تغطية المجزرة

مراسلة «الشرق الأوسط» تروي تفاصيل العمل خلال أسبوع مومباي الدامي

مجموعة من الصحافيين الهنود خلال تغطيتهم لأحداث العملية الإرهابية التي ضربت مدينة مومباي ويبدو فندق تاج محل وقد اشتعلت به النيران (أ.ب)
TT

مومباي ـ كانت الساعة حوالي 9.50 مساءً من يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، وبينما كنت أتناول طعام العشاء، وأتنقل عبر محطات التلفزيون الواحدة تلو الأخرى، فإذا بي أفاجأ بأهم الأنباء تعلن قائلة: «إرهابيون يفتحون النار على الأشخاص في محطة قطار مومباي». وكانت ردة فعلي الأولى: يا إلهي ليس ثانية. فحتى في أسوأ أحلامي لم يكن بإمكاني أن أتخيل أن مومباي ستتحول إلى ميدان حربي لمدة 60 ساعة. وفي غضون دقائق، بدأت جميع المحطات التلفزيونية في بث أهم الأنباء والتي حملت لنا أخبار تتعلق بحدوث سلسلة من الهجمات الإرهابية في مومباي. في تلك الأثناء، جلست لصيقة أم شاشة التلفزيون وفي يدي جهاز التحكم عن بعد (الريموت كونترول)، متنقلة من محطة إخبارية إلى أخرى. وبعد مضي ساعة، بدأ البث المباشر في نقل مدى الهلع الذي أنزله الإرهابيون على مومباي، العاصمة التجارية والمالية للهند، أو كما يطلقون عليها مدينة الأحلام. ومنذ شهرين ماضيين فقط، زرت المدينة في مهمة صحافية. وتجلت أولى صور الفوضى العارمة التي أحدثها الإرهابيون في محطة قطار شاتراباتي شيفاجي في الدماء، والأشلاء، والجرحى من الأطفال والكبار البالغين؛ إلا أن هذه لم تكن إلا البداية فقط. وبعد فترة وجيزة، بدأت الصور المرعبة للجثث، والإرهابيين الذين يطلقون النار على المارة في الشارع بعد الهجوم على سيارة شرطة وقتل 3 من كبار ضباط الشرطة، وهجماتهم على المستشفى، والاحتماء بفندقين من أكبر الفنادق الفخمة بالمدينة، في الظهور على الشاشة، للدرجة التي جعلت الشرطة نفسها لا تعلم كم عدد الهجمات التي تمت، وأين حدثت؟

