ضرب الصحافيين أصبح جزءاً من المعركة السياسية في لبنان

لأن الديمقراطية والمنطق لا يستطيعان مواجهة العسكرة

عمر حرقوص في المستشفى («الشرق الاوسط»)
TT

وصلت الرسالة. «فلّ» (غادر الى غير رجعة) عمر حرقوص من شارع الحمرا، غرب بيروت، كما كانت إرادة حوالي عشرين عنصراً من الحزب السوري القومي الاجتماعي. اقنعوه بالرحيل عن «مربعهم الامني». اقنعوه من دون حوار. اكتفوا بتوجيه لكماتهم المركزة الى عنقه وعينيه وصدره. والسبب ان عمر يقول ما لا يعجبهم ويعمل في مؤسسة إعلامية لا تعجبهم. كانوا قد اقتحموا بعض مبانيها خلال أحداث السابع من مايو (ايار) الماضي، واحرقوا محتوياتها، تماما كما يحصل في غزوات الحروب. عمر تعرض عام 1984 للضرب. لم يكن قد تجاوز آنذاك الخامسة عشرة. ضربه جنود من الجيش الاسرائيلي الذين كانوا يحتلون أرضه الجنوبية. وفي 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي (اي قبل أسبوع) ضرب من جديد وبعنف أكبر عندما كان يقوم بعمله كإعلامي في صحيفة وتلفزيون «المستقبل». وقع الحادث في وضح النهار عندما طلبت اليه دائرة الاخبار ان يغطي تجمعاً للحزب السوري القومي الاجتماعي اعتراضا على نزع الشعارات الحزبية من شارع الحمراء. قال انه لن يعود الى شارع الحمراء عندما يشفى. أضاف: «هزموني. فأنا ومنذ سنوات ضد استخدام السلاح وضد الحرب. إلا انهم هزموا الاستثمار الذي وضعته في حياتي. لم يكن أتوقع ان أتعرض للضرب. انا معروف بابتعادي عن المشاكل. أغيّر طريقي لأتجنبها. لا أحتمل رؤية أحدهم وهو يتلقى الضرب والعنف. لم أظن أنهم سيهاجمونني لأني لم أقم بفعل يسمح لهم بذلك ويؤدي الى رد فعل».

