تلفزيون لبنان الرسمي يقتات بأرشيفه.. في غياب أي رعاية

الطبقة السياسية لا تحتاج إليه لأن لكل فريق إعلامه الخاص

جانب من بث «تلفزيون لبنان»
TT

وحدهم اللبنانيون المخضرمون يذكرون «أيام العز» في تلفزيون لبنان الرسمي الذي كان «شاغل الناس» منذ بداياته في عام 1958 ليصل الى عصره الذهبي في الستينات وصولا الى عام 1975 مع اندلاع الحرب. فقد أدت تطورات هذه الحرب الى موته التدريجي الذي لا يزال مستمرا الى يومنا هذا. لكن المفارقة في هذه المؤسسة الاعلامية المرئية الرسمية وسط غابة المؤسسات الخاصة انها تجذب محبي فسحة الصفاء التي تمنحها لمشاهديها من خلال الإعادة المتكررة لبرامج ومسلسلات قديمة بهدف ملء مساحة البث. وكأن تلفزيون لبنان يقتات بأرشيفه ليبقى على قيد الحياة بالحد الادنى من قدرات شاشته الضعيفة وبثه الأضعف. هذه الإعادات كانت قد دفعت نقابة ممثلي المسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون في لبنان الى التحرك وإنذار مجلس ادارة تلفزيون لبنان الرسمي باللجوء الى تحركات تصعيدية، اذا لم يتم التجاوب مع مطلبها ايفاء الممثلين مستحقاتهم «المكتسبة» عن المسلسلات التي يعيد التلفزيون بثها باستمرار، مؤكدة رفضها «الاستهتار بحقوق الممثلين الذين اعطوا اعمارهم وجهودهم وابداعاتهم في خدمة المؤسسة». وتفوق نسبة المتضررين الـ 200 ممثل من بين 676 ممثلاً ينضوون تحت لواء النقابة. الا ان مطلبهم هذا لم يلق من يتبناه بجدية، فبقيت اعادة البرامج القديمة تتكرر وبقيت تحظى بجمهور تعب من فوضى المسلسلات المدبلجة او تلك المطبوخة على عجل.

الا ان الحنين لا يكفي لاستمرار هذا التلفزيون، الذي يهبط عليه الاهتمام الرسمي موسميا، لا سيما كلما تغيرت الحكومات وجاء وزير اعلام جديد. وهو غالبا ما يكتفي بزيارة شكلية لهذه المؤسسة التابعة لوزارته. وربما في هذا الاطار تفقد وزير الاعلام الدكتور طارق متري مبنى «تلفزيون لبنان»، وجال في مختلف الاقسام في المديريات والاستديوهات واطلع على حسن سير العمل. كما اجتمع مع المسؤولين في المحطة. وشدد متري على ان «تلفزيون لبنان هو لكل لبنان»، مركزا على «الموضوعية والتعامل مع الاحداث والتطورات بما يخدم الوطن وجميع ابنائه». ثم اكد «اهتمام الحكومة بتطوير تلفزيون لبنان بما يعود على لبنان بالفائدة، خصوصا في بثه الارضي والفضائي». الا ان مدير الاخبار السابق في تلفزيون لبنان الاعلامي طانيوس دعيبس يقرأ أحوال هذه المؤسسة من زاوية أكثر واقعية، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «عدم تفعيل دور تلفزيون لبنان لا يعود الى عدم توفر الامكانات ولكن لأن الدولة لا تهتم بمنحه الامكانات». ويذكر بالنقاش الذي دار في مجلس النواب حول الاعلان الانتخابي وباقتراح يقضي بظهور المرشحين على شاشته مجانا، في حين يسمح للتلفزيونات الخاصة بتسعيرة مقابل ظهور هؤلاء المرشحين. وقد أظهر هذا النقاش ان لا هم لدى السياسيين اللبنانيين بأن يصبح تلفزيون الدولة خارج سياق الخضوع للرغبات السياسية».

