«حرية» الإعلام الإسرائيلي.. تحت المجهر

الحرب في غزة تضعها قيد الاختبار مجددا.. وتطرح أسئلة جديدة حول مدى القدرة على انتقاد الجيش

«معاريف»
TT

تتعرض يونيت ليفي، المذيعة التلفزيونية الإسرائيلية الشابة، هذه الأيام لحملة تحريض دموية بسبب جملة قالتها خلال البث أبدت فيها شيئا من التعاطف مع ضحايا العدوان الإسرائيلي من النساء والأطفال الفلسطينيات في قطاع غزة. حيث وقع أكثر من 30 ألف مواطن على عريضة تطالب بمعاقبتها وإقالتها من العمل. الجملة التي قالتها، في الأيام الأولى من العدوان، هي: «من الصعب أن نقنع العالم بعدالة موقفنا في هذه الحرب عندما يكون عدد القتلى الفلسطينيين 350 مقابل قتيل إسرائيلي واحد». ويقال إن بعض المشاهدين لاحظوا أنها أنزلت دمعة وهي تعرض صور الأطفال الفلسطينيين الممزقة أجسادهم من جراء الغارات الإسرائيلية.

30 ألفا تجندوا لتصفية مجد هذه المذيعة، التي تعتبر اليوم واحدة من أهم وأنجح المذيعات. في كل يوم تدير نشرة الأخبار المفصلة وتقابل أبرز الشخصيات السياسية والعسكرية وتوجه أسئلة مهنية ثاقبة وتدير حوارات بين خبراء وتفعل كل هذا بثقة عالية في النفس وجدية وصرامة. لا تساير، ولكنها لا تجرح. لا تداهن ولكنها لا تعادي. تحترم ضيوفها. وتزرع الثقة بين الجمهور. وتنجح في إبقاء القناة الثانية الأكثر مشاهدة على الشاشة. ولكن كل هذا يتبخر اليوم، لأنها قالت تلك الجملة. لم تنتقد الجيش. لم تعبر عن موقف معارض للحرب. لم تشكك في روايات الجيش الإسرائيلي عن الحرب، مع أن رواياته تثير شكوك المزيد والمزيد من الإسرائيليين في كل يوم، وفقط في مطلع الأسبوع خرجت صحيفة «هآرتس» بمقال افتتاحي يشكك في مصداقيته. كل ما فعلته هو تقديم ملاحظة، بل ملاحظة صحيحة وموضوعية ومهنية للغاية. وتصبح صحيحة أكثر عندما يتضح أن أكثر من نصف الضحايا الفلسطينيين هم من النساء والأطفال. ولكن، هذه هي إسرائيل اليوم. في الحرب، لا يحبون سماع شيء سوى طبول الحرب ومزمور الانتصار. لا شك في أن المجتمع الإسرائيلي يتصرف كما المجتمعات الأخرى خلال الحرب، فيقف إلى جانب قيادته ويحتضن آباءه المحاربين. وقد تعاطى الإعلام الإسرائيلي مع الحرب العدوانية على غزة بتعاطف وتأييد واضحين. لا بل إننا إذا راجعنا ما كتبته الصحافة المكتوبة وبثته الإذاعات وقنوات التلفزيون الإسرائيلية قبيل الحرب، نجدها شريكة في صنع قرار الحرب ورافدا من روافد الدفع باتجاهها. ولكن المشكلة أن الجيش الإسرائيلي لم يحترم وسائل الإعلام على موقفها، ففرض قيودا على تغطية مجريات الأحداث في جبهة القتال، ومنع الصحافة الإسرائيلية (والأجنبية) من دخول قطاع غزة ومعرفة حقيقة أهداف الحرب وفرض رقابة عسكرية صارمة، بحيث لا يبث من إسرائيل أي تقرير من دون أن يمر على مقص الرقيب.

