الحرب على غزة تلقي بظلالها على الإعلام الفرنسي

انتقادات لانحياز بعض الصحف وقنوات التلفزة لجانب إسرائيل

وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك متصفحا جريدة «لوموند» خلال زيارة لفرنسا الصيف الماضي (ا. ف. ب)
TT

بعد مرور أكثر من أسبوع على بداية العدوان لم يُحصِ موقع «أري سور إيماج» المخّتص في تحليل الإعلام (بين 26 ديسمبر إلى 5 يناير) سوى تحقيقين تلفزيونيين عن معاناة الغزاويين تحت القصف، مقابل ستة مخصّصة لسكان المستوطنات الإسرائيلية. باقي المواضيع لم تكن سوى تركيب لصور مأخوذة من المعسكرين. في وسائل الإعلام الكبرى بدت القناة الثانية الحكومية (FR2) الأكثر انحيازاً لموقف الجانب الإسرائيلي. فبينما امتازت النشرات المسائية لـ«ديفيد بوجاداس» المقدم الأول للقناة، وبالأخّص في الأسبوع الأول للقصف، بخلّوها من صور الضحايا الفلسطينيين مقابل استعمال مفرط لمشاهد سقوط قذائف «القسّام» على المستوطنات التي بدا المُقدم مهووساً بها، جاءت مراسلات مبعوثة القناة «دروتي أوليغيك» مطبوعة هي الأخرى بانحياز للجانب الإسرائيلي، فكانت غالبا ما تُختم على وقع تصريحات الناطقين الرسميين للجيش الإسرائيلي، وقد بلغت ذروتها حين أذاعت القناة يوم الاثنين الماضي تحقيقاً عن معنويات الجيوش الإسرائيلية دون كلمة تذكر عن معاناة المدنيين العزل تحت الحصار والقصف. كما ظهر «أولفيي غالزي» المقدم الثاني في القناة وكأنه يحاول إرباك وإضعاف موقف السيدة ليلى شهيد ممثلة السلطة الفلسطينية في بروكسل في إحدى مداخلاتها التلفزيونية بمقاطعاته الكثيرة. حتى احترافية الصحفي الممتاز «تشارل أندلران» مراسل القناة الثانية (الذي نقل للعالم صور استشهاد الطفل محمد الدرّة مع مصوره الفلسطيني طلال) لم تستطع أن تخفف من وطأة الخلل الذي كانت توحي به الصور المجسّدة لتقريراته، فبدت المفارقة كبيرة في مراسلة يوم الأربعاء الفارط بين المشهد المُقلق لرجال الإنقاذ الإسرائيليين وهم يهرولون في مكان سقوط صاروخ والمشهد شبه الهادئ للصواريخ الإسرائيلية التي بدت وكأنها تنير سماء غزة مثل الألعاب نارية، والتوقيت المخصّص لتغطية أحداث كلا المعسكرين، وإن كان متساوياً، إلا أن المعالجة لم تكن متكافئة، لأنها لا تترك الانطباع نفسه. القناة الأولى الخاصة اختارت هي الأخرى الانحياز للجانب الإسرائيلي لا سيما حين أرجأت الإعلان عن قصف المدرسة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة إلى ما بعد خبرين محليين: الأول كان يتناول موجة البرد السائدة في فرنسا والثاني كان عن افتتاح موسم الخصومات. مبعوثة القناة التي نقلت الخبر تفادت الكلام عن «مجزرة» أو «مذبحة» واستعملت بدله تعبير «خطأ» وعدة مرات عبارة «غلطة»، كما تبنّت الرواية الإسرائيلية في أن المدرسة كانت تؤوي عناصر من حماس، واكتفت في نهاية الخبر بتصريح للناطق الرسمي للجيش الإسرائيلي دون أن تكلف نفسها عناء نقل رواية الأطراف الأخرى.

