خبير صحافة البحث الميداني: خططت للحصول على 7 جوازات سفر مزورة.. دخلت بأحدها بريطانيا

نك فيلدنغ لـ «الشرق الأوسط» أفضل ما كتبت كان عن ليلة القبض على خالد شيخ ورمزي بن الشيبة.. وشايلر الجاسوس البريطاني

فيلدنغ خلال لقائه في باكستان بعض الناشطين السياسيين («الشرق الأوسط»)
TT

تعرفت على الصحافي البريطاني نك فيلدنغ، وكان يعمل وقتها كبير محرري «الصنداي تايمز» قبل ست سنوات، وكان أول اتصال هاتفي من جانبه يسأل على عنوان مكتب (أبو قتادة) الإسلامي الفلسطيني السفير الروحي «للقاعدة» في أوروبا، المحتجز حاليا في سجن لونج لارتن بشمال إنجلترا، وإمكانية عمل حوار مع (أبو حمزة المصري) الذي يقضي عقوبة الحبس في سجن بيل مارش، وظللنا على الهاتف لشهور طويلة قبل أن ألتقيه للمرة الأولى في حفل صدور كتابه «العقول المدبرة للإرهاب» مع الإعلامي المصري يسري فودة. وفي لقاءات أخرى كان نك فيلدنغ يتحدث بشغف عن عمله، وهو أشبه بخبير في صحافة البحث الميداني، بحثا عن خبطة صحافية قبل التحقق منها، وهو رجل يعشق العمل الدؤوب، ولا يتوقف، ولا ينظر خلفه. ما زلت أتذكره وهو يلح بشدة في يوم جمعة، يطلب أرقام هواتف زاهي حواس الأمين العام لهيئة الآثار المصرية لإجراء حوار معه عن فرعون الخروج، وآخر لحسم ما يتردد من العثور على مومياء نفرتيتي زوجة اخناتون على يد عالمة بريطانيا في وادي الملوك بالأقصر. وكنت أتابع كثيرا من خبطات فيلدنغ الصحافية، الواحدة تلو الأخرى، مثل فضيحة وزير بريطاني على علاقة برجل الأعمال التركي القبرصي اسيل نادر، الهارب من الضرائب، أدت إلى استقالة الوزير في نهاية الأمر، وكذلك سلسلة مقالات عن الجاسوس البريطاني شايلر، 42 عاما، الذي عاش منفيا في باريس بعد أن كشف عن ملفات عدة مربكة لأجهزته السابقة، مثل عمليات التنصت على مكالمات هاتفية لأعضاء بارزين في حزب العمال، أصبحوا وزراء في حكومة توني بلير. واتهم أيضا أجهزة التجسس الخارجي (ام.آي.6) بالتورط في محاولة اغتيال الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي في 1996، مما أدى إلى سقوط ضحايا. وركز فيلدنغ في حديثه إلى «الشرق الأوسط» على «الفرق بين صحافة الأمس واليوم، وأجهزة الكومبيوتر والإنترنت التي قلبت حياة الصحافيين في غرف الأخبار رأسا على عقب». ويقول فيلدنغ «عندما بدأت العمل في الصحافة منذ 30 عاما، كانت الصحف القومية تستخدم الآلات الكاتبة. وكنا نكتب موضوعاتنا على ورقة واحدة على الآلة الكاتبة، ونصنع منها نسختين كربونيتين لنسلمهما إلى مكتب التصحيح والمراجعة. ولم نكن في الغالب نكتب سوى فقرتين في الصفحة. ولما كانت مواعيد التسليم النهائية صارمة، كان رئيس قسم الأخبار يأتي ويأخذ أيا كان ما كتبناه على الآلة ليعطيه إلى المراجعين».

ويضيف: «كانت أخبار وكالات الأنباء تصل إلى المكتب عن طريق المبرقة الكاتبة. وكانت هناك صفوف من تلك الماكينات موضوعة في غرفة خاصة، وكان العمال يوزعون الأخبار باليد على الصحافيين. وبعد الانتهاء من موضوعاتنا المكتوبة، كانت جميع التغييرات المكتوبة باللون الأحمر ترسل إلى عمال الجمع والطباعة. وكانوا يشكلون الصفحات، ويضعونها في الرصاص الساخن، لتبدأ العملية التي تؤدي في النهاية إلى الطباعة».

