لبنان: الاصطفاف الإعلامي يفقد الخريطة الإعلانية موضوعيتها

الخلافات السياسية تتحول إلى انقسامات إعلانية

تنقسم شركات الإعلان في لبنان بين فريقي النزاع اللبناني السياسي
TT

يكتنف كواليس السوق الاعلاني في لبنان الغموض من كل الجوانب. ففي حين بات شائعا مدى احتكار بعض الشركات الكبرى لهذا السوق بناء على احصاءات يعتبرها البعض مضللّة، يعزو البعض الآخر سبب الخلل الحاصل الى الانقسام الاعلامي السياسي الذي انسحب على توزيع الخريطة الاعلانية بشكل غير عادل في المؤسسات الاعلامية. ولأن الاعلانات هي «مصدر رزق» المحطات في المبدأ، جنّدت كل محطة شركة اعلانات خاصة بها تقع على عاتقها مهمة ادارة هذا القطاع وتجهّز له «احصاءات خاصة» تعتمد عليها في استقطاب المعلنين وترجح كفة المحطة التي تديرها على حساب محطة أخرى. وبنظرة شاملة الى صورة الاعلام المرئي في لبنان يظهر تفوّق محطات على أخرى في استقطاب الاعلانات التي تديرها الشركات التي تنقسم بدورها بين فريقي النزاع اللبناني السياسي. اذ من السهولة أن يكتشف المشاهد أن هناك عددا كبيرا من الاعلانات لا يمكن له أن يراها إلا على شاشة معينة دون سواها، وهي في الواقع التجاري لها صلة بطريقة أو بأخرى بالفريق السياسي الذي تدعمه هذه المؤسسة الاعلامية أو تلك. وبالتالي، فإن توزيع الخريطة الاعلانية على محطات التلفزة اللبنانية لا يبدو عادلا مقارنة مع نتائج الاحصاءات التي يعتمد عليها ويعتبرها البعض بأنها خرجت من السياق المهني والموضوعي لها ودخلت في السياق السياسي والتجاري.

وفي حين أظهر الاحصاء الذي قامت به الشركة الدولية للمعلومات على عينة من 985 مواطنا لبنانيا من كل المناطق اللبنانية في سبتمر (أيلول) من عام 2007، أن المحطة اللبنانية للارسال تحصل على 34 في المائة من نسبة الجمهور اللبناني و18 في المائة لمحطة المستقبل و13 في المائة للمنار و7.5 في المائة لقناة OTV واجتمعت المحطات اللبنانية الأخرى على ما يقارب 10.9 في المائة. كشفت الدراسة التي نشرتها مجلة ARAB AD في شهر فبراير (شباط) من عام 2007 أن الكعكة الاعلانية التي وصلت الى 43 مليون دولار أميركي في المحطات اللبنانية، من أصل حوالي 108 ملايين دولار تصرف في كل الوسائل الاعلامية في السوق الاعلاني اللبناني، توزّع بنسبة 76.6 في المائة للمحطة اللبنانية للارسال (LBCI) و11 في المائة لمحطة المستقبل و5.4 لتلفزيون الجديد و3.4 للمنار و1 لمحطة الـ NBN و2 في المائة لتلفزيون لبنان و0.7 لمحطة OTV.

في هذا الاطار، يصف الخبير الاعلامي والاعلاني بول بولس واقع الخريطة الاعلانية في الاعلام اللبناني بـ «بيع الهوى» الاعلاني الذي تمارسه حوالي 4 أو 5 شركات اعلانات كبرى وفقا لميولها السياسية وتوجهاتها. ويوضّح: «شركة الاعلانات هي التي توجّه الطريق التي ستسلكها أموال المعلن وهي بذلك تضع الخريطة التي تناسب المؤسسة الاعلامية التي ستقدّم لها الدعم المادي والسياسي من خلال الاعلانات». ويشكّك بولس في النتائج التي تصدرها بعض شركات الاحصاء في لبنان في ما يتعلّق بالمحطات التي تستقطب أكبر نسبة مشاهدة، ويعتبرها تتّبع أسلوب الانقسام السياسي عينه. وفي الاطار نفسه، يعتبر محمد شمس الدين من الشركة الدولية للمعلومات أن الاحصاءات التي تعتمدها شركات الاعلانات الخاصة بكل محطة تفتقد الموضوعية والمصداقية. ويقول «المشكلة تكمن في افتقاد السوق اللبناني مصدرا موثوقا وموحّدا يمكن اللجوء اليه في توزيع الاعلانات على المحطات اللبنانية، اذ يعمد كل وكيل اعلاني تابع لمحطة تلفزيونية وينتمي بالتالي الى جهة سياسية معينة، الى الترويج لاستطلاع وهمي لا يمت الى المهنية بصلة، يظهر ارتفاع اسهم المحطة التي تروّج الى فريقه السياسي بهدف استقطاب أكبر نسبة من الاعلانات».

