أخبار الكارثة الاقتصادية في أميركا تطغى على كل شيء آخر

محاولات شرح وتحليل ونصائح في تغطية حدث هو الأسوأ منذ الانهيار الاقتصادي عام 1929

مجموعة من الأغلفة والصفحات الأولى لمطبوعات أميركية تناولت الحدث («الشرق الأوسط»)
TT

يوم الاثنين الماضي، كان موضوع الغلاف في مجلة «نيوزويك»:«وزير الخزانة الذي سينظف «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك). وفي مجلة «تايم»: «ثمن الطمع: كيف باع شارع المال اميركا»؟. ركزت واحدة على ما حدث، وركزت الثانية على تقييم ما حدث.

وهكذا، لخصت المجلتان طريقة عرض الاعلام الاميركي (صحف، مجلات، اذاعة، تلفزيون، انترنت) لأكبر كارثة اقتصادية في تاريخ اميركا منذ الانهيارالاقتصادي سنة 1929: ما بين عرض ونقد. وتشابهت المجلتان في تقديم مادة قدمها بقية الاعلام: خلفية تاريخية. مقارنة ما يحدث الآن مع ما حدث سنة 1929. وقالت مجلة «تايم» ان ذلك كان اسمه «كراش» (انهيار)، والآن اسمه «كرايسيز» (كارثة). لكنها قالت، كما قال غيرها، ان تدخل الحكومة منع ان تتحول هذه الى تلك.

ويبدو ان هذا هو ملخص موقف الاعلام الاميركي بصورة عامة، وهو انه لولا «تدخل» الحكومة لتحولت «الكارثة» الى «انهيار».

استعمل معلق في جريدة «واشنطن بوست» كلمة «تأميم». واستعمل آخر في جريدة «واشنطن تايمز» كلمة «اشتراكية». لكن، بصورة عامة، تحاشى الصحافيون استعمال كلمات لا تروق للاميركيين. وتناقض النظام الرأسمالي. رغم كل ما حدث، لم تطالب صحيفة او اذاعة او تلفزيون بتغيير النظام الرأسمالي. (ما عدا مواقع يسارية وشيوعية في الانترنت).

اما مجلة «يو اس نيوز» فقد ركزت على تقديم معلومات تسميها «نيوز يو كان يوز» (اخبار تستفيد منها). وهي، في اسلوب سهل ومبسط، شرح عواقب ما حدث على عامة الناس: ماذا يعنى لشخص عنده حساب في بنك تجاري؟ او حساب في بنك استثماري؟ او حساب معاش؟ او شراء منزل؟ او بيع منزل؟ او قرض لتعليم الاولاد والبنات في الجامعات؟ او تأمين اجتماعي؟ (لم يتأثر هذا لان الحكومة تديره).

منذ هجوم 11 سبتمبر (2001) وفوز الرئيس بوش برئاسة الجمهورية للمرة الثانية (سنة 2004) لم تنشر جريدة «واشنطن بوست» عنوانا غطى كل عرض واعلى صفحتها الاولى. لكنها، فعلت ذلك يوم السبت، وكتبت عنوانا عملاقا: «تدخل حكومي تاريخي في شارع المال». وايضا يوم الاحد:«الكونغرس يتحرك ليغير شارع المال».

وطبعا، استعمال كلمة «تاريخي» في عنوان يؤكد انه هو نفسه عنوان تاريخي.

جريدة «بيرك كونيكشن»، الصغيرة الحجم والقليلة التوزيع، التي تصدر في ضاحية من ضواحي واشنطن، سألت بعض سكان الحي عن رأيهم في ما حدث. قالت موظفة في عيادة طبية:«لا اعرف ما حدث، لكنى اعرف ان الولايات المتحدة تواجه مشكلة كبيرة». وقال مهاجر من المكسيك:«لم تنته كارثة ارتفاع سعر جالون البنزين، وجاءت كارثة اخرى». وقالت طالبة في مدرسة ثانوية:«والدي يعمل في بنك، ويكاد يقتلنا ويقتل نفسه من كثرة الهم والقلق».

لا بد ان صحف ضواح اميركية اخرى فعلت نفس الشيء. ولا بد ان عامة الناس قالوا نفس الشيء. لم يتفلسف احد، ولم ينظر احد، وذلك لانه موضوع اقتصادي معقد بالنسبة لعامة الناس.

يوضح هذا ان تغطية الاعلام لهذه الكارثة الاقتصادية ليس سهلا. ليس مثل شرح هجوم ارهابي، او غزو دولة اجنبية (مع الاستعانة بالصور والفيديو). ولا مثل التعليق على هجوم او غزو (باستعمال عبارات مثل «عدو» و«ارهابي»). في هذه الحالة، من هو العدو؟ ومن هو الصديق؟

في جريدة «لوس انجليس تايمز» كتب اريك هوفر:«انا اعرف وول ستريت. املك بنكا تجاريا، وبنكا استثماريا، وعملت في المضاربات والمراهنات. اعرف المكان جيدا، واقول: اقبضوا على الجناة».

وفي نقاش في تلفزيون «ام اس ان بي سي»، لم يستعمل كريس ماثيو، في برنامجه «هاردبول»، كلمة «جناة». استعمل كلمة «اعداء». وهكذا، قرب المشكلة الاقتصادية الى اذهان المواطن العادي الذي يفضل ان يقسم الناس الى عدو وصديق، والى نحن وهم.