ويوضح «من الصعب أن نتخيل ذلك حاليا، ولكن نادرا ما كان الصحافيون يجلسون على مكاتبهم. فقد كانوا غالبا في الخارج، يزورون مصادرهم، أو المحاكم، أو أقسام الشرطة. وفي إنجلترا، كانت جميع الصحف القومية واقعة إما بطول شارع فليت في لندن، أو بالقرب منه». ويشير «كان الصحافيون من الصحف المختلفة يختلطون بعضهم ببعض يوميا في الحانات والمطاعم الموجودة في المنطقة، وقد بدأ كل ذلك في التغير في بداية الثمانينات عندما تم إدخال أول أجهزة الكومبيوتر إلى غرف الأخبار. كانت تلك الأجهزة ذات شاشات ضخمة، يظهر كل شيء عليها باللون الأخضر. لم تكن هناك شبكة إنترنت، أو تصحيح إملائي، أو تصميم أوتوماتيكي، أو صور. وفي الحقيقة، كان يمر بعض الوقت قبل أن تتأكد من أن كل شيء سيطبع بالطريقة ذاتها التي يظهر بها على شاشات الكومبيوتر. وبالطبع، بعد ذلك بفترة، تم توصيل جميع أجهزة الكومبيوتر بعضها ببعض».

وعن قوة أجهزة الكومبيوتر، يقول فيلدنغ « كانت تؤثر في حياتنا ببطء، ولكنه كان تأثيرا مؤكدا. وعلى وجه خاص، بدأ إدخال شبكة الإنترنت في تغيير أسلوب العمل إلى الأبد. ويمكنني أن أذكر أول مرة أدركت فيها الاحتمالات الممكنة. كنت أعمل مع الميل أون صنداي يوم الأحد في لندن عندما فجرت مجموعة من انفصاليّي الباسك قنابل على شواطئ جنوب إسبانيا. وباستخدام الإنترنت، استطعت أن أحدد المكان بدقة، ثم اتصلت بفندق قريب من موقع انفجار القنبلة. وحاورت فردا من العاملين الذين رأوا التفجير، وفجأة أدركت إمكانية هذه الوسيلة الجديدة. بالطبع، لم تتغير الأمور على الفور». وعن الخبطات الصحافية التي وضعته في قمة شارع الصحافة فليت ستريت، يقول فيلدنغ «كتبت مجموعة كبيرة من الأخبار المهمة لصحف مختلفة: انهيار بنك الاعتماد والتجارة الدولي، وفضيحة وزير في الحكومة كان على صلة برجل الأعمال القبرصي التركي أسيل نادر (وقد أجبر الوزير على تقديم استقالته)، والإبادة الجماعية في رواندا، وأخبار عن محتجزين في كمبوديا، وعمالة الأطفال في بنغلاديش. وفي إحدى المرات أرسلت إلى أذربيجان للبحث عن صديقة لمارك تاتشر، ابن رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر. وفي مرة أخرى، أرسلت إلى موسكو لمقابلة ابن غير شرعي للديكتاتور جوزيف ستالين».

ويتابع قوله «أمضيت فترة في أفريقيا أرسل أخبارا عن إعدام الأفيال، وسافرت إلى جميع أنحاء أوروبا، سعيا وراء أخبار مختلفة. وغالبا ما كنت أسافر لمدة أسبوعين في كل أربعة أسابيع. ولم تكن الصحف عاجزة عن تحمل النفقات، وكانت ترغب في الإنفاق من أجل الحصول على أخبار مهمة. وفي إحدى المرات أمضيت أسابيع في أميركا لمتابعة قصة فساد كبرى. وفي النهاية، على الرغم من أنني أنفقت أموالا طائلة على السفر ونفقاته، لم تنجح القصة، ولم ينشر عنها شيء».

ومن أهم الخبطات الصحافية يقول «كان واحدا من أهم الأخبار التي سعيت وراءها يدور حول جاسوس بريطاني يدعى ديفيد شايلر. وكان يعمل لصالح جهاز الاستخبارات البريطانية، وقرر أنه يريد أن يروي قصته. وكان ذلك قبل أن تقرر صحيفة «الصنداي تايمز» نشر الخبر. وكان على شايلر أن يترك البلاد ويذهب للحياة في فرنسا. وألقي القبض عليه هناك، ثم أفرج عنه، وعاد أخيرا إلى إنجلترا، حيث أمضى فترة أخرى في السجن. واستغرق هذا الموضوع وحده نحو عامين من وقتي. وكنت أعمل بدوام كامل تقريبا في هذا الموضوع فقط. وكانت التكلفة التي تحملتها الصحيفة كبيرة. وكان علينا أن ندفع مقابل الحصول على استشارة قانونية، وأيضا من أجل السفر. وخضعنا لرقابة حكومية في إحدى المرات، ونشرنا الصفحة الأولى فارغة، احتجاجا على هذا الإجراء. وبعد ذلك، ألفت كتابا يسمى «الدفاع عن عالم»، حول القصة كلها.