الصحافة المكتوبة لم تكن أحسن حالاً، فكثيرون يرون أن الصحف والجرائد انحازت للطرف الإسرائيلي، صحيفة «لوموند» مثلا نشرت في عدد 26 ديسمبر مقال في صفحة الرأي بعنوان «غزة زاوية الموت» وفي طياته الجملة التالية «قذائف الروكيت الفلسطينية (...) التي يمكن تصنيفها ضمن جرائم الحرب» وفي عدد 30 ديسمبر (كانون الأول) تواصل الصحيفة تحميل مسؤولية الحرب على الطرف الفلسطيني لوحده، فتقول في مقال بعنوان «حمام دم غير ضروري» ما معناه : «عن هذه القذائف التي تطال كل الأراضي الإسرائيلية (...) لا أحد يشك في أنها أصبحت تشكل جرائم حرب إضافية..» العبارة التي علّق عليها أحد القرّاء بقوله: «في هذه المرة لم تكتفوا بالانحياز فقط بل تمارسون التضليل الإعلامي أيضا حين تقرّون أن القذائف تطال كل الأراضي الإسرائيلية بينما الكل يعلم أنها لا تصل إلا لبعض المستوطنات فقط». الاستثناء الوحيد جاء من صحيفة «لومانتي» الناطقة باسم «الحزب الشيوعي» التي تفرّدت بمعالجة معتدلة واستعمالها لمصطلحات غابت من قاموس الصحف الأخرى كـ«احتلال»، «مقاومة» أو «مجزرة ضد المدنيين».

يقول «دونيس سيفرت» مدير تحرير مجلة «بوليتيس» واختصاصي في قضايا الشرق الأوسط: « منذ البداية ظهرت تغطية وسائل الإعلام الفرنسية للحرب في غزة شديدة الانحياز للجانب الإسرائيلي، فقد راح الصحافيون يشيعون ويتناقلون بعض المعلومات الخاطئة التي أطلقها الإسرائيليون وكأنها مسلّمات، فسمعناهم من البداية يقدمون العدوان على أنه كان نتيجة خرق حماس للهدنة و«دفاعا عن النفس» ولو تحرّوا المعلومات بدقة قبل بثّها لعلموا أن أول الخروقات جاءت من الجانب الإسرائيلي بل إنه لم يحترم يوما شروط هذه الهدنة برفضه رفع الحصار على غزة. وقد لاحظنا غالبية الصحافيين وكأنهم لا يناقشون حتى شرعية الضربات الإسرائيلية، إلى درجة أن صحافي بإذاعة «فرانس أنتير» قال بالحرف الواحد «إن صبر إسرائيل قد استنفِد إلى الآخر...» وكأنه يتكلم بلسان ضابط إسرائيلي.

أما مرصد وسائل الإعلام «Acrimed» فيرى في مقال نشر على موقعه «أن الإعلام الفرنسي تبنّى عن قصد، أو ربما عن دون قصد، وجهة النظر الإسرائيلية حين وازى في تغطيته بين المعسكرين. فهو مثلاً قدم لنا أهداف الجيش الإسرائيلي على أنها عسكرية فقط، لكنه لم يشرح لنا لماذا انقلبت هذه الأهداف العسكرية إلى مدارس وجامعات، ومقاتلو حماس إلى أطفال وعزل..».