ويقول بولس «الانقسام السياسي الذي نشهده بين فريقي 8 و14 آذار يترجم في الوقت عينه بنفس اعلاني متطرّف. كذلك فان تأثيرات هذا الواقع ستتضاعف في الأشهر القليلة المقبلة، أي قبل الانتخابات النيابية، الأمر الذي يخرج التوزيع الاعلاني عن السياق السليم الذي يجب ان يتمتّع به، اذ لم يعد هدف هذه الشركات تجاريا أو مهنيا بل اصبح سياسيا بالدرجة الأولى». ويعتبر أن هذا الأمر سيتجسد عبر لجوء أي معلن يناصر هذا الفريق أو ذاك الى حجب اعلاناته عن أي محطة تتناقض مع توجهاته السياسية وان كانت تقدم له ربحا ماديا نظرا الى ارتفاع نسبة مشاهديها، وبثها في محطة أخرى تتلاءم مع توجهاته وان كانت تكبّده خسائر مادية.

ولمدير البرامج في المحطة اللبنانية للارسال طوني كرم وجهة نظر مختلفة، اذ يرى أن توزيع الخريطة الاعلانية في لبنان لا يتأثر بتوجهات الوسيلة الاعلامية سياسيا، ويقول «هذا الأمر لم يحدث سابقا ولا يحدث حاليا وأتصوّر أنه لن يحدث في المستقبل لأن الـ LBCI محطة تتوجّه الى كل مواطن لبناني من دون تمييز وهي محطة رائدة تهم كل معلن وتدعوه الى توظيف اعلانه على شاشتها، وبالتالي فهي محطة قوية لا يستطيع المعلن أن يغض النظر عنها». ويضيف «هذا في المبدأ العام، لكن، طبعا هناك تأثير ضئيل لهذا الانقسام السياسي ويظهر عبر توجّه بعض المعلنين الى المؤسسات الاعلامية الناطقة باسم الحزب أو الفريق الذي يؤيدوه سياسيا لبث اعلاناتهم من دون أن يعولوا على المردود المالي لها، لكن طبعا لا أعتقد أنه يحجب هذه الاعلانات عن وسيلة اعلامية ناجحة اذا كانت تخالف توجهاته السياسية، لأن هدفه بالدرجة الأولى تجاري وليس سياسيا». يعتبر باتريك باسيل، مدير البرامج في محطة OTV التابعة للتيار الوطني الحر أن المعلن هو سيد الموقف في تحديد وجهة اعلانه وبالتالي فإن ادارة المحطة لا تتدخّل في هذا الاطار. أما في ما يتعلّق بموضوع تأثير الانقسام السياسي على توزيع الخريطة الاعلانية فيقول: «المقاطعة تأتي من الطرف الآخر وليس من طرفنا، أي من شركة الاعلانات وليس من ادارة المحطة، رغم أن تأثير هذا الأمر بدأ بالانحسار شيئا فشيئا، في ظل الاحتكار الجزئي لمؤسسة شويري غروب التي تدير الاعلانات في المحطة اللبنانية للارسال (LBCI) التي تعمد الى تقديم عروض مغرية بغية أخذ الاعلانات باتجاه واحد، والأهم أنها تعتمد على احصاءات غير دقيقة لا تعدو كونها مؤشرا وليس واقعا». ويردّ كرم على هذا الأمر مؤكدا اعتماد الـ LBCI على دراسات تقوم بها شركة «stat ipsos» التي تعتمد على تقنيات متطورة في دراسة نسبة المشاهدين. ويقول «نحن لا نتّصل مباشرة بالمعلن بل نوكل هذه المهمة الى الوكيل الاعلاني الذي يسوّق للمحطة».

