حكايات الحدود: معادلات الرفيق والطريق

مراسلة «الشرق الأوسط» تكتب عن تجربتها خلال سلسلة تحقيقات على الحدود السورية ـ اللبنانية

سناء الجاك خلال العمل على سلسلة التحقيقات على الحدود السورية - اللبنانية («الشرق الاوسط»)
TT

«الرفيق قبل الطريق» معادلة لا بد منها لإجراء تغطية استقصائية تشمل المناطق الحدودية الممتدة على طول 359 كلم بين لبنان وسورية. لم تكن المسألة أشبه بشربة ماء. بالتأكيد لم تكن كذلك. فالتجوال لتغطية أحوال الحدود ليس بالأمر اليسير لوجستياً. هو يتطلب الانتقال وسع شبه دائرة تبدأ من منطقة العريضة الساحلية عند آخر نقطة من الشمال اللبناني لتدور صعودا ثم نزولا وصولا الى سفوح جبل الشيخ عند نقطة التقاء الحدود الشرقية بالحدود الجنوبية. وبالتالي يجب اختيار الأماكن الاستراتيجية التي تفي الموضوع حقه.

من دون رفيق درب لا يمكن انجاز موضوع. كذلك لا امكانية للوصول الآمن الى حيث يجب بنسبة يفترض توافرها في اي خطوة صحافية ميدانية على امتداد الشريط الحدودي الوعر، ليس بالمعنى الجغرافي في معظم محطاته وانما بالمعنى السياسي والعسكري.

فالراغب بخوض مثل هذه التغطية يحمل تسمية «غير مرغوب فيه» من الجهات الرسمية والامنية وحتى من الجماعات التي تعتاش من التهريب بمختلف مستوياته التي تبدأ مع بضعة لترات من المازوت للاستخدام المنزلي ولا تنتهي بتهريب الاسلحة والبشر والممنوعات، او تسجيل المخالفات المسلكية للأجهزة الامنية والاعتداءات الدولية كقضم الاراضي وسرقة المياه والوجود المسلح غير الشرعي، والتي يمكن رصدها بالعين المجردة ومن ثم التحايل للالتقاط صورة تثبت هذه الاعتداءات.

من هنا لا يمكن اختراق الميدان من دون «المرافق». هو نبع الحكاية. واختياره يجب ان يتوافق مع جملة شروط كفيلة بتسهيل العمل. عندما سألت أحد الزملاء عن مرافق، جاءت النصيحة بأن استخدم أدلاء من أبناء المناطق التي يجب التوجه اليها مقابل مبلغ من المال. لم آخذ للأمر ابعاداً تتجاوز الجغرافيا المجهولة لتلك المناطق النائية في بادئ الامر. بعد ذلك طرحت الهواجس نفسها. كيف يمكن الثقة بحياد دليل من المنطقة في ظل التجاذب السياسي الحاد بين أصحاب «المحور السوري الايراني» و«المحور السعودي الاميركي» كما تصنف الاصطفافات على الطريقة اللبنانية، لا سيما اذا كان الدليل يعمل في التهريب، أي صاحب جهوزية ليبيع أي سلعة تدر عليه أرباحاً؟ كيف يمكن العمل بالحد الادنى من الامان عند نقاط حدودية حساسة ومعروفة ميولها السياسية وأنا أكتب لصحيفة قد تصنف لاعتبارات مذهبية وحزبية في خانة العداء. وبفضل الحملات الإعلامية صار معروفاً ان استهدافها هو جزء من «الجهاد». المسألة تحتاج الى تفكير، لذا كان من الافضل اللجوء الى معارف وأصدقاء من أهل الثقة. حتى لو كان الامر على حساب الموضوعية أحيانا لدى المرافق او منسوب الجرأة التي يتمتع بها. تلك أمور يمكن معالجتها ببعض الحكمة والمهنية. المطلوب لم يكن شن هجوم على أي طرف لأغراض سياسية وانما نقل صورة الواقع كما هي وبقدر ما تسمح المعطيات، لا أكثر ولا اقل. من هنا كانت مخالفة المرافق وإحراجه احياناً مطلوبة في بعض الاوقات. الاختيار كان صائبا، لا سيما بعد وقوع الصحافيين الاميركيين تايلور لاك وهولي شميلا في قبضة الأمن السوري بالتزامن مع جولاتي الميدانية. وذلك بعد اختفائهما عندما كانا ينويان الانتقال الى سورية ومن ثم العودة الى الاردن. ليتبين بعد ذلك ان الحدود الفالتة من الجهة اللبنانية قد تغري بالدخول الى المحظور، ليكتشف المغامر ان الجهة الممسوكة من الجانب السوري بحراسة متشددة تتولاها فرق الهجانة والمخابرات، لا تسمح للنملة ان تمر الا بالتواطؤ. هذا عن الرفيق. ماذا عن الطريق؟