ليلة القبض على خالد شيخ محمد: ويفيد بقوله «بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) على أميركا، ركزت على الكتابة عن «القاعدة». وفي أحد أيام عام 2002، عندما كنت أعمل مع «الصنداي تايمز»، جاء إليَّ صديقي يسري فودة، وهو صحافي يعمل في مكتب «الجزيرة» في لندن. وقال لي يسري إن لديه قصة مذهلة، وسألني إنْ كنت أرغب في الاشتراك معه في تغطيتها». ويقول «كان يسري قد عاد لتوه من باكستان، حيث أجرى حوارا مع خالد شيخ محمد، ورمزي بن الشيبة، وهما اثنان من المخططين الأساسيين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول). وكان كلا الرجلين مختبئين في كراتشي، ولكنهما دعيا يسري لمقابلتهما سرا. وأخبراه، على وجه التحديد، كيف خططا لعملية اختطاف الطائرتين، بل وأظهرا له أدلة تدريب على الطائرات وخرائط استخدماها في التخطيط للهجمات. وفي طريق عودته إلى لندن، أراد يسري أن يرتب لتغطية سَبْقه الصحافي في صحيفة، بالإضافة إلى «الجزيرة». لذا، عملنا معا في القصة التي نشرت في الذكرى الأولى للهجمات. وبعد ذلك، ألفنا كتابا عن أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، تحت عنوان «العقول المدبرة للإرهاب». وقد استغرق الأمر منا ثلاثة أشهر فقط لتأليف الكتاب، الذي نشر في النهاية بسبع لغات مختلفة. وما زال ذلك الكتاب حتى الآن أكثر كتاب مفصل حول تخطيط هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وقبل نشر الكتاب مباشرة، تم اعتقال رمزي بن الشيبة في كراتشي. واعتقل خالد شيخ محمد بعد ذلك بعدة أشهر. وهما الآن في المعتقل الأميركي في غوانتانامو.

ومن البحث الميداني في عالم الصحافة إلى حافة الخطر بمهنة المتاعب، يقول «جاءت أخبار أخرى بعد ذلك، وخططت للحصول على سبعة جوازات سفر مزيفة من سبع دول مختلفة، وهي إسرائيل، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والنرويج، وهولندا، والدنمارك. وكانت جميعها تحمل صوري، ولكن كان كل منها يحمل اسما مختلفا. واستخدمت واحدا منها لدخول المملكة المتحدة. ولم يتم إيقافي، على الرغم من أن موظف الهجرة أخذ جواز السفر المزيف من يدي، وفحصه، ثم أعطاه لي مرة أخرى».

هجرة الإعلانات: ويقول «لكن على مدار الأعوام القليلة الماضية، بدأت صناعة الصحف في التغيير. وبدأت الإعلانات تهاجر من الصحف إلى الإنترنت. ولم تعد الصحف تملك فريق العمل، أو المال الكافي لتمويل التحقيقات الكبرى. وأصبحت الصحف أصغر حجما، وأقل عددا وأهمية. وتوقفت عشرات من الصحف بالفعل عن الصدور، وسيفعل العديد من الصحف الأخرى ذلك في المستقبل القريب. وتعاني الصناعة من تناقص شديد. وعندما يحدث ذلك، مَنْ سيتابع أخبار حكوماتنا ومؤسساتنا؟، مَنْ سينظر إلى الجوانب المظلمة في مجتمعنا؟، مَنْ سيحاسب السياسيين والمسؤولين؟. تبدو الإجابة على تلك الأسئلة غير واضحة على الإطلاق. على الإنترنت يمكنك أن تجد العديد من الحقائق والأرقام المثيرة للاهتمام، ولكن، لسوء الحظ، لن تجد الكثير من التحقيقات الكبرى. ولا يوجد حتى الآن من اكتشف كيفية تمويلها. لقد اعتدنا الاعتماد على صحفنا في مراقبة مؤسساتنا الديمقراطية عن كثب. ويمكنني أن أقول بشيء من التأكيد إن هذا النظام نجح على مدار أعوام عديدة، ولكن بالنسبة إلى المستقبل، فأنا غير متأكد».

ويقول «اليوم لم أعد أعمل فقط لصالح الصحف البريطانية التي تنقلت فيها. فأنا صحافي حر، وعليّ حاليا أن أكتب لإصدارات مختلفة. وأكتب أيضا مدونة عن أفغانستان، وهي تسمح لي بكتابة أشياء لم تكن لتظهر مطلقا في وسائل الإعلام. ومن المؤكد أن هناك نقاطا جيدة في وسائل الإعلام الحديثة، ولكنني أظل متشككا في قدرة شبكة الإنترنت على أن تحل محل الصحف، كمصدر للأخبار والمعلومات».