لكن، من هو الصديق؟ سأل واحد من معلقى برنامج كريس ماثيو نفس السؤال. وخلص المعلقون الى انه لا يوجد صديق. لأن الحكومة التي تدخلت فعلت ذلك مضطرة. وعقد هذا من تغطية الموضوع. وتأكد هذا التعقيد بانتشار الرسوم والجداول والقوائم والالوان على صفحات الصحف الرئيسية. جريدة «نيويورك تايمز»، لايام على التوالي، افردت صفحتي الوسط لتغطية عملاقة، لكن اغلبية المساحة كانت رسوما وجداول وصورا.

وبمناسبة الحديث عن الصور، واجه الاعلام مشكلة صور حقيقية. لم تكن هناك صور قتلى وجرجى، ولا صور حرائق وفيضانات. «الابطال» هم، وزير الخزانة، ورئيس «فيدرال ريزيرف» (البنك المركزي).

لهذا، ربما كانت اكثر صور ظهرت على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف الاولى هي صورة وزير الخزانة، هنري بولسون.

لكن، لسوء حظ المصورين، ليس الرجل «فوتوجينيك» (وجه تلفزيوني جذاب). سنه كبيرة، وصلعته كبيرة، وتجاعيد وجهه كبيرة. حتى «البطل» الثاني، رئيس البنك المركزي بنجامين بيرنانكي، نصف رأسه أصلع، وله شارب كثيف واشيب.

ماذا يفعل مصور الصور والفيديو في هذه الحالة؟ اكثر مصورو التلفزيون من «سلو موشن» (حركة بطيئة) لهؤلاء «الابطال». وهم يمشون من قاعة اجتماع الى قاعة اجتماع، ويحملون ملفات عملاقة. وكأن كل واحد منهم راعي بقر (كاوبوي)، يحمل مسدسا، ويمشي في بطء نحو العدو. مع الفارق الكبير. مثل فيلم كله رجال خشنون وجادون، دون امرأة ومن دون اثارة.

واكثر مصورو الصحف من صور هؤلاء «الابطال» وهم في حالات تأمل، او قلق، او يمسحون اوجههم بأيديهم.

لم يبك واحد، ولو بكى لاضاف اثارة الى الموضوع. ولم تكن وسطهم امرأة. ربما مثل سارة بالين، حاكمة ولاية الاسكا التي اختارها ماكين نائبة له. بين يوم وليلة، اضافت اثارة غير عادية على الحملة الانتخابية، وصارت حلم مصوري الصحف والتلفزيون.

خلال الايام العادية، تنشر الصحف اليومية الرئيسية الاخبار الاقتصادية في ملحقها الاقتصادي اليومي. واذا كان مهما، تنشر عنوانا في الصفحة الاولى، وتشير الى تفاصيل في الملحق الاقتصادي. لكن، مع تفاقم الكارثة الاقتصادية، تحولت الصفحات الاولى الى صفحات اقتصادية. وركزت الملاحق على اخبار اقتصادية اخرى.

وفي التلفزيون، بدأت نشرات الاخبار بالاقتصاد، يوما بعد يوم. لكن اكثر الاخبار اثارة في التلفزيون كان الاعصار «آيك»، وانفجار فندق «ماريوت» في باكستان. بالاضافة الى سارة بالين.

لو لم تتدخل الحكومة، وتنقذ هذه البنوك الاستثمارية، لافلست بنوك، وشركات، وناس. ولوجدت كاميرات التلفزيون مناظر مثيرة لناس يبكون في الشوارع، او يقفون في صفوف الطعام. مثل صور الانهيار الاقتصاي سنة 1929. في تلك السنة، انتحر بعض المستثمرين الذين افلسوا عندما قفزوا من اعلى ناطحات السحاب في نيويورك (لم تكن هناك كاميرات تلفزيون في ذلك الوقت).

وناقشت الاجهزة الاعلامية السؤال الابدي: هل نشر الاعلام الذعر، وجعل المستثمرين يسحبون اموالهم من البنوك؟ او سحبوا هم اموالهم ونشروا الذعر؟

ناقشت مواقع الانترنت هذه النقطة اكثر من غيرها من وسائل الاعلام. في موقع «فول»: كتب واحد:«يفسر قاموس بريتانيكا كلمة «بانيك» (فزع) بأنها حالة لا يقدر فيها الشخص على السيطرة على نفسه بكامل قواه العقلية. هذا ما حدث للمستثمرين. وهم المسؤولون عن فزعهم وفزع الاعلام وفزع المواطنين».

لكن، في موقع تلفزيون «سي بي اس»، كتب واحد:«شاهدت الصحافيين يغطون المؤتمر الصحافي الذي اعلن فيه بنك اوف اميركا عن شراء مؤسسة ميريل لنش الاستثمارية. لم ار في حياتي الصحافيين لا يعرفون كيف يسألون اسئلة ترتفع الى مستوى الكارثة». ربما الحقيقة هي ان الاعلام لا يعرف كيف يغطي حدثا اقتصاديا، كله ارقام واحصاءات. وليس فيه اعداء واصدقاء، وابطال وخونة، وقتلى.