبحة كان من الأهمية بمكان لوضع الرأي العام أمام الصورة الحقيقية لما حدث»، موضحا «أنه يمكن نشرها لمرة واحدة فقط لتحقيق الهدف المرجو من نشرها». ويضيف افيناريوس «إنه في عدم وجود هذا الدافع مثل أن يكون هناك حادث قطار مثلا، فلا ضرورة لذلك ويمكن الاكتفاء بنشر عربات القطار المحطمة مراعاة لمشاعر أسر الضحايا». ويرى افيناريوس «أن نشر الصورة الصحفية يجب أن يكون مرتبطا برؤية هيئة التحرير في الصحيفة لأهمية الأمر من عدمه»، معتبرا «أن قيام صحيفة معارضة للنظام بنشر صور لحادث، تبدو الحكومة مسؤولة بشكل أو بآخر عن حدوثه ليس نوعا من الابتزاز السياسي، بقدر ما يعد توضيحا للقارئ حول الأخطاء التي ترتكبها سياسات الحكومة». ويشدد افيناريوس على حرية تداول المعلومات وأن قيام الصحف بنشر مثل هذه الصور يجب الا أن يكون مبررا للمساس بتلك الحرية، لأنه في النهاية القارئ وحده هو من يجب أن يقرر استمرار نشر هذه الصور من عدمه. ومن جانبه يرى د. أشرف صالح أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة القاهرة أن نشر صور الحوادث والقتلى في صفحات الحوادث بالصحف، يقع دوما بين وجهتي نظر متعارضتين عالميا ومحليا، فهناك من يرى أن من حق القارئ أن يعرف ويرى تفاصيل الحادث أيا كانت بشاعته أو الظروف المحيطة به، وإن أدت لإيذاء مشاعر القارئ، إذ ان الحقيقة مهمة في حد ذاتها، وهي رؤية ليبرالية إلى حد كبير، بينما يرى البعض الآخر ـ والكلام لصالح ـ أنه يجب عدم نشر صور تتسبب في إصابة القارئ بمشاعر التقزز والغثيان، وأن الصحافة ليس من وظيفتها تكدير قارئها بصور تثير فزعه.

ويضرب صالح مثلا بصور قطار الصعيد الذي احترق معظم الضحايا داخله، وأثار حيرة الصحافة بين نشر صور الجثث المتفحمة لإظهار حجم الكارثة أو الاكتفاء بنشر صور لا تحمل أية مضامين تشير لعمقها وفداحتها. ويرى صالح أن هناك حلا وسطيا يراعي وجهتي النظر المتعارضتين وهو الإقدام على نشر مثل تلك الصور حتى لا يفوت الصحيفة انفراد، أو تصبح متخلفة عن الصحف المنافسة الأخرى في نشرها، لكن بحسب صالح يجب انتقاء الصور التي تحافظ على مشاعر القراء ولا تثير التقزز في نفوسهم.

ويعزو صالح انتشار ظاهرة نشر الصحافة المطبوعة صورا قاسية للقتلى ومن يتعرضون للتعذيب، إلى قيام الصحافة الالكترونية بنشر هذه الصور دون أي مراعاة لمشاعر قارئها، معتبرا أن هناك فرقا بين كلتا الصحافتين، إذ ان الصحافة الإلكترونية متغيرة ومتجددة بتجدد الأحداث، بينما يمكن الاحتفاظ بنسخة من الصحيفة المطبوعة لمدة 20 عاما مثلا، فضلا عن أن قارئ الصحيفة الالكترونية يمكنه مشاهدة صور «مقززة» لحادث ما منفردا، لكن الأمر مختلف في الصحيفة المطبوعة التي يمكن أن يتصفحها كل أفراد الأسرة. ويبين صالح أن هدف الصحافة في مصر من نشر صور الضحايا في الحوادث هو إظهار مدى بشاعة الحوادث وإثارة انتباه المسؤولين، لكن من الواضح ـ والكلام لصالح ـ أن التجربة لم تثبت تحرك المسؤولين أو إثارة الرأي العام بدليل تكرار الحوادث من قطار الصعيد وانتهاء بقطار مطروح، لذا فلا داعي لتكدير مشاعر القارئ بنشر مثل تلك الصور، التي ربما تكون مفيدة في حالات وأماكن أخرى على غرار صور مصرع الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي اغتالته القوات الإسرائيلية وأحدثت تعاطفا دوليا معه ومع الشعب الفلسطيني ضد بشاعة الممارسات الإسرائيلية.