الصحافة والسياسة.. علاقة «حب وكراهية»

ملصق فيلم «رجال الرئيس» الذي تناول كيف كشفت «واشنطن بوست» فضيحة ووترغيت
TT

يمكننا فهم قدرة الصحافة على التأثير في القضايا السياسية المختلفة التي يشهدها العالم، أولاً عبر فهم طبيعة العلاقة التي تربط الصحافيين بصناع القرار، تلك العلاقة الفريدة التي تجمع في طياتها الكثير من الشد والجذب، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن لأي من الطرفين الاستغناء عن الطرف الآخر مهما بلغت درجة التنافر بينهما، فعلى سبيل المثال يذكر التاريخ محاولة قيام الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بنقل الصحافيين الذين يغطون أخبار البيت الأبيض من غرفتهم التي تقع بالممر نفسه الذي تقع فيه غرفة نوم الرئيس الأميركي في الدور الثاني إلى مبنى مجاور، ولكن الصحافيين نجحوا في تنظيم حملة لإعادتهم إلى موقعهم السابق القريب من الرئيس. وما أبلغ من وصف الرئيس الثالث لأميركا توماس جيفرسون لهذه العلاقة حينما كتب عام 1786 أنه «لا يمكن حماية حريتنا إلا بحرية الصحافة، ولا يمكن الحد من حرية الصحافة بدون التعرض لخطر فقدان حريتنا الفردية». ولكنه هو نفسه الذي أبدى في العام 1819، أي بعد عشر سنوات تقريباً من انتهاء فترة رئاسته، هذه الملاحظة الساخرة، «الإعلانات... تحتوي على الحقائق الوحيدة التي يمكن التعويل عليها في أي صحيفة». وأيضاً ما جاء على لسان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش خلال الاحتفال بإعادة افتتاح جناح الصحافيين الغربي بالبيت الأبيض عام 2007 «لقد افتقدناكم، ولكن ليس حقاً». «لا تعجبكم أحياناً القرارات التي أتخذها، ولا تعجبني أحياناً الطريقة التي تكتبون فيها عن القرارات، ولكن تلك العلاقة جزء مهم حقاً من نظامنا الديمقراطي».

وثانياً عبر فهم الدور المهم الذي تلعبه الصحافة في الإفصاح والكشف عن المعلومات التي تثير العديد من القضايا السياسية الساخنة، ومن أشهر الحوادث التي يذكرها التاريخ في هذا المحفل: فضيحة ووترجيت 17 يونيو (حزيران) 1972، التي لعب فيها كل من بوب ودورد Bob Woodward وكارل بيرنستين Carl Bernstein الصحافيين بجريدة واشنطن بوست الأميركية دوراً مهماً في كشفها، وترجع تفاصيلها عند اكتشاف البوليس الأميركي وجود خمسة أشخاص غرباء في مقر اللجنة القومية للحزب الديمقراطي وبيان أن سبب وجود هؤلاء الأشخاص هو ضبط أجهزة التنصت التي زرعوها أثناء العطلة الصيفية للحزب الديمقراطي خلال شهر مايو وكذلك تصوير بعض المستندات الخاصة بالحزب، وانتهت تلك الفضيحة السياسية الأشهر في العصر الحديث باتهام 40 مسؤولا حكومياً أميركياً واستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون Richard Nixon في 9 أغسطس (أب) 1974.

أما فضيحة أسرار إسرائيل النووية 5 أكتوبر 1986، التي لعب دوراً مهماً في كشفها بيتر هونام الصحفي بجريدة «صنداي تايمز» البريطانية، وترجع تفاصيل الفضيحة التي خرقت سياسة الغموض النووي الإسرائيلي ووترت العلاقة بين واشنطن وتل أبيب إلى قيام موردخاي فعنونو، الذي عمل كفني لمدة 9 سنوات بمركز ديمونة للأبحاث النووية في صحراء النقب، بسرقة فيلمين مصنفين تحت بند سري للغاية يشرحان الأعمال التي تجري بمفاعل ديمونة والمعدات المستخدمة هناك بما فيها المواد الخاصة باستخراج المواد الإشعاعية المخصصة للإنتاج العسكري ونماذج معملية للأجهزة النووية الحرارية. وقد كشف التقرير الذي أفردت له صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية 3 صفحات أن قدرة مفاعل ديمونة الإنتاجية عام 1985 بلغت 1,2 كجم من البلوتونيوم أسبوعياً كافية لإنتاج 12 رأساً نووية سنوياً، وفي 30 سبتمبر (أيلول) 1986 تم استدراج فعنونو وإلى إيطاليا واختطافه من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي لتتم محاكمته في إسرائيل بالسجن لمدة 18 عاماً، وفي أبريل (نيسان) 2004 قامت السلطات الإسرائيلية بالإفراج عنه إفراجاً مشروطاً بتحفظات ولكن عدم التزام فعنونو بهذه التحفظات دفعت بالشرطة الإسرائيلية لاعتقاله مرة أخرى في القدس الشرقية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2004.

وفضيحة سجن أبو غريب مايو 2004، التي نجح في الكشف عنها سيمور هيرش الصحفي الأميركي الاستقصائي بمجلة «نيويوركر» الأميركية، حين قام بنشر تقرير وصور لأول مرة حول طرق التعذيب البشعة والمعلومات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت ترتكب على أيدي بعض أفراد القوات الأميركية في السجون العراقية ضمن برنامج يعرف باسم «النحاس الأخضر» بموافقة وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد. ولم تكن تلك الواقعة هي الوحيدة لـ«هيرش»، إذ أسهم في الكشف عن مذبحة ماي لاي 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1969، ويرجع تاريخ المذبحة إلى مارس (آذار) 1968 حينما دخلت القوات الأميركية بلدة ماي لاي الصغيرة الواقعة في جنوب فيتنام، وقامت بقتل 300 شخص على الأقل بينهم رجال ونساء وأطفال، هذا ويقدر البعض المحصلة النهائية لتلك المذبحة بـ 500 شخص، وأسهم الكشف عن وقائع هذه المذبحة في التأثير على الرأي العام الأميركي ليتخذ موقفاً مناهضاً من الحرب الأميركية على فيتنام. وأخيراً وليس آخراً في سجل القضايا التي تفجرها الصحف، تأتي فضيحة السجون السرية الأميركية نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، التي نجحت في الكشف عن تفاصيلها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية من خلال تقرير أكد قيام الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بإقامة 15 سجناً سرياً بثماني دول من دول أوربا الشرقية، ويذكر أن الولايات المتحدة خصصت هذه السجون لاحتجاز من تشتبه في علاقاته بتنظيم القاعدة سواء أكان المشتبه فيه عضواً منتظماً أو ممولا، وعقب نشر الخبر رفض البيت الأبيض في الخوض في أي تفاصيل حول أنشطة الولايات المتحدة الاستخباراتية.

*وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»