جلست أتابع التلفزيون طيلة الليل. وفي اليوم التالي، طلبت مني إحدى الصحف، التي أعمل لديها كمراسلة حرة، في نقل الأحداث والتقارير الإخبارية من مومباي. في البداية ترددت، وذلك نظراً إلى أن لدي طفل في الحادية عشر من عمره، لكنني في النهاية قررت الذهاب على هناك، رغم مواجهتي لمعارضة شديدة من أسرتي. وبالنسبة لشخص مثلي، شاهدت بالفعل تفجيرات بالقنابل، وهجمات إرهابية، وتغطية مباشرة لعمليات إطلاق نيران حية، وذلك منذ بدء عملي الصحافي من جامو بكشمير، وقد تكون هذه ليست أكثر من مهمة إضافية بالنسبة لي، لكن ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بالرعب قليلاً من الذهاب على هناك، نظراً إلى كثافة الهجمات التي أطلق لها الإرهابيون العنان في مومباي. وفي صباح 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، حطت قدماي على مومباي. وكانت هذه مومباي التي اعتدت على رؤيتها، فقد ارتدت المدينة التي لا تغمض لها عين عباءة الخوف، والذعر، وغلب على منطقة كولابا سون الجنوبية منها الفوضى المرورية، حيث الكل في ذهاب وإياب. وبعد أن تركت فريق العمل الخاص بي في النزل مدفوع الأجر ـ والذي عادة ما أستأجره عندما أكون في مومباي ـ وقبل حتى أن أقوم بتحديث المعلومات التي لدي بشأن ما يجري عبر التلفزيون، وصلت إلى مسرح الأحداث. وكانت أولى المحطات التي وصلت إليها هي فندق تاج، وكان بصحبتي أحد أصدقائي من الصحافيين المحليين. ولدى وصولي، كان هناك حشد من أطقم العمل بالمحطات التلفزيونية، والمصورين الصحافيين المتخذين لأنفسهم الأماكن الأمامية في مواجهة الأحداث. وكان الكثير منهم جاثين على الأرض، وأيديهم تحمل الميكروفونات، وتبث الأحداث مباشرة إلى الاستوديوهات. وكانت أولى صور الفندق خاصة فندق تاج محل العتيق، مروعة للغاية، فقد كانت النيران متأججة في العديد من الأجزاء، فيما تتصاعد أعمدة الدخان، وأحياناً ما كنا نسمع طلقات نيران الأسلحة مدوية بالمكان. ولم يكن هذا تاج محل الذي اعتدت رؤيته، وعلى الفور تراءى إلى مخيلتي ذكريات الزيارة الأولى التي قمت بها إلى بومباي (وكان هذا اسمها آنذاك) خلال فترة الطفولة، فبعد نزولي من رحلة بالقارب، قمت على الفور باتخاذ موضعاً لالتقاط بعض الصور أمام الفندق ليكون بمثابة خلفية لها. ولدى وصولي إلى المدرسة ببضعة أيام، أظهرت الصور إلى زملائي وأصدقائي لمشاهدتها. وعند وقوفي إلى جانب البحر العربي، محملقة إلى مبنى الفندق المتصاعدة منه ألسنة اللهب والدخان، تساءلت: لم هاجم الإرهابيون فندق تاج؟ ربما أكون قد أدركت الإجابة بعد أن حدثت نفسي قائلة إن الهند قد أعادت تعريف نفسها على أنها الدولة التي يمكنها صنع ثروة، وتوفير الفرص لمن يريدون أن يعملوا بجد، وتجلت مومباي على أنها رمزاً للفرصة ـ وكان هذا الرمز ما أراده فعلياً الإرهابيون مهاجمته. وصراحة، رغم أنني لم أقيم مطلقًا في فندق تاج ـ فهو باهظ الثمن بالنسبة لأفراد الطبقة المتوسطة من أمثالي ـ إلا أنني قمت ببعض الزيارات لمقهاه، ومطعمه. وشوهد بعض الصحافيين من مجموعة تايمز الإعلامية يتهامسون بان سابينا سيهغال سايكيا ـ مستشارة التحرير في تايمز أوف إنديا غروب، والكاتبة وناقدة الأطعمة المعروفة ـ حبيسة بالفندق، وغير معلوم مكانها. وبالنسبة للكثيرين، أنهى اليوم الأخير لحصار فندق تاج الشكوك التي سادت الوسط الإعلامي حول مقتلها، حيث تبين أنها كانت حبيسة الطابق السادس بفندق تاج الذي كان أكثر الفندقين تضرراً من الهجوم الإرهابي المميت. وقد ذهبت سابينا إلى الفندق يوم الأربعاء لحضور حفل زفاف، في الوقت الذي اقتحم فيه الإرهابيون الفندق، وفتحوا وابلاً من النيران على النزلاء، واحتجزوا العديد من الرهائن. ويروي نيرمال مينون ـ المراسل الصحافي لدى مومباي ميرور ـ تجربته المباشرة التي رأى فيها الإرهابيين يجوبون شوارع مومباي، ويطلقون النيران على المارة عشوائياً، حيث يقول: «كنت بجانب مستشفى كاما، عندما انصرف انتباهي فجأة إلى شابين على مسافة 40 قدماً، كان أحدهما قصير، مكتنز البنية، ويمضي قدماً، بينما كان الآخر يقف في الظلام، على بعد قدمين ورائي. واتجه أحد الشرطيين تجاه الشابين وتبادلا القليل من الكلمات. وقبل أن أعي تلك الكلمات، سحب الشاب المكتنز البنية مسدساً وبدأ في إطلاق النيران من حوله. وسقط الشرطي فوراً على الأرض. وشعرت بالهلع، واتخذت ساتراً خلف شجرة قريبة. وبعد فترة من إطلاق النيران، تحركت ببطء إلى مفترق الطريق، عند شارع مترو، حث كان يتجمع حوالي 100 شخص من بينهم شرطيون، وسكان محليون، وأفراد إعلام. وبعد بضعة دقائق، ظهرت سيارة شرطة جيب استولى عليها الإرهابيون، ومرت وهم يمطرون المارة بوابل نيران أسلحتهم. ولاحظت أن أحد أفراد الشرطة قد أصيب إصابة بليغة، بينما أُصيب مصور من إحدى المحطات التلفزيونية. وقام المحليون برفع المصاب. وبعد برهة من الزمن، حضرت سيارة إسعاف، وحملت الشرطي المصاب. أما المصور الصحافي، فقد نقلته سيارة القناة الإعلامية. وعلمت بعد ذلك أن الشرطي توفي متأثراً بجراحه. كنت متوتراً للغاية، وكانت فرائسي ترتعد، فلم أر في حياتي شيئاً مثل هذا. فقد كان الأمر أشبه بفيلم سينمائي». وبعد أن غادرت تاج، ذهبت إلى فندق ترايدنت، حيث كان المشهد هناك مشابها. وذهبت لأتحدث إلى بعض الرهائن الذين أنقذتهم قوات الكوماندوز البحرية الهندية.

