روجيه مكرزل.. «عتال» الصورة وشاعرها

يستدرج الحواس والحكايات

روجيه مكرزل.. ما يقوم به له علاقة بالثقافة العربية لأنه ينبع منها ومؤمن بها
TT

أن تدخل إلى عمق عالم المصور روجيه مكرزل ليس مسألة بسيطة. عليك أن تستنفر حواسك وأحاسيسك وتكبت فيضا من علامات التعجب لتتمكن من سماع ما ترويه صوره. لا مبالغة في هذا الكلام. فالفنان الذي يصف نفسه بـ«العتال» (أي الحمال) هو شاعر الصورة وفيلسوفها. وهو قادر على استخراج حكايات ومدارات من موضوع قد يبدو للناظر أنه لا يحمل أكثر من انعكاس العدسة عليه. مكرزل كان في الثالثة عشرة عندما سرق آلة تصوير شقيقه الأكبر والتقط بعض صور بيوت قريته بيت شباب في منطقة المتن الجبلية اللبنانية. بعد ذلك استولى على الكاميرا. صادرها وراح يقتنص مشاهده. بدأ يكتب بالعدسة ريبورتاجات يبيعها إلى الصحف والمجلات المحلية اللبنانية. الحرب كانت موضوعه. تأثير صوره حمله من الساحة المحلية إلى العالمية. راسل وكالة «سيغما». منها انتقل إلى «رويترز». أثناء ذلك كان يواصل دراسته بشكل عادي. نال شهادة الماجستير في إدارة الأعمال. أخذ التصوير الصحافي عشر سنوات من عمر روجيه. ليكتشف أن ما يقوم به لم يعد يرضي طموحه المهني. يقول: «أصبحت أرى أن الصحافة تنحاز حسب التيارات السياسية وليس حسب الموضوعية والمهنية». ولما كان متمسكاً بأخلاقيات المهنة بصدق ونقاء قرر ترك الساحة التي حصد فيها جوائز عالمية، ليقتحم مطلع التسعينات في باريس مجال تصوير الموضة لعدد من المجلات المتخصصة منها مجلة «Elle Magazine». التقط صور بورتريه للعديد من النجمات العالميات. كما انطلق في تصوير الإعلانات. عام 1995 ومع انطلاق ورشة البناء في لبنان أحس بأن الوقت حان ليعود ويواكب هذه الورشة على طريقته. يقول: «لم أكن أريد أن أفوت هذه الفرصة. عدت وبدأت العمل لحسابي في مجال الإعلانات. تعاونت مع وكالة «Max ppp» وأسست شركة «Minime» للإعلانات والتصوير. وطورت عملي فدخلت سوق الإعلانات العالمية».

براعة مكرزل في تصوير البورتريه فتحت له أبواب الشخصيات العربية والعالمية في جميع المجالات. من أهم الشخصيات التي اعتمدت عدسته للصور الرسمية العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا وحاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم. لا ينسى أن الرئيس الراحل رفيق الحريري طلب إليه تصويره. آنذاك طلب مكرزل من الحريري أن يخفض رأسه قليلا ليلتقط له الصورة، فقال له الحريري: أنت أيضا تريد مني أن أخفض رأسي. هذه البراعة دفعت أيضا العديد من السياسيين إلى الاعتماد عليه هذه الأيام لالتقاط الصور التي تروج لحملاتهم الانتخابية. مكرزل يعرف كيف يريح صاحب الصورة ليعطيه الجانب الذي يبحث عنه في شخصيته. يقول: «بعضهم يرتاح كثيرا فيغني أو يلقي الشعر. والبعض الآخر يجب أن أخرجه من التوتر. يجب أن أصنع له مزاجا معينا أحتاجه في الصورة. صورة المرشح يجب أن تكون مقنعة. يجب أن ألتقط هذا الإقناع في العيون. يجب أن يشعر من ينظر إلى صورة المرشح بأن لديه مشروعا في عينيه. وهذا ليس كلاما فارغا وإنما هو ضروري». ماذا إذا لم يملك المرشح الذكاء المطلوب والمشروع المرتقب؟

يجيب مكرزل: «من لديه مقومات لا يحتاج مهارتي. عندها تكون مهمتي عادية. لكني أتحدى وأبحث عن المقومات التي أريدها في الوجوه التي لا تنفتح بسهولة للكاميرا».

سره أنه يرمي من خلال الصورة إلى إعطاء الجانب الإنساني والرؤيوي للمرشح. وليس تجميل شكله. فهو يبحث عن الذكاء في النظرة. يحاول أن يكسب ثقة من يصوره ليرتاح ويكشف مكنونه من خلال تقاسيمه. يقول إن التقاط الصورة يتطلب الكثير من علم النفس. ويضيف: «ليس كل من حمل كاميرا وصوّر بورتريها يكون ناجحا».

