«بروجيكت غوتينبرغ».. هل يجعل الورق والمطابع من مخلفات الماضي؟

بعد تحول الكُتّاب والناشرين إلى التقنية لوضع «الأدب» في متناول الجميع

القارئ الالكتروني «كندل2» من أمازون («الشرق الاوسط»)
TT

ماري برات - ل أيا كاربينسكا قصة ترويها. فهي تستطيع سماع الكلمات وتتخيل كيف ستنتهي القصة. ولكن كل ما كانت بحاجة إليه، كما تقول، هو التطبيق الملائم من «آي فون». لذلك استأجرت كاربينسكا مبرمجا دفعت له 500 دولار لكي يسلمها خلال خمسة أيام تطبيقا من شأنه نشر وتوزيع روايتها الأدبية «الظلال لا تموت أبدا» عن طريق التطبيق الخاص بهاتف «آي فون».

ويتيح هذا التطبيق لكاربينسكا سرد روايتها المرئية عن طريق نص أبيض على خلفية سوداء لإظهار الكلمات، سواء كانت مهزوزة أو غير واضحة أو بأحجام مختلفة من الأحرف، بحيث تكون جزءا من الحبكة ذاتها كلما جرى تكبيرها والاقتراب منها خلال تتبع القصة. وتسمي المؤلفة هذا الأسلوب «السرد التكبيري».

وكاربينسكا هذه ليست وحدها في مساعيها لاعتماد الأدب في تقنيات اليوم، فقد تحول الكتاب والناشرون من جميع الأجناس إلى التقنية لوضع الأدب في متناول جموع البشر.

وقد تركز كل العمل حتى اليوم على نقل الكتب الحالية المطبوعة إلى صيغ تُنشر على الشبكة. ويُعتبر مشروع «بروجيكت غوتينبرغ» واحدا من أكثر الأمثلة البارزة على ذلك. فقد تأسس عام 1971 على يد ميشيل هارت ليحول عشرات الآلاف من المجلدات إلى كتب إلكترونية، جاعلا إياها واحدة من أول وأوسع المجموعات الفردية للكتب الإلكترونية المجانية. وعلى الأسلوب ذاته صممت أجهزة قراءة الكتب الإلكترونية مثل «كيندل» التي روجت لها كثيرا «أمازون دوت كوم» لنسخ الخبرة التقليدية في قراءة الكتب، ولكن عن طريق استخدام التقنية بشكل يلائم مثل هذه المساعي.

لكن العمل على مثل هذه الجبهة ينطوي على أكثر من تحويل النصوص المطبوعة التقليدية إلى نسخ إلكترونية. كما أن الكتاب والناشرين يستخدمون أيضا التقنية لإنتاج أدب بأساليب جديدة ومبتكرة عن طريق استخدام التغذية الإخبارية «آر إس إس» والرسائل النصية. وهم في سعيهم هذا يستخدمون البرمجة والأجهزة الجوالة لتطوير أشكال جديدة من الأدب، مرغمين إيّانا على إعادة تعريف مصطلح كلمة «أدب».

وتقول كاربينسكا لمجلة «عالم الكومبيوتر»: «أعتقد أن علينا تغيير تعريفنا لمفهوم الكتابة لكون الوسائط الإلكترونية شرعت توسع من هذا التعريف، وخصوصا في ما يتعلق بالقراءة والكتابة، فقد شرعت الأبواب أمام أنواع مختلفة من الكتابة». وأغلبية الأعمال المتوفرة على الفضاء المعلوماتي تراوح بين الأعمال المرئية كرواية «الظلال لا تموت أبدا» و«تويكشين» (موقع للخيال الأدبي على «توتير»)، مرورا بقطع قصيرة كُتبت خصيصا لموقع «توتير». وقد تعثر حتى على قطع أدبية كلاسيكية يجري تسليمها بجرعات صغيرة سهلة الهضم عبر البريد الإلكتروني، أو بالتغذية الإخبارية «آر إس إس». سوزان دانزيغار مؤسسة «دايلي ليت إل إل سي» مثلا التي يقدم موقعها هذا روايات مسلسلة عبر البريد الإلكتروني و«آر إس إس» فكرت هي وزوجها ألبرت وينجر بهذا المشروع قبل سنوات بعدما رأت صحيفة «نيويورك تايمز» تقدم رواية «فطور في تيفانيس» بحلقات متسلسلة.