كان الجميع يسردون قصصا مريعة عن المحنة التي تعرضوا لها في الداخل.

لقد شاهدت مواجهات وهجمات، ولكني لم أر مثل ذلك من قبل. إن هذه الهجمات من أكبر الهجمات الإرهابية بعد أحداث 11/9؛ ويبدو أنه لا توجد نهاية لتلك الهجمات. كانت هذه مختلفة تماما. ولم أكن خائفة، لا ولكن هناك خط رفيع يفصل بين الخوف ومعرفة الحقائق.

في صباح اليوم التالي، عدت إلى تاج محل، وكانت ألسنة اللهب تندفع من الدور العلوي في المبنى القديم. وكان هناك صوت طلقات نارية والمزيد من مركبات فرق الإطفاء والإسعاف وبالطبع عدد هائل من الصحافيين.

كان رجل الإطفاء يصارع من أجل التحكم في النيران المندلعة في غرفة في الركن الأيسر البعيد في المبنى القديم. وتم إحضار العديد من المحاصرين إلى الأسفل لتأمينهم، كانوا مدثرين بمناشف بيضاء وفرش أسرة لحمايتهم من الدخان.

وظلت الشرطة تبقي رجال الإعلام على مسافة لتأمينهم.

وكنت أشعر بالجوع والعطش وأردت أن استمر في عملي لإرسال الموضوعات إلى الجريدة. وفجأة، سمعنا دوي طلقات الرصاص فهرعنا بعيدا بحثا عن ملاذ من النيران. وتابعها رد بإطلاق نيران. وتم وضع رجال الإعلام في كردون أمني. وتم نشر قنّاصين في مواقع استراتيجية على بوابة الهند. وأعلن حظر التجول في المنطقة. لا أحد يستطيع التحرك. ولا أحد يريد التحرك. أبعدت القوات الهندية حوالي 20 شخصا عن الفندق. وقال أحدهم وهو ياباني: «ليست لدي فكرة عن مكان زوجتي، ولا أعرف ماذا أفعل. لا احد يريد أن يخبرنا ما الذي يحدث». وبعدها سمعنا دوي انفجار آخر. وخيم صمت مخيف على المكان. ثم اقتحم المزيد من القوات المبنى.

بعدها ذهبت إلى منزل ناريمان، وهو على بعد عدة شوارع من الموقع. كان الإرهابيون ما زالوا يحتجزون خمس رهائن، بينما تم إنقاذ سبع منهم. وأوضح مسؤول في الجيش أنه من الصعب اقتحام تاج محل أو أوبيروي أو منزل ناريمان لعدم تعريض الأبرياء المحتجزين للخطر. لذا يمكنهم فقط أن يأخذوا خطوات بسيطة جدا لاتخاذ مواقع متقدمة في المواقع التي حصنها الإرهابيون.

وزرت أيضا ترايدنت أوبيروي، وقد مرت 36 ساعة. ومازالت النيران مندلعة. ولا أحد يملك أرقاما مؤكدة عن أعداد الناجين والقتلى.

كان الإرهابيون يلقون بالقنابل اليدوية على القوات الهندية، الذين توغلوا إلى الداخل، ولم يعرف أحد ما الذي يحدث. وفجأة، حصل صحافي زميل على أخبار بمقتل جندي في قوات الأمن القومي الهندية في اشتباك بفندق تاج محل.

