المناظرات الرئاسية.. ظاهرة أميركية سبقت عصر التلفزيون

باتت ركنا أساسيا من أركان الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة

باراك اوباما وجون ماكين يتصافحان بعد آخر مناظرة تلفزيونية بينهما («الشرق الأوسط»)
TT

يدين الاعلام العالمي للاعلام الاميركي بظاهرة المؤتمر الصحافي التلفزيوني المباشر بعد نهاية مفاوضات الرؤساء. وربما ستنتقل الى بقية دول العالم ظاهرة اعلامية اميركية اخرى، وهي المناظرة التلفزيونية المباشرة بين مرشحي الرئاسة (وأي مرشحين).

قبل انتشار التلفزيون، لم يكن الرؤساء يتحدثون الى الصحافيين بعد اجتماعاتهم مباشرة، او بصورة منتظمة. في كثير من الحالات، كان الرئيس ينادي صحافيه المفضل، وينقل له ما دار في الاجتماع، اذا اراد ان يفعل ذلك. او كان يكتفي ببيان ختامي مشترك يوزع على الصحافيين. لكن، في سنة 1980، جاءت مارجريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا، الى واشنطن، وقابلت الرئيس ريغان في البيت الابيض. ومنذ البداية، كان واضحا انهما يتشابهان، ليس فقط في آرائهما المحافظة، ولكن، ايضا، في مزاجهما وقوة شخصيتهما. خرجا من الاجتماع، وعقدا مؤتمرا صحافيا مشتركا، نقله التلفزيون مباشرة. وبدآ ظاهرة اعلامية مثيرة ومفيدة قبل ذلك بعشرين سنة، وفي سنة 1960، بدأ السناتور جون كنيدي (مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية) ونائب الرئيس نيكسون (مرشح الحزب الجمهوري) ظاهرة اعلامية اخرى، مثيرة ومفيدة: المناظرة التلفزيونية المباشرة.

لكن، قبل التلفزيون، وقبل ذلك بمائة سنة، جرت، في سنة 1860، اول وأشهر مناظرة في تاريخ اميركا: بين عضو الكونغرس ابراهام لنكون (جمهوري) والسناتور ستيفن دوغلاس (ديمقراطي). في الحقيقة، كانت سبع مناظرات، بعضها في انتخابات الكونغرس، وبعضها في انتخابات الرئاسة. لكنها وضعت اسس مناظرات الانتخابات الرئاسية، خاصة لأن الموضوع الرئيسي كان تجارة وامتلاك الرقيق.

حسب مناظرات ذلك الوقت، تحدث كل واحد ساعة، ثم نصف ساعة للرد على بعضهما. في البداية، تحدث دوغلاس، وأثار حماس المستمعين بأسئلة مثل: «هل تريدون زنجيا يكون مواطنا متساويا معكم؟» وهتف بعضهم: «لا». وسأل: «هل تريدون زنجيا يملك مزارع مثل مزارعكم وثروات مثل ثرواتكم؟» وهتف بعضهم: «لا».

لكن، ركز لنكون على بنود حقوق الانسان والمساواة والحرية في الدستور الاميركي، واعلان الاستقلال الاميركي. وسأل: «ألم يخلق الله الناس متساوين؟» وهتف بعضهم: «نعم». وسأل: «لماذا لا نلتزم بالدستور وحقوق الانسان؟» وهتف بعضهم: «نقدر على ذلك، نقدر على ذلك».

لم يتم التحول بين يوم وليلة. مرت سنتان قبل ان يفوز لنكون برئاسة الجمهورية. ثم سنتان قبل ان يعلن تحرير العبيد. ثم ثلاث سنوات قبل ان يعلن الحرب على ولايات الجنوب الكونفدرالية التي رفضت تحرير العبيد. وانتصر عليها.

مرت مائة سنة بين اشهر مناظرتين في تاريخ اميركا: مناظرة لنكون ودوغلاس (سنة 1860)، ومناظرة السناتور الديمقراطي جون كنيدي، ونائب الرئيس الجمهوري نيكسون (سنة 1960). اشتهرت الثانية لأنها كانت اول مناظرة في التلفزيون (قبل ظهور التلفزيون الملون). بدلا من التركيز على فصاحة اللسان والاسئلة المثيرة للمستمعين، وهتافاتهم، صار التركيز على منظر الشخص وطريقة كلامه.

في جانب، كان كنيدي وسيما وأنيقا وفصيحا وجريئا. وفي الجانب الآخر، لبس نيكسون بدلة باهتة اللون، وتصبب منه عرق غزير، وحرك رجليه كثيرا (كان وقع وقضى اياما في مستشفى).

وصار واضحا ان كنيدي فاز بسبب التلفزيون: لأن الفرق بينهما في الاصوات كان قليلا جدا. ولأن الذين استمعوا الى المناظرة في الراديو فوزوا نيكسون، بينما فوز كنيدي الذين شاهدوها في التلفزيون.

في انتخابات سنة 1964، رفض الرئيس جونسون (ديمقراطي) مناظرة السناتور قولدووتر (جمهوري). وفاز عليه. وفي انتخابات سنة 1968، رفض نائب الرئيس همفري (ديمقراطي) مناظرة نيكسون. لكن، فاز نيكسون. وانتقاما، في سنة 1972، رفض الرئيس نيكسون مناظرة السناتور ماكقفورن (ديمقراطي). وفاز عليه. في الحالات الثلاث، كان المرشح الذي في البيت الابيض يملي رغبته.