وهي تتذكر أنها في طريقها كل يوم إلى نيويورك، كان الشيء الوحيد الذي تحمله معها، بالإضافة إلى الصحيفة اليومية، هو هاتفها الذكي. لذا قررت هي وزوجها كتابة تطبيق من شأنه أن يقدم روايات كلاسيكية إلكترونيا. وهي في الوقت الذي كانت تعمل فيه في حقل الأدب، قام زوجها الذي يحمل شهادة الدكتوراه بتقنية المعلومات بتقليد تطبيق يمكنه تجزئة الروايات إلى مسلسلات. وقاما بتجربة المسلسلات بأطوال مختلفة قبل أن يستقر رأيهما على أن تكون السلسلة الواحدة بطول ألف كلمة.

وهي تقول في هذا الصدد: «نحن نقوم بإدماج القراءة مع حياتنا اليومية. وهذا لا يعني استبدال ذلك بقراءة الكتب بشكل منتظم، بل تمكين الناس من قراءة الأدب والكتب التي قد لا تسنح لهم فرصة قراءتها دون ذلك». والتقنية وحدها هي الأسلوب الوحيد للقيام بذلك، كما تضيف، لأن طباعة هذه المواد الأدبية وتوزيعها كنسخ ورقية قد تكون مكلفة وصعبة.

جايك فريفالد ناشر ومحرر «فلاش فيكشين أون لاين» من جهته له منطقه الخاص في ما يتعلق بمشروعه هذا. فهو يقول إن له اهتماماته الخاصة في ما يسمى «فلاش فيكشين» (الخيال السريع) الذي هو عبارة عن سرد القصص بما لا يتجاوز ألف كلمة، أو أقل.

ويرجع تاريخ «فلاش فيكشين» إلى 20 سنة إلى الوراء على الأقل، غير أن فريفالد لا يرى في ذلك سوقا لتصريف الأعمال الاحترافية من هذا النوع، لكنه وجد فرصة لتحقيق ذلك.

وأطلق فريفالد العدد أو الإصدار الأول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2007، وهو يصدر حاليا إصدارا جديدا يتضمن عدة قصص، مع مقالة غير خيالية شهريا. وهو يستخدم تغذية «آر إس إس» الإخبارية والبريد الإلكتروني للبقاء على صلة مع المشتركين وللفت نظرهم إلى الإصدارات الخاصة. كما شرع في خدمة «بودكاست» لتسليم نسخ صوتية من عمله. ولـ«فلاش فيكشين أون لاين» 900 مشترك حاليا، ويتلقى نحو 30 ألف صفحة من الآراء شهريا، بالإضافة إلى أن هنالك ستة آلاف مشترك شهريا. ويقول إن الشبكة جعلت ذلك ممكنا، ذاكرا أنه لا يستطيع أن يحقق ذلك عن طريق الطباعة.

وأضاف أنه يدفع مبلغ 110 دولارات سنويا من جيبه الخاص لاستضافة موقعه هذا على الشبكة، علاوة على 200 دولار شهريا أتعابا للكتاب المسهمين. والمواد طويلة لاستيعاب القصة كلها، لكنها ليست من الطول بحيث ترهق الأشخاص الذين يطالعونها على شاشات الكومبيوتر.

وتتيح التقنية الوصول بسرعة ودون تكلفة إلى الجمهور، لا سيما عند التحدث عن الأشخاص المرموقين. فالنشر على الشبكة «يتيح لي نشر ما أريده إلى سوق ذات خاصية خاصة، وهذا من الصعب القيام به عن طريق الكتب» كما يقول ناثان ليلي الذي ينشر ثلاث مجلات متخصصة على الشبكة.

وليلي هذا، فضلا عن عمله في إحدى الشركات، أسس لنفسه مهنة عن طريق الشبكة، كما أنه مهتم أيضا بالخيال العلمي. وهكذا جمع ليلي مهاراته المهنية مع اهتماماته ليطلق موقع «سبايس ويسترنس دوت كوم» في أبريل (نيسان) 2007 الذي ينشر قصصا خيالية قصيرة. وهذه القصص التي يدعوها «نانوفيكشن»، أو «تويكشين» تصدر مرات عديدة في اليوم الواحد. وهو مثل فريفالد لا يتقاضى أي أتعاب مالية عن منشوراته هذه، لكنه يطالب قُرّاءه بتقديم بعض الهبات. و«تويتر» ليست الشكل الوحيد للقصص الخالية القصيرة المتوفرة حاليا في السوق. ففي اليابان باتت الروايات التي كُتبت خصيصا للهواتف الجوالة شعبية جدا. وبعد الاطلاع على هذه الظاهرة الجديدة قررت ماري روبنيت كوال، وهي كاتبة محترفة، أن تطبق ذلك في الولايات المتحدة. وقامت فعلا بكتابة حلقات عديدة من قصة خيالية على هاتفها الجوال. وشرعت بالحلقات الأولى مستخدمة الحد الأقصى من الأحرف الذي لا يتجاوز ألف حرف. لكن برزت مشكلة، فالهاتف قام بتقطيع ما كتبته إلى مقاطع من 180 حرفا ليقوم بإرسالها بشكل غير منتظم أو متسلسل. لكنها قامت بعد ذلك بتجزئة قصتها إلى مقاطع من 140 حرفا لترسلها إلى 120 شخصا تقريبا في وقت واحد، إما عن طريق الهاتف الجوال، أو عن طريق «تويتر». وكانت حلقة كل يوم مؤلفة من ثلاث أو أكثر من الرسائل النصية.