الصحفي المخضرم شالوم يروشلمي، يقول: «في البداية تقبلت الصحافة هذا القرار، باعتباره ناجما عن قرار عدم تكرار أخطاء حرب لبنان الأخيرة التي ساد فيها تسيب إعلامي»، كما أشارت لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات حرب لبنان. ففي تلك الحرب كان الجنود والضباط يتكلمون في الهواتف من الجبهة ويخبرون الأهل بأحوالهم، وتبين أن حزب الله كان يرصد المكالمات ويترجم مضمونها ويعرف من خلال الذبذبات الصوتية موقع الجنود ويستفيد من ذلك في إدارة الحرب. ولكن التعتيم لم يعد يحتمل بعد مضي الأسبوع الأول من الحرب». ومع بدء الاجتياح البري في الأسبوع الثاني من الحرب وإصرار الجيش على منع الصحافيين من دخول غزة، بدأت الصحافة تململ وتسمع الانتقادات. ومر اثنا عشر يوما على الحرب حتى سمح الجيش بدخول الصحافيين، وبالأساس المراسلين العسكريين، واشترط عليهم الدخول فقط مع قوات الجيش. ولم يتح لهم التجول بحرية حتى يروا عن كثب ماذا يدور وما هي الأهداف التي يقصفها الجيش وهل هي تؤثر فعلا على حماس وتحقق لها ضربات قاصمة كما يدعي قادة المخابرات. وحتى اليوم الثامن عشر من الحرب، لم يغير الجيش سياسته. وفي هذه الأثناء كان الصحافيون يشاهدون ما تبثه القنوات الفضائية العربية والأجنبية من صور مريعة لآثار القصف الإسرائيلي، من هدم وقتل وتمزيق جثث الأطفال والنساء. فلجأوا إلى أناس من قطاع غزة نفسه، صحافيين أو أطباء من مستشفى الشفاء أو أي معارف سابقين للصحافيين الإسرائيليين أو مسؤولين سابقين في السلطة الفلسطينية من رجالات فتح الذين ما زالوا يعيشون في القطاع، وعدد من نشطاء هيئات ومؤسسات حقوق الإنسان والعاملين في وكالة غوث اللاجئين، وبهذه الطريقة تمكنت كل الصحف من نشر بعض المعلومات عن الوضع في قطاع غزة. وأصبحت تنشر زاوية يومية عن الأوضاع في غزة، يكتبها أناس من غزة نفسها. ولكي ندرك مغزى التحول في وسائل الإعلام الإسرائيلي ونتعرف على حدوده، لا بد من التعريف أولا بهذه الوسائل. فالحديث يجري عن ثلاث قنوات تلفزيونية، هي «القناة الأولى»، وهي القناة الرسمية الممولة من أموال الشعب بضريبة، وفسحة الحرية فيها واسعة لكنها تظل رسمية. و«القناة العاشرة» و«القناة الثانية»، وهما قناتان تجاريتان فسحة الحرية فيهما أوسع. وهناك إذاعة رسمية وإذاعة للجيش وهما مثل القناة الأولى الرسمية، ومجموعة إذاعات إقليمية محلية، تابعة لشركة أخبار خاصة لكنها خاضعة للرقابة الجماهيرية.

وهناك الصحف الكبرى وهي ثلاث: «يديعوت أحرونوت» و«معريب» و«هآرتس»، الأولى تعتبر الأوسع انتشارا وهي منفتحة تضم مراسلين متنوعين، من مختلف التيارات السياسية، وكذلك الصحيفة الثانية التي كانت تعتبر يمينية ولكنها في الشهرين الأخيرين شهدت تغييرات في رئاسة التحرير أكثر انفتاحا، والصحيفة الثالثة وهي الأقل انتشارا ولكن الأكثر تأثيرا، حيث إنها الصحيفة الرصينة التي يقرؤها النخبة السياسية والاقتصادية. حيز الحرية في هذه الصحف والقنوات واسع جدا، وهي صحافة ناقدة ومقاتلة. لا تتردد في محاربة فساد رئيس حكومة أو رئيس دولة أو وزير. وتتسبب في إقالة حكومة، كما حصل مع حكومة إيهود أولمرت (فالصحافة هي التي كشفت فضائح الفساد وهي التي هاجمت الحكومة على قصورات حرب لبنان)، وتطيح برئيس أركان الجيش (كما حصل مع دان حالوتس) ووزير دفاع (عمير بيرتس) وحبس وزير (وزير داخلية ،أريه درعي ووزير مالية، ابرهام هيشنزون، ووزير صحة، شلومو بن عزري).

لكن هناك نقطة ضعف خطيرة تفقد الصحافة الإسرائيلية مهنيتها في لحظة، هي الضعف تجاه الجيش والموالاة له، وفي بعض الأحيان بشكل أعمى. فعلى مر السنين، وقفت الصحافة الإسرائيلية بغالبيتها الساحقة إلى جانب الحكومة والجيش في الحروب. ونقطة الضعف الأخرى هي التعامل مع العرب بشكل سلبي وبمواقف عدائية مسبقة، لا تخلو من العنصرية. هاتان النقطتان تلتقيان في كل حرب. ومعهما نرى حملات تحريض دامية على كل من يقف ضد الحرب وحملات ترهيب للصحافيين كي لا يجرؤوا على «إزعاج» الجنرالات، ولو بالتلميح مثلما حصل مع يونيت ليفي في هذه الحرب. وما زلنا في بداية الطريق.

ونقول بداية الطريق، لأن الصحافة الإسرائيلية بدأت تطرح أسئلة التشكيك حاليا في هذه الحرب ودوافعها وأهدافها الحقيقية. وبدأت تحذر من خطر قيام بعض الجنرالات والسياسيين بعملية خداع، مثلما حصل في حرب لبنان الأولى، حيث قيل إن هذه عملية حربية صغيرة ليومين، بينما استغرقت 18 سنة. وتفتش عن الدوافع والمصالح الشخصية لبعض القادة في هذه الحرب. وتتجند كلها تقريبا وراء المطلب: «أوقفوا الحرب عند هذا الحد». والعديد من الصحافيين يعدون من الآن إصدار كتب عن هذه الحرب وفضائحها. وما أن تسكت المدافع، وربما قبل ذلك، سوف نجد الصحافة تخرج في تحقيقات حول العديد من قصص هذه الحرب وأهدافها الحقيقية وما تحقق منها.