وفي حين يؤكد باسيل أن شركات الاعلانات تفكّر بطريقة تجارية بعيدا عن السياسة يشير الى «أن بعض الشركات المحسوبة على فريق سياسي معين لا يمكن أن تقدّم لنا اعلانا». ويلاحظ الاعلامي جاد الأخوي أن وسائل الاعلام المرئية اللبنانية تخضع لما يمكن تسميته «التعاطف السياسي» من دون أن تصل الى حد الانقسام، ويقول «هذا الانقسام يظهر لدى الشركات الصغيرة التي تتوجّه الى جمهور محدّد في منطقة معينة حيث تتوزّع محلاتها، وهذا ما نراه مثلا على شاشة الـ otv والمنار حيث تكثر الاعلانات الخاصة بمؤسسات موجودة في مناطق يقصدها جمهور هاتين القناتين ومناصري أفرقائهم السياسيين، في حين أن الشركات الكبرى لم تخضع لهذه الأهداف السياسية وبقيت محافظة على أهدافها التجارية». ويضيف «هذا الواقع يظهر ان الشركات الكبرى هي التي تتحكّم في السوق الاعلاني اللبناني، وخير مثال على ذلك أن أمبراطورية شويري الاعلانية هي التي تمسك بمعظم وسائل الاعلام وكل من كان خارجها أصبح في موقع الخاسر». من جهته، يحصر مدير العلاقات العامة في قناة المنار ابراهيم فرحات، الأسس التي تحكم اختيار الاعلانات على المحطة بضرورة اعتمادها على الضوابط التي تضعها الادارة وهي ضوابط أخلاقية تنسجم مع رسالة المحطة وأهدافها. وفي ما يتعلّق بالاعلانات التي تعرض حصرا على شاشة المنار وتكون من انتاج المحطة، يقول «هذا النوع من الاعلانات لا يشكّل إلا نسبة ضئيلة من حجم الاعلانات في المحطة، وأعتقد أن هناك العديد من الاعلانات تتركّز في قنوات محدّدة وهذا عائد الى نوع هذه الاعلانات وطبيعة الجمهور المستهدف. وفي ما يتعلّق بسياسة الانتاج الخاصة بالمنار فتعتمد بناء على ارادة المعلن». أما بالنسبة الى تأثير الانقسام الاعلامي السياسي على الخريطة الاعلانية فيقول فرحات «الانقسام السياسية المحلي له تأثير ضئيل على طريقة توزيع الاعلانات بين المحطات اللبنانية، وبالتالي لا نستطيع أن ننفي ذلك في المطلق، لكن التوجهات السياسية التي تتبعها الشركات الكبرى لها الانعكاس الأكبر في خريطة توزيع الاعلانات، اذ توجه اعلاناتها باتجاه محطات تنسجم مع ميولها السياسي وتوجهاتها». في المقابل تنفي كلود صباغة، مديرة العلاقات العامة في شركة الاعلان FMS التي تدير العملية الاعلانية في محطة المستقبل تأثر السوق الاعلاني اللبناني بالانقسامات السياسية وتقول «التجارة ليس لها علاقة بالتلاوين السياسية. لذا فان هدف المعلن الأساسي هو الوصول الى أكبر فئة ممكنة من الجمهور وبالتالي يهمه أن يعرض اعلانه على أكبر عدد من الوسائل الاعلامية». وتشير صباغة الى أمر مهم وهو أن FMS لا تعتمد على احصاءات معينة في ما يتعلّق بنسبة المشاهدة لأنها لا تثق بالنتائج التي تصدرها شركة STAT IPSOS بعدما أقام دعوى قضائية بحقها عدد من المحطات اللبنانية. وفي السياق نفسه يقول باسيل «المقاطعة التي كانت تعتمدها وسائل الاعلانات تجاه الـ OTV خفّت بعدما أثبتنا أنفسنا على الساحة الاعلامية. مع العلم أن المسؤولين في هذه المؤسسات كانوا يعزون سبب المقاطعة الى حداثة المحطة لكننا كنا على يقين أن الأسباب الحقيقية هي سياسية بامتياز». ويجمع كل من باسيل وصباغة على «أن شركات الاعلان في لبنان هي في صدد العمل معا على تصحيح المسار الاعلاني اللبناني الخاطئ لا سيما في ما يتعلّق بطريقة الاحصاءات التي تلعب دور الموجّه للخريطة الاعلانية».