مكرزل حكواتي بعدسته. ينتشي بالصورة الناجحة كصورة العجوز التي تحمل عيني صبية في الثامنة عشرة وتجاعيد عجوز عمرها مائة عام. يؤمن أن كل الشخصيات الإنسانية تستحق أن ينبش فيها. والشرط الأساسي لنجاحه في مهمته هو القدرة على إقناع من يريد أن يتصور بالتفاعل معه. يصعب رصد الرضا أو الاستكانة على ملامح مكرزل. هو مسكون بالقلق والتوتر. يقول: «نحن نعمل في مهن لا تقود إلى مكان. لا يمكنني أن أقول إني مصور مشهور وأرتاح.لا أزال عتالا (حمالا). أعرف أن عليّ أن أحمل آلة التصوير وأهبّ إلى العمل. أفكر مائة مرة قبل أن ألتقط صورة ما. وأفكر ألف مرة بعد التقاط الصورة. أعتبر أن لديّ واجبا من خلال الصورة».يقسم روجيه وجوده المهني إلى العمل المادي الذي يضع فيه أسلوبه ونفسه. أما الجانب الفني المتمثل بالكتب والمعارض، فهو لا يمنحه فقط استراحة من العمل المادي وإنما يمنحه الفرصة لإكمال ما لا يستطيع أن يقوم به في إطار المهنة. عندما أراد أن يصور المجتمع الدرزي في جبل لبنان، ذهب إلى أحد مشايخ الجبل وطلب إليه السماح بتصوير هذا المجتمع. قال له الشيخ: «غيرك صوّر مشاهد كثيرة من مجتمعنا. لكن صورة واحدة كانت تظهر دائما وهي صورة شيخ درزي يركب حماره. لا شيء آخر. لماذا لا يصورون الشيخ الدرزي التلميذ والمعلم والمهندس؟». مكرزل أوضح لمحدثه ما يريد ولماذا يريد أن يدوّن ذاكرة المجتمع الدرزي بعدسته. فتحت له الأبواب. لكن هذه الثقة حمّلته مسؤولية كبيرة. يقول: «أنا أحترم وعدي وأحترم صورتي. لا أسرقها ولا أركّبها ولا ألوثها. من لا يريد التصوير أحترم رغبته. في الحرب كنت ألتقط الصورة في وقتها وإذا لم أتمكن لا أفبرك صورتي. خلال الحرب التقطت صورة لعروس يرافقها والدها بين متاريس الرمل إلى حفلة الزفاف. الصورة التي وزعتها رويترز أخذتها واشنطن بوست في الصفحة الأولى». في موريتانيا ذهب روجيه ليصور الفقراء المعدمين في إحدى الجزر. لاحظ أن الصياد الفقير، عندما يصطاد سمكة لا يحتاج إلى بيعها، يعيدها إلى البحر حية. سأله: لماذا؟ أجاب الصياد: «لأوفر لأبنائي وأحفادي رزقهم وقوتهم».

في اليابان شاهد شبكة صيد طولها 75 مترا. تجرف كل ما في البحر. يلتقط الصيادون اليابانيون ما فيها، يبيعون ما يصلح للبيع ويتركون ما تبقى فريسة للموت.

المقارنة بين الصيد الياباني والصيد الموريتاني علمته درسا في أهمية الشعور بالمسؤولية. هذا الشعور يتوغل في كل صورة يلتقطها، اليد وساعة المعصم التي تدل على ارتباط الإنسان بزمانه. كل قارورة زيت تصبح انعكاسا للأرض واللون والحياة. كل حائط عششّ فيه الزمن وكشط عنه ألوانه. أحلامه كبيرة على رغم واقعيته. يقول: «لا أستطيع أن أتصور نفسي في عمل غير التصوير. أريد أن أصنع الصورة العربية المستقلة عن تراث التصوير في العالم الأجنبي. أريد أن تضيف الصورة العربية إلى التصوير العالمي بثقافتها وأسلوبها. ما أقوم به له علاقة بالثقافة العربية لأنه ينبع منها ولأني مؤمن بها». في المهنة يفضل العمل ضمن فريق. وفي معارضه وكتبه يعمل بمفرده. لا يبيع صوره. كل موضوع يحاكيه يدفعه إلى تأليفه بالعدسة. المعرض ليس مجموعة صور جميلة ولقطات نادرة وإنما يجب أن يكون موضوعا متكاملا يحمل رسالة. كما في موضوع المعاقين الذين يملكون مهارات وذكاء وإنسانية تفوق ما لدى الكثير من الذين يعتبرون أنفسهم أصحاء. معارضه الكثيرة في أنحاء العالم تنطلق حتى الآن من سبعة مواضيع. ومن خلال المعارض يطور هذه المواضيع ويغنيها بإضافات فنية. مكرزل لا يصور كل ما يلفت نظره ويحرك وجدانه. يقول: «هناك الكثير من الأشياء التي يجب أن تراها الذاكرة وليس الصورة. كما أن هناك الكثير من الأمور التي تبدو عادية أو باهتة، لكنها تنبض بالحياة بعد تصويرها. أحيانا أسافر من دون كاميرا. أعتبرها أحياناً خيانة للذاكرة وليست عوناً لها. فالذاكرة صور متراكمة في مخيلتنا. وعندما نصورها ننقلها من المخيلة إلى الواقع فنخسرها». يرسم مكرزل خطوطا ليحدد مكان المخيلة ومكان النقل المادي للمشهد ويفصل المكانين بمساحة يفرض أن تحترم حدود كل من الصورة والمخيلة. ويقول: «إذا اختلطت الأمور في هذه المساحة يقع الإنسان في فوضى وجودية خطيرة. فاحترام الجزء المخصص من الإحساس للمخيلة يفرض عدم زجه في الجزء المخصص للصورة. يجب إبقاء نافذة فارغة إلا من الإحساس. ليبقى للإنسان متنفس. أحيانا يجب أن أعيش ما أراه لا أن أصوره. عندما ألعب أفرح مع ابنتيّ لا أرغب في تصويرهما لأني أريد لذاكرتي أن تلتقط اللحظة ولا أريد أن ألتقط صورة اللحظة. يجب أن يبقى التنافس بين اللحظة والمشهد». لا يرتاح روجيه. يتعلم دائما يقرأ يبحث يعلم أن هناك من هو أفضل منه وأهم منه. يقول: «أين أنا من هؤلاء؟ أحتاج إلى الكثير. لا يمكنني أن أستريح. إذا لم أحمل الكاميرا وأفتش عن لقطتي سأفشل. أنا مصور وسأموت مصوراً حتى لو أسست إمبراطورية للتصوير».