للرّد على هذه الهجمات يقول الصحافيون إن التقصير، إن حدث، فهو من غير قصد، يشرح «ألكسي موشفي» صحافي حّر عمل طويلاً في غزة والضفة الغربية: «الجميع يلوم الصحافيين على طريقة تغطيتهم لهذه الحرب، لكن ماذا عن الظروف التي نعمل فيها؟ هل يعلم هؤلاء أن غزة أصبحت أكثر أماكن العالم استعصاء علينا؟ لغاية يومنا هذا لا توجد سوى قناة فرنسية واحدة تملك مراسلاً في غزة هي «فرانس 24» إضافة إلى «طلال» المصور الذي يعمل لصالح القناة الثانية، فإذا أردنا الحصول على صور لما يحدث هناك فيتوجب علينا الاستعانة بالمصورين الذين يعملون لصالح الوكالات الكبرى كـ«أسوشيتد برس» و«رويترز» ورغم احترافية هؤلاء المصورين إلا أن عملهم غالبا ما يكون غير مناسب، لأنه يقتصر على ما يسمى بـ«الهرد نيوز» أي إنهم يتنقلون مع سيارات الإسعاف إلى أماكن القصف لينقلوا صوراً عن الجرحى والضحايا وآثار القصف وهذا لا يسمح ببناء مواضيع متناسقة ومعبّرة عن المعاناة في غزة، كما تفعل القنوات التي تملك مكاتب في المكان عينه، ويواصل الصحافي نفسه: الوضعية صعبة، فنحن من جهة أمام أناس يتحكمون في الآلة الإعلامية، يعرضون علينا خدمات ملحقين إعلاميين يتحدثون كل اللغات، رحلات منظمة إلى المستوطنات المستهدفة ويوجهوننا إلى ضباط رسميين يدلُون بأحاديث للصحافة بانتظام مع كل ما يحلم به الصحافي من معلومات دقيقة معزّزة بخرائط وصور، ومن الجهة الأخرى معسكر لا نجد فيه رسميًا واحدا نتحرى منه الوضع، ما عدا مدنيين عزل يصرخون ألمهم ومعاناتهم وأرقاماً تأتي من مصادر طبية ليست مؤهلة للاتصال. نعترف أن المعادلة غير متكافئة، لكن السبق الصحفي وإلزامية توفير المادة الإعلامية يجعلان بعض الصحافيين لا يفكرون كثيرا بل يأخذون ما لديهم وبالتالي ينحازون لطرف دون الآخر بقصد أو عن دون قصد».

أما مبعوثة صحيفة «20 مونوت» بولين غاراند فتقول: «رغم المنظار الذي لا يفارق معظم الصحافيين القابعين على معبر «أريتز» إلا أننا لم نرَ من غزة سوى الدخان المتصاعد في السماء، حتى عندما توجهنا إلى الضفة الغربية أملا في لقاء مسؤول ما من خلية الاتصال أو الوزارة، قيل لنا إن المهمة مستحيلة إن لم نكن من وسائل الإعلام الأنجلوسكسونية الكبيرة أمثال «بي بي سي» أو «سي أن أن». كثرة الانتقادات وردود أفعال مستهلكي الإعلام المستهجنة للانحياز الذي طبع هذه التغطية الإعلامية جعل كثيراً من وسائل الإعلام تخرج عن صمتها لتعترف بوجود «تقصير» في المهمة مُرجعةً اللّوم على الرقابة الإسرائيلية. حيث خصّصت قناة «أل.سي.إي» الإخبارية مع مراسلتها في الحدود على غزة موضوعاً كاملاً عن ظروف العمل الصعبة للصحافيين بسبب رقابة الجيش الإسرائيلي، أما القناة الثانية التي بثّت، خطأ، صوراً قديمة عن غزة على أنها حديثة فقد شرحت مقدمة النشرة «إليز لوسي» للمشاهدين بأن هذا الخطأ ما كان ليحدث لو أن الصحافيين يستطيعون العمل بحرية في غزة. جريدة «لوموند» هي الأخرى خصّصت عدد العاشر من يناير للموضوع نفسه تحت عنوان «غزة: الموضوع المشؤوم» وكان بمثابة نقد ذاتي لتغطية الصحيفة، فاعترفت كاتبته «فيرونيك موريس» بأن التعليقات وإن كانت في معظمها تتهم الصحيفة بالانحياز لصالح إسرائيل، إلا أن النقد جاء أيضا من قرّاء يرون العكس. وعلى كل حال في مثل هذه المواضيع فإنه مهما كُتب فالنقد يكون لاذعًا في كلتا الحالتين، وفي حالة الحرب في غزة فإن الموضوع مشؤوم.