تقول بيانات الحزب السوري القومي الاجتماعي ان ما حصل سببه تلاسن بين حرقوص وبين صحافي في صحيفة «البناء» التابعة للحزب. وبالتالي ليس أكثر من حادث فردي. الكاتب والمحامي اسامة العارف يعتبر أن مثل هذا السلوك هو سبب تعرض صحافي او أي مواطن آخر الى العنف. يضيف: «القصة الاساسية هي أن الرأي العام اللبناني يتصرف استناداً الى أقوال تصدر عن أطراف النزاع، في حين يجب محاكمة هؤلاء على افعالهم وليس على اقوالهم. فالجهة التي اعتدت على عمر حرقوص اصدرت بيانات استنكار. واقع الحال ان قوى المعارضة ارست تقليدا جديدا في لبنان. وبعدما كان سائدا ان الاختلاف السياسي لا يؤثر على السلوك الشخصي، نجد ان حزب الله ارسى سياسة الحقد وسار حلفاؤه على دربه. ونتيجة هذا الوضع، فإن من لا يوافق على رأيهم يتعرض الى الضرر». ليس الضرب وحده وسيلة لقمع الصحافي ودفعه الى الخوف. هناك وسائل أخرى تستخدم ضد صحافيين ومفكرين وكتاب لبنانيين. منها موقع «فيلكا» المجهول النسب الذي يدعي انه موقع اسرائيلي ولا يهاجم إلا معارضي النظام السوري. وهناك فيض من الإشاعات التي تبث بكثافة عندما يأتي دور اعلامي تجرأ وسمى الامور بأسمائها. تكون أشبه بإنذار مبكر. من يجد الالتزام به ينقذ نفسه. ومن يعتد بجرأته تطو صفحته. سمير قصير كان واحدا من هؤلاء لذا تم اغتياله. كذلك جبران تويني. الصحافية الميدانية تانيا مهنا تعتبر ان «العنف الذي يهدد الاعلامي يشعره انه يعمل بين جدران مغلقة. يفرض عليه لونا معينا من التموضع، فلا يعود باستطاعته ان ينقل الواقع او يؤدي رسالة من خلال عمله». اما السبب كما يقول حرقوص فهو «خط التطرف الذي ينجح في البلد. فتُقدِم جماعة مسلحة على ضرب أحدهم من دون أي خوف من العقاب. التطرف السياسي فرض علينا. لكن يبدو ان الامر يتطور باتجاه التطرف المليشيوي ليفرض علينا مبدأ الضرب والعنف. هذا العنف كان محصورا بـشباب الشوارع. وهو تأكيد للسياق الذي بدأ في السابع من مايو الماضي عندما نزلت بعض أحزاب المعارضة بسلاحها الى الشارع، لذا بدأنا كإعلاميين وكمواطنين نلاحظ ان عقلية جديدة تسود الشوارع. فقد بدأ الجمهور يتماهى مع خطاب القائد. عندما هاجمني عناصر الحزب السوري كانوا يتماهون مع من يوجههم. لم يقدّروا ان الضرب يمكن ان يؤدي الى الموت. وعندما جاءت كاميرا لتكشف ما يفعلون هاجموا حاملها. الجمهور أصبح أداة تستطيع ان تقتل. والذين ضربوني كانوا يريدون ان يثبتوا لقائدهم انهم يليقون به ويستحقون التنويه منه لأنهم ينفذون رغباته». اسامة العارف يعود الى المحاسبة. يقول: «عدم المحاسبة تدفع الى التمادي وتمرير الأخطاء. لتحل الامور بتبويس لحى وتسويات تؤثر على الحريات. لو حصلت محاسبة قاسية لما كان حرقوص تعرض الى الضرب». أصعب من الحادث يبقى تبريره. يصبح الضحية مسؤولا عن العنف الذي لحق به. يقول حرقوص: «حاولوا إلصاق اخبار كاذبة بي. قالوا اني كنت أصورهم. لكني لا أحمل كاميرا ولا أعمل في التصوير. لا أظن ان مثل هذا الامر التبس عليهم. انا أكتب ولا أصور. بالتالي لم استفزهم بآلة تصوير او حتى باستخدام هاتفي الجوال للتصوير. صادروا هاتفي ليعرفوا محتوياته. هم يدركون اني لم أصورهم. اتهموني بأني يهودي، ومشارك في مقتل رفاق لهم بشمال لبنان. لكن الايام بيني وبينهم. فالقضاء يجب ان يدينهم». لو أن الثقة متوافرة بقدرة القضاء اللبناني على انصاف حرقوص كمواطن وإعلامي، ربما استطاع التغلب على عامل الخوف. لكن هنا يبرز دور الاعلام، ليتحول الى قوة ضاغطة ترغم القضاء على مقاضاة الجناة. يقول: «اذا مارسوا ضغوطا سياسية على القضاء للفلفة القضية وكأنها حادث فردي، فالاعلام قادر على الضغط باتجاه مقاضاتهم. لا يمكن ان أرضى بأن يحمل هذه القضية عنصر واحد، تماما كما حصل عندما استهدفت طوافة للجيش، ليسلم عنصر واحد نفسه على أساس انه المسؤول الوحيد. يحاولون طي الملف عبر وضع شاب صغير في السجن. لكن هناك اربعة عشر آخرين هاجموني وضربوني. وايضا هناك مسؤول عن المجموعة. أين هم وأين هو؟ اختفت المجموعة. لم يعثر رجال الأمن على أي من المهاجمين باستثناء من سُلّم اليهم. الباقون غادروا الى جهة مجهولة. اختفوا». وتضع تانيا مهنا تداعيات العنف ضد الاعلاميين على طاولة التشريح، لتقول: «كيف يمكن لصحافي ان يعمل من دون خوف عندما يعترضه مراهق ويسأله عن أوراقه، ويمنعه من التصوير؟ عدنا الى منطق أمير الشارع. وعدنا نفتقد حماية الدولة. هذه كارثة. فنحن نعمل لننقل ما يحصل. لكن في مناطق معينة يفرض علينا ان ننقل ما يريده الطرف السياسي او العسكري المهيمن على هذه المنطقة. عندما بدأت هذه الأحداث كنا نظنها عابرة. لكن الامر ليس كذلك». مهنا تعتبر ان «الصحافي لم يعد صاحب مهنة قائمة بحد ذاتها وانما هو جزء من المعركة، وذلك لأن بعض الاشخاص الذين حملوا البندقية في الحروب الاهلية تحولوا الى الصحافة. هذه مشكلتنا». العارف يرى ان «المشكلة هي في من يعتبر ان حرية الفرد جزء من كل. وان مجرد فرض المقاومة وسلاحها على الكل من دون امكانات للمقاومة يؤدي الى الاعتداء او التخوين سعيا الى ارهاب من لا يوافق على هذه المعادلة». في ظل هذه المعادلة، كيف يمكن لصحافي ان يعمل وهو مهزوم؟