تلك حكاية أخرى فالوصول الى منطقة الهرمل، حيث يكون المرافق بالانتظار، مثلا، يتطلب قيادة السيارة لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة. لكن وعورة الطريق قد تحمل مفاجآت غير سارة. الوقوع في حفرة احتمال وارد، ومعه سكوت محرك السيارة في أرض مقطوعة. ليصبح انتظار الميكانيكي من أقرب قرية مغامرة بحد ذاتها. ويبدأ اليأس لدى عجز الميكانيكي المحلي عن تحديد العطل وإصلاحه. حينها لا بد من الاجتهاد والاتصال بميكانيكي أكثر خبرة في بيروت. وبالتالي يتحول الصحافي الميداني الى اختصاصي في كهرباء السيارات ويقوم بعمله بناء على تعليمات تأتيه عبر موجات الاثير ويكتسب مهارات جديدة ليعيد محرك السيارة الى الحياة.

قد يرى البعض ان عمل الصحافي في بلده لا يتطلب كل هذا العناء، لا سيما اذا كانت مساحة هذا البلد لا تتجاوز رأس دبوس على الكرة الأرضية. لكن رأس الدبوس هذا لم يعرف استكانة منذ أكثر من ثلاثين عاما، كما ان غالبية أهله أرغموا على الانعزال في مناطقهم بسبب جولات التوتر والقتال المتنقلة في الزمان والمكان. كما ان الدويلات المناطقية التي تشكل فسيفساء هذا البلد شكلت عاملاً إضافياً لالتزام كل مواطن بجماعته ومنطقته. وغالبية الصحافيين كانوا يكتفون بملاحقة الاماكن التي تشهد أحداثا تستوجب التغطية. من هنا كانت العملية أشبه برحلة باتجاه أكثر من مجهول. أهم ما فيها الاطلاع المسبق على الخرائط، ومن ثم سؤال خبراء عن امكانية الوصول الى الاماكن المفيدة للتحقيق. وفي هذا المجال كانت مساعدة الأستاذ الجامعي الدكتور فؤاد خليفة مثمرة.

الهوية المهنية قد تتحول عائقا لإنجاز الموضوع. تارة يجب ان يكون الصحافي مفتشاً من وزارة التربية. وطورا يصبح رفيق المرافق، فيكتفي بالاستماع ليتولى المرافق إدارة دفة الحديث مع المهرب وكأنهما يعقدان صفقة. والأهم التدرب على اقتناص الصور. أثناء القيادة او في غفلة عن الجميع. وإذا انتبه أحدهم الى الكاميرا المسلطة يقول: «رجاء لا تلتقطوا الصور. انتم تذهبون ونحن ندفع الثمن. يقطعون الطريق ويقطعون رزقنا». المطالبة بتوخي الحذر جملة تكررت تقريبا في كل نقطة من النقاط التي وصلنا اليها. كل ما يلفت الانتباه يتم التبليغ عنه. وقد يصعب انجاز الموضوع اذا انبرى من لا يعجبه الامر وفتح تحقيقا على حسابه. حينها قد يقول المرافق: «تذكري انك ستعودين الى بيروت. اما انا فسأبقى هنا. ولا أحتاج الى المزيد من المتاعب».

القمع الذاتي وسيلة لدى أهالي المناطق المتداخلة حدودها، وذلك لتجنب القمع الخارجي. هذا الواقع يترجم صعوبة في الحصول على المعلومات.

ما يلفت النظر في حكايات الحدود ان الموضوع لا ينتهي بعد كتابته. كأنه يبدأ من مكان آخر بعد النشر. عدا كونه يمنح صاحبه امتيازاً بتحقيق قفزة مهنية نوعية الا انه يفتح أبواب الجحيم أحياناً، ومن مصادر متعددة. ليكتشف ان الجميع غاضبون منه. المعارضة والاكثرية على حد سواء. ويخضع للمساءلة والشكوك من أكثر من جهة. قد يتهم بأن الوقائع ليست أكثر من وجهة نظر، وبأن صور الشاحنات العسكرية السورية لا تقع ضمن الأراضي اللبنانية، مع الاشارة الى ان اعتبارها في الجهة السورية يفرض اجتياز الحدود. وهذا الامر لم يحصل. كما قد يُفتح نقاش عن ضرورة التضامن العربي وعدم كشف العورات. وقد يرشق كاتب الحكايات بتهمة العمالة... والخ الخ الخ. لكن يبقى أن الامر يستحق العناء والمغامرة بالتوغل في الميدان أكثر فأكثر.