لكن كوال سرعان ما تخلت عن مشروعها هذا قبل أن تنهي قصتها لأنها شعرت أن المشروع غير ناجح، خصوصا وأن الـ140 حرفا باللغة اليابانية تمثل 140 كلمة، خلافا للإنجليزية (25 كلمة فقط)، مما يسهل على الكتاب اليابانيين إرسال فصول كاملة.

وهنا نصل إلى السؤال الذي لم يُجِب عليه أحد بعد عن مصير الأدب في هذا العالم الإلكتروني الغريب؟

يقول مارك مارينو مدير الاتصالات في «منظمة الأدب الإلكتروني» التي لا تتوخى الربح، والذي حصل عام 2006 على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في الأدب الإلكتروني، إن «القطع الأدبية الإلكترونية بدأت بشكل عام كنصوص، وهذه النصوص كانت محور التجارب والاختبارات». لكن مثل هذه الأعمال الأدبية أخذت تتوسع لتشمل أجزاء مرئية وحتى تفاعلية. وهذا ما يقودنا إلى أشكال جديدة من الأدب عندما يُجري الكُتّاب تجارب تتعلق بكتابة قصص متسلسلة عن طريق الهواتف الجوالة، أو التطبيقات الغريبة غير العادية، مثل «مايكروسوفت إكسيل»، أو «ديغو»، الأداة الخاصة بملء الحواشي التي أساسها الشبكة. ويبدو أن مارينو جرب الاثنين.

وعلى الرغم من اعتراف مارينو والكتاب الآخرين والناشرين بأن سهولة النشر على الشبكة تعني انتشار الأعمال ذات الجودة المتدنية، فإنهم يصرون على أن القطع الأدبية المثيرة المعدة جيدا ستكون هي الرائجة التي ستتلقى المديح، وبالتالي ستحتل مكانتها في تاريخ الأدب.

وفي الوقت الذي يقوم فيه الكتاب والناشرون باستخدام الإنترنت والتقنية المتجولة لنشر مؤلفاتهم الأدبية، إلا أنهم يواجهون المشكلة ذاتها التي يواجهها أصحاب المشاريع الأخرى على الشبكة، وهي «كيف يمكن جني الأرباح؟».

البعض من المواهب الأدبية على الشبكة يقولون إنهم شرعوا في تطوير نموذج تجاري من شأنه إتاحة المجال أمام مواقعهم لجني الأرباح. وكناشر ومحرر لـ«فلاش فيكشين أون لاين»، يملك فريفالد أساليب عدة لجعل موقعه يدر بعض المال، عن طريق بيع الإعلانات، مع طلب الهبات الخاصة أحيانا التي لا تتجاوز عادة خمسة أو عشرة دولارات.

بعضهم شرع يجني بعض الأرباح، ففي عام 1997 كتب جون سكالزي مقالات للصحف، وألّف عددا من الكتب، لكنه أراد أن يكتب في مجال الأدب الخيالي الذي نشره على الشبكة، مع ملاحظة للقراء تطالبهم بدولار واحد إذا ما أعجبهم، وحصل من وراء ذلك على نحو 4000 دولار. وقصته «حرب الشيخ العجوز» التي رُشحت لجائزة «هيوغو» التي كان ينوي بيعها للناشرين التقليديين، قرر في عام 2002 نشرها بدلا من ذلك على الشبكة تخلصا من المتاعب فنشرها في 18 فصلا خلال 18 يوما. وعندما قرأها باتريك نيلسن هايدن كبير المحررين في «تور بوكس» عرض عليه نشرها بنسخة ورقية طبعا بحيث بيع منها 100 ألف نسخة. ومنذ ذلك الحين باع أربعة كتب أخرى لدور النشر العادية، بما فيها ما نشره على الشبكة. في هذا الوقت تستمر كاربينسكا في التوسع بما يسمى أدبا، ولكن عن طريق الكومبيوتر الذي يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع الورق فعله على حد قولها، «والذي نعتقده قراءة وكتابة، ليس اليوم كما كان قبل خمس سنوات». وذلك بفضل تقنية اليوم والغد التي أصبحت الكتابة من خلالها فنا يتطور باستمرار إلى صيغ رقمية جديدة لا نعرف بعدُ تأثيرها ومدى استمرارها على الأمد البعيد».