وشعرت بالإرهاق من الجري بلا نهاية من موقع إلى آخر لجمع الأخبار. وكانت والدتي تتصل بي بانتظام للاطمئنان على سلامتي.

في الوقت نفسه، يقول بوركايسثا روهان سينغ، مراسل قناة ديدي نيوز الإخبارية: «هذا هو أول تكليف حقيقي أقوم به. لم أشهد من قبل مثل ذلك الموقف المليء بالذعر. لقد انتقلت إلى مومباي يوم الخميس في العاشرة صباحا، منذ الظهر أرسل التقارير الإخبارية بلا انقطاع. ولا أذكر آخر مرة غفوت فيها. ولكن هذا لا يهم. كما إنني لم أكن خائفا حتى عندما أطلق الإرهابيون الرصاص مباشرة على رجال الإعلام، ولكني ارتجفت للحظة عندما أصيبت تلك الفتاة الواقفة إلى جواري بعيار ناري. ولا أعرف أين هي الآن. لقد كان اختياري أن أقوم بهذا التكليف».

في اليوم التالي، قابلت بعضا من الأسر، في مستشفى جيه جيه، التي فقدت العديد من أفرادها في الهجمات الإرهابية الوحشية. لقد فقد محمد إسماعيل ستة من أفراد أسرته، منهم شقيقه وأولاد وبنات أشقائه.

ولم يعرف طفل في السادسة من عمره كان في المستشفى أنه فقد والديه، حيث لم يتملك أحد الشجاعة لإخباره. وكان هناك العديد من الجرحى، والكثير من الروايات عن الخراب الذي ألحقه الإرهابيون بالمدينة.

ولكن وسط كل ذلك، كان هناك تطور واحد إيجابي، حيث أنقذت المربية الهندية ابن الحاخام الإسرائيلي الذي يبلغ عمره عامين بينما احتجز الإرهابيون والديه وقتلاهما لاحقا.

وعلى الفور، بدأت أخبار المواجهات التي تقع في ترايدنت ومنزل ناريمان في الوصول مساء 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، ولكن كانت النيران مازالت مشتعلة في تاج محل. ولكن وصلت الأخبار الجيدة في صباح يوم 29 نوفمبر، على الرغم من أنني شاهدتها في التلفاز، بمقتل الإرهابيين الموجودين داخل فندق تاج محل. وكان ذلك وقت العمل، فهرعت إلى الموقع.

كانت قوات الكوماندوز الهندية تخرج مبتسمة من الفندق رافعة أصابع الإبهام في علامة على انتهاء المواجهات بنجاح. وهرع طاقم القنوات التليفزيونية لتصوير مشاهد حية مما يحدث. وكان السؤال المطروح: ما هو الموقف في الداخل؟

وسألت أحد القادة ما هو الموقف، فقال: «المهمة تمت بنجاح، ولكن كانت هناك مشاهد مريعة في الداخل. كان العديد من الإرهابيين القتلى مدربين جيدا على الأساليب العسكرية ولديهم حافز قوي.

وبعد عدة ساعات، استطاعت وسائل الإعلام أن تلقي نظرة على الداخل من خارج الفندق. كان التدمير تنفطر له القلوب، وكان الفندق مغطى بالدخان. ومازالت النيران مشتعلة في أماكن عديدة في المبنى. وكان الطريق مغطى بزجاج النوافذ المكسور. وكانت الستائر والملاءات تتدلى من نوافذ الغرف، ربما كان الأشخاص الموجودون يستخدمونها من أجل الهرب. وكانت قاعة الانتظار في الفندق مغمورة بالدماء، وتم نقل الجثث المغطاة وحملها في سيارات الإسعاف.

وصرح أحد العاملين، كان الزجاج والأثاث المتفحم يغطيان أرضية الفندق، بينما أصابت رائحة مادة كيماوية حادة عينه بمجرد دخوله المكان. بينما توجد جثث رواد الفندق والعاملين مبعثرة في الأروقة. وأضاف: «أشعر الآن باضطراب لأنني رأيت الكثير من الجثث».

كان هذا أمر غير معقول ومثير للاشمئزاز، وقررت أنني يجب أن أخرج من المكان. واستندت إلى كتف أحد الصحافيين الواقفين بالقرب مني، وفقدت الوعي. وبعد إفاقتي تم نقلي من تاج محل، لأقف وحدي بالقرب من البحر. وأخذت أتأمل، لماذا حدث ذلك؟