يقول حرقوص: «هزموني كمواطن في السابع من مايو الماضي، عندما منعوني من أن أذهب الى حيث أريد واتنزه وأجلس في مقاهي الحمراء مع رفاقي. الشارع بالنسبة اليّ أصبح مربعا أمنيا، كما في حارة حريك (حيث المربع الامني لحزب الله) او في عين الحلوة. مربع أمني ممنوع على المواطنين ان يدخلوه. قبل ليلة الحادث، كنت في أحد مقاهي الشارع. شاهدتهم وشاهدهم غيري وهم يتربصون بطلاب الجامعة الاميركية الذين ينتمون الى قوى «14 آذار». ضربوهم وحطموا سياراتهم. وبعد أيام سيضربون غيرهم». الضرب اعطى مفعوله. يقول عمر: «سأضع نصب عينيّ ان هناك مربعات أمنية جديدة محظورة عليّ. وخوفي ان تزيد هذه المربعات. فالظاهر أن اي واحد ليس مع الفريق الذي يحكم الشارع، حتى إن كان ضد الفريق الخصم، فهو سيصنف عدوهم. ومن سيسجن لأنه ضربني سيطلق سراحه ليعود ويقف في الشارع ويضرب غيري. الذين يحملون السلاح هم الاقوى. ومن يدعمهم يفاوض إسرائيل ويتموّل ويموّلهم بالسلاح من إيران. كلنا نعلم انهم يريدون إحكام قبضتهم على البلاد. لذا الاعلام سيكون في المواجهة. لا يسمحون لأحد بأن يقول لهم: لا. يتهمون الآخرين بأنهم عصابات. لكن من يضرب هو الذي ينتمي الى العصابة». ماذا عن الغد؟

تقول مهنا: «لسوء الخط معركة السلطة وعوضا ان تبقى في العراك السياسي تحولت الى جبهات تستهدف أجساد الذين يرفضون التعسكر. اتمنى ألا اتعرض الى خوف مشابه يدفعني الى ترك مهنتي. فكل ما عملت لأجله هو لأتفادى الوصول الى هذا المأزق. نحن جيل هدفه اقناع الجمهور ان القتال والعنف لا يؤديان الى حل. قد يتطلب هذا الوضع بعض الحرص، كأن لا اتوجه الى أي مكان من دون تأمين مرافق من الداخل للحد من الاحتمالات الصعبة. اللافت في حادث حرقوص انه حصل في قلب بيروت وفي شارع مفتوح وليس في مكان معزول. هذا الامر يدفعني الى التفكير في الوسيلة التي تؤدي الى تفادي مثل هذه المواقف. بماذا اخطأنا كإعلاميين حتى يتم التعرض لنا بهذا الاسلوب الوحشي؟ يبدو ان هناك رسالة لا تصل، لكن ذلك لن يغير اقتناعي كإعلامية. يجب ان نجد حلا لهذه المسألة. وإلا ما يحصل سيقودنا من جديد الى حرب أهلية». ماذا عن غد حرقوص؟ يجيب: «لا استطيع ان أفكر في العمل حالياً. يجب ان أشفى من الألم لأتمكن من التفكير في مهنتي».