ولمن لم تسعفه الذكرى نذكر بأن تلفزيون لبنان الرسمي كرس شخصيات تلفزيونية أخذت حيزها من الوجدان الشعبي مثل «ابو ملحم» الذي تحول الى شخصية نمطية لا تزال تستخدم للدلالة على أسلوب الوعظ والمثالية في الحياة، و«ابو سليم» و«الدنيا هيك» الذي كان يعده الراحل محمد شامل، والذي اكتسحت شخصياته المجتمع اللبناني وتركت تأثيرا قلما عرفه أي برنامج آخر. هذا النجاح دفع المؤسسة اللبنانية للإرسال «ال بي سي» الى إعادة انتاج البرنامج بشخصياته ذاتها على ان يؤديها ممثلون جدد. لكن مشكلة قانونية حول حقوق الملكية بين ورثة معده محمد شامل ومنتجه تلفزيون لبنان أثارت جدلاً واسعاً. وكانت النتيجة عزوف «ال بي سي» عن عرض البرنامج رغم تصوير بعض الحلقات منه.

اما المسلسلات التي قدمت على شاشة التلفزيون الرسمي ثم انتقلت الى الشاشات العربية فهي لا تعد ولا تحصى. منها «المشوار الطويل» الذي جمع الفنان المصري الكبير الراحل محمود المليجي مع الفنان المسرحي المميز الراحل «شوشو» و«ألو حياتي» و«النهر» و«عازف الليل» وغيرها. كذلك المسلسلات البدوية مثل «فارس ونجود» «وفارس بني عياد» وغيرهما. فقد انتشر جيل كامل من الفتيات اللواتي يحملن اسم «نسرين» بطلة مسلسل «النهر»، كذلك الامر مع «ديالا» والمسلسل الذي حمل اسمها. والأهم ان الانتاج المحلي استقطب نجوما كبارا من الرواد وصنع نجوما كبارا أصبحوا رواداً في عالم المرئي. واللائحة تطول ولا تنتهي من فيروز والاخوين رحباني الى سميرة توفيق ونجيب حنكش الى منير معاصري ونضال الاشقر وانطوان كرباج ورضا كبريت ومادونا غازي وغيرهم. وبعض هؤلاء فقدوا الكثير من بريقهم عندما فقد تلفزيون لبنان بريقه. وكانت محنة تلفزيون لبنان قد بدأت مع بداية الحرب اللبنانية إذ تأثر بجو الانقسام الذي كان سائداً آنذاك فتحول الى قناتين في تلفزيون واحد. وقد ظهر الانقسام جلياً مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ثم مع انتفاضة 6 فبراير (شباط) 1984 وتكرس مع ما سمي «حرب التحرير» عندما فرض وجود حكومتين قيام شركتين لتلفزيون لبنان في الحازمية وفي تلة الخياط.

بعد توقّف الحرب عام 1990، حاول تلفزيون لبنان استعادة زمام الانتاج التلفزيوني، فأنتج مجموعة من الأفلام التلفزيونية (التيليفيلم) وبعض المسلسلات القصيرة التي تتألّف من خماسيات أو سداسيات أو سباعيّات. واستقطبت هذه الاعمال الجمهور الذي عاد اليها رغم المنافسة الشديدة للمحطات التي نشأت خلال الحرب والتي تميزت بتقنياتها المتطورة وقدراتها المالية الكبيرة قياسا بالتلفزيون الرسمي.

مع مسلسل «العاصفة تهب مرتين» الذي لا يزال نجم الاعادات على الشاشة الرسمية، انحسر مجد المسلسلات المكسيكية المدبلجة الطويلة والضاربة لصالح الاعمال المحلية. وذلك في عام 1994. حينها بدأ انيس شكري فاخوري الكتابة، لينطلق العرض وتنطلق معه مدرسة جديدة في عالم الدراما اللبنانية. وبعد «العاصفة تهبّ مرّتين»، قدم فاخوري مسلسل «نساء في العاصفة». وقيل إنّ الأرباح التي حقّقها العملان، كانت كافية لتغطّي كل خسائر البرامج الأخرى التي كانت تعرض على المحطّة نفسها. لكن موجة الحظ لم تستمر طويلا في التلفزيون الرسمي ليخضع بموجب التجاذبات السياسية لمحاولات إصلاح لم تقض عليه، وكذلك لم تعده الى الحياة الاعلامية منافساً في مواجهة المحطات الخاصة التي نالت رخصها على اساس المحاصصة السياسية. ويرفض دعيبس المقارنة بين ماضي تلفزيون لبنان وحاضره. يقول: «عندما كان التلفزيون وحيدا في ساحة الاعلام المرئي كان العمل التلفزيوني العربي لا يزال في بداياته، لذا برز واحتل موقعا متقدما، لا سيما أن الاهتمام بإنتاج البرامج والاعمال الفنية كان ملحوظا. من هنا فإن المقارنة بين الماضي والحاضر هي مقارنة ظالمة وغير حقيقية. لا الظرف السياسي ولا الواقع الاعلامي يصحان فيها».