في انتخابات سنة 1976، في البداية، رفض الرئيس فورد (جمهوري) مناظرة جيمي كارتر، حاكم ولاية جورجيا (ديمقراطي). لكنه غير رأيه بسبب ما عرف بمرحلة الشفافية بعد فضيحة ووترغيت.

وربما كان افضل له لو لم يغير رأيه، ورفض المناظرة. وذلك لأنه ارتكب خطأ ساهم في سقوطه. كان السؤال عن حقوق الانسان في دول المعسكر الشيوعي في شرق اوروبا. وقال فورد: «لا يسيطر الروس على دول شرق اوروبا». وسأله الصحافي: «هل تعني ما تقول؟» واجاب: «هذا ما أؤمن به». في وقت لاحق لاحظ الخطأ الكبير الذي ارتكبه، وقال: «كان واضحا انني لم اشرح ما اردت ان اقول». لكن، كما قال مؤرخون كثيرون ان تلك الهفوة كانت من اسباب سقوطه امام كارتر.

خلال الشهر الماضي، جرت ثلاث مناظرات بين السناتور اوباما، مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية، والسناتور ماكين، مرشح الحزب الجمهوري. عقدت الاولى في جامعة مسيسبي، والثانية في جامعة بلومنت (ولاية تنيسي)، والثالثة في جامعة هوفسترا (ولاية نيويورك). وقبل اسبوعين، عقدت مناظرة بين سارة بالين، حاكمة ولاية الاسكا ومرشحة الحزب الجمهوري نائبا لرئيس الجمهورية، والسناتور بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي منافسا لها.

في الماضي، كانت منظمات نسائية، او عمالية، او تعليمية، تنظم المناظرات. لكن، من قبل ثماني سنوات، بدأت تنظمها لجنة المناظرات الرئاسية. وهي التي تحدد الآتي: اولا: المكان والزمان. ثانيا: الصحافي الذي سيديرها. ثالثا: شبكة التلفزيون التي ستذيعها. رابعا: السماح للمستمعين بتوجيه اسئلة.

كانت الاولى، في جامعة مسيسبي، اول مناظرة رئاسية بين ابيض واسود في جامعة كانت رمز التفرقة العنصرية الجامعية. حتى سنة 1962، عندما دخلها جيمس ميرديث، اول طالب اسود.

وقال روبرت خياط (اصله لبناني) رئيس الجامعة: «مرت سنوات كثيرة على هذه الجامعة لتتخلص من سمعتها. وتخلصت منها. اليوم، خمس طلاب الجامعة سود». وقبل سنتين، ازاح خياط نفسه الستار عن تمثال ميرديث. وهو ليس بعيدا من تمثال لجندي حارب في الحرب الاهلية (عندما تمردت ولاية مسيسبي وولايات جنوبية اخرى ضد قرار الرئيس لنكون بإنهاء تجارة وتملك الزنوج). حضر الاحتفال ميرديث نفسه (الآن عمره 75 سنة).

قال خياط انها لم تكن صدفة ان المناظرة عقدت يوم 29 سبتمبر (ايلول). في نفس ذلك اليوم سنة 1962، عارض بارنيت، حاكم ولاية مسيسبي دخول ميرديث الجامعة لانه اسود. وقال امام مئات الطلاب البيض وهم يصفقون: «لن يدخل زنجي جامعتكم وانا حاكم ولايتكم».

في نفس اليوم، امر الرئيس كنيدي القوات الفدرالية بدخول الجامعة، وحماية ميرديث وهو يدخلها.

وقال خياط انهم تقدموا بطلب قبل عشرة شهور، ونافستهم جامعات كثيرة، ويعتقد ان تاريخ جامعة مسيسبي كان من اسباب فوزها بالمناظرة.

وقال د. الان شرودر، استاذ في جامعة نورث ويستيرن (ولاية اللينوي)، ومؤلف كتاب: «المناظرات الرئاسية التلفزيونية: خمسون سنة من المغامرات»: «كل مناظرة مغامرة. لا يعرف اي شخص كيف ستنتهي. ومن سينتصر. اي هفوة، اي نظرة استعلاء، اي نظرة بلاهة. كلها تحسب عليك». عن ماكين، قال: «في مناظرات تلفزيونية سابقة، كان ماكين خليطا من غضب مفاجئ، ونكتة سريعة، ولا مبالاة، واحتقار للسؤال». لم يحتقر اوباما، وتحاشى الاشارة الى لونه. لكنه في المناظرة الثانية استعمل «ذات ون» (هذا) اشارة الى اوباما، وقال بعض الناس ان فيها تقليلا من شأن اوباما، وقال آخرون انها عنصرية.

قالها ماكين في لحظة توتر، ولم تكن اول مرة. في سنة 2000، في مناظرة تلفزيونية في الانتخابات الاولية للحزب الجمهوري بين ماكين وبوش، شكك بوش في اهتمام ماكين بالمحاربين القدامى. واستغرب ماكين كيف يقول بوش ذلك، وماكين حارب في فيتنام، وبوش لم يحارب في اي حرب. وقال لبوش: «يا رجل، اخجل من نفسك. يا رجل، اخجل من نفسك».

وزادت مشاكل ماكين لأن منافسه اوباما مناكف (ماكين هادئ)، وكثير الكلام (ماكين قليل الكلام). لهذا، كان الرهان بين ان يفقد ماكين اعصابه ويقول ما سيحسب عليه. وبين ان يكثر اوباما من النظريات والفلسفات.