ويضيف: «العلة في المقاربة لمفهوم التلفزيون الدولة. السلطة الحاكمة تصنفه ملكا لها، لذا مهمته الوحيدة هو الدفاع عنها. بعبارة أدق هو بوق للسلطة. ولأن الخلافات كبيرة داخل السلطة، لذا ترك مهملا. لا أحد ينظر اليه على انه مؤسسة مستقلة يمكنها اذا تلقت الدعم الذي تستحقه ان تقوم بعملها بمعزل عن تجاذبات السلطة. وفي ظل هذا الواقع تحوّل عبئاً. مفهوم السلطة لتلفزيون الدولة هو مفهوم متخلف. وهو ما انعكس على الواقع الحالي لتلفزيون لبنان».

السلطة الحاكمة تتحكم في تلفزيون لبنان. هذا واقع لا مجال لإنكاره. ولطالما استخدمت شاشته منبرا لتصفية الحسابات. ففي أيام الرئيس السابق اميل لحود استخدم لشتم الرئيس الراحل رفيق الحريري. وعندما قدم الاعلامي الراحل سمير قصير حلقة عن مستوى الفقر في لبنان اوقف برنامجه. كذلك كان قد اوقف برنامج زافين قيومجيان لأنه لم يعجب السلطة آنذاك. ومثله جوزيف عيساوي الذي كسر المحرمات بحلقة عن «الشذوذ الجنسي» في برنامج «بدون كرافات». باختصار بقي التلفزيون الرسمي خاضعا لصراعات السلطة ونفوذها وممنوعاتها. يقول دعيبس ان تلفزيون الدولة في المفهوم الفعلي للاعلام الرسمي«يجب ان يكون في خدمة الدولة وليس في خدمة السلطة، وانما في خدمة المكلف الذي يدفع ضرائب يتم منها تأمين استمراره، لذا يجب ان يعمل التلفزيون الرسمي وفق برمجة غير خاضعة لأهواء السوق والمعلن والسلطة. والدولة تستطيع اذا أرادت ان تساهم بعمل اعلامي حقيقي. لكن الطبقة السياسية لا تحتاج الى تلفزيون الدولة لأن لكل فريق تلفزيونه الخاص».

ويضيف: «الاعلام الخاص أخذ مداه خلال الحرب الاهلية. وعندما دخل لبنان مرحلة السلم الاهلي بعد اتفاق الطائف، جاء الاتفاق لينظم الإعلام. ألغى الميليشيات وجمع سلاحها وابقى على الإعلام الذي ولدته. وكان قد اعيد انتاج القوى السياسية التي تقود هذه الميليشيات، فدخلت السلطة وأعيد تركيب الواقع السياسي والاجتماعي والاعلامي الذي حدد الواقع اللبناني الجديد».

ولا ينكر دعيبس ايجابيات الاعلام الخاص. يقول: «انتج تعددية وادى الى تطوير القطاع وادخل تقنيات جديدة. والاهم انه ادى الى توسيع هذا القطاع وضخ كمية كبيرة من التشغيل في السوق الاعلامي بما ولدته هذه المؤسسات من وظائف جديدة». ويضيف: «صحيح ان هذا الاعلام كان نتاج حرب. لكنه كان ايضا جزءا من تطور القطاع الاعلامي في العالم». الا ان العلة كانت في تنظيم الاعلام الخاص وفق المحاصصة واهمال التلفزيون الرسمي. يشير دعيبس الى انه في تلك المرحلة «لم يهتم احد بتلفزيون لبنان. التجربة الوحيدة لإعادة الاعتبار الى مفهوم تلفزيون الدولة كانت مع وزير الاعلام السابق ألبير منصور. لم تنجح التجربة لأن السلطة المؤلفة من ميليشيات وقوى طائفية لا تملك مفهوما لتلفزيون الدولة ووظيفته الفعلية. وهي غيّبت هذه الوظيفة التي يفترض ان تسمح لمؤسسة اعلامية رسمية بتعزيز المصالحة والوعي الاجتماعي والثقافي بعيدا عن توزيعات الطوائف وسيطرة الاعلان والمال على القطاع الاعلامي. لو كانت الاولوية لدى السياسيين هي بناء الدولة اللبنانية لما كان تلفزيون لبنان الا أولوية في اهتمامات الحكومات المتعاقبة».