صحافة الجريمة.. وفوضى انهيار صناعة الصحف الأميركية

رواية «الفزّاعة» لمايكل كونيلي كادت تسقط ضحية لبعض تقلباتها

مايكل كونيلي («واشنطن بوست»)
TT

رواية مايكل كونيلي المثيرة الجديدة تتناول الفوضى التي عصفت بصناعة الصحف وكادت تسقط ضحية لبعض تقلباتها.

عندما قرر مايكل كونيلي الشروع في تأليف روايته الـ20 عن الجريمة، بعنوان «الفزّاعة» (ذي سكيركرو)، في خضمّ حالة الانهيار التي أصابت صناعة الصحف الأميركية، لم يدُر بخلده حجم الحزن الذي سيُمنى به.

لقد تعرف المراسل السابق لصحيفتي «ساوث فلوريدا صن سنتينيل» السابقة و«لوس أنجليس تايمز» عن قرب على مشاعر المرارة والأسى التي تسود صناعة الصحف هذه الأيام. وشاهد أصدقاء له يُطردون من وظائفهم في إطار إجراءات «تقليص قوة العمل» داخل صالات التحرير المنكوبة. وحينها أدرك كونيلي أن بإمكانه نسج خيوط رواية حول المراسل جاك مكفوي ـ بطل الرواية التي نشرها عام 1996، «الشاعر» (ذي بويت) ـ بحيث تدور حول رغبته في تناول قصة جريمة قتل كبرى قبل أن يرحل عن مقر عمله إلى الأبد.

أما الأمر الذي لم يكن كونيلي مدركا له فهو أنه سيضطر إلى استعادة روايته مجددا من الناشر، ليس مرة واحدة فحسب وإنما مرتين، نظرا إلى تغير الأحداث على أرض الواقع بما يؤثر على زاوية تناوله لقضية انهيار الصحف.

وجاء أول تعارض بين أحداث الواقع وأحداث الرواية في أواخر الخريف الماضي، بعد أيام قلائل من تسليمه نص الرواية إلى الناشر. في رواية «الشاعر»، يعمل مكفوي لدى صحيفة «روكي ماونتن نيوز»، لكن في رواية «الفزّاعة»، انتقل إلى «لوس أنجليس تايمز». في 8 ديسمبر (كانون الأول)، تقدمت الشركة المالكة لـ«لوس أنجليس تايمز»، «تريبيون كو»، بطلب للحماية في ظل الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس. وعليه، بات من الضروري تعديل أحداث الرواية.

أما الحدث الثاني، فجاء نهاية فبراير (شباط)، وهو وقت كان متأخرا للغاية بالنسبة إلى كونيلي. في ذلك الوقت كان كونيلي في فلوريدا، حيث يقيم حاليا، عندما بعثت إليه شقيقته رسالة نصية من كولورادو تخبره أن صحيفة «مكفوي» القديمة أغلقت أبوابها.

من جهته، قال كونيلي إنه مثل غالبية العاملين في «روكي ماونتن نيوز»، افترض أن الصحيفة ستكون قائمة عند وقت نشر روايته. وكان قد كتب مشهدا يصور «مكفوي» بعد تسريحه من عمله في «لوس أنجليس تايمز»، ويعرض عليه رئيس تحرير «روكي ماونتن نيوز» المتعاطف معه العودة إلى عمله القديم.

بعد التطور الأخير، أجرى كونيلي اتصالا هاتفيا بالمحرر الذي يتعامل معه داخل دار نشر «ليتل براون آند كمباني». وعلم أن روايته «الفزّاعة» تم احتجازها وعلى وشك النشر. وكان عليه كتابة تعديلاته في تلك الليلة وقصرها على صفحة واحدة. وطبقا للنسخة المعدلة، فإنه بدلا من تلقي عرض بالعمل، يحصل مكفوي على رسالة محبطة على جهاز الرد الآلي الخاص به، يخطره خلالها صوت زميل له في «روكي ماونتن نيوز» فقد عمله حديثا بأنه «علي أن أخبرك الحقيقة. ليس هناك من أمل. إنني على وشك الاستعداد للعمل في مجال بيع السيارات، لكن جميع تجار السيارات يجابهون ظروفا عصيبة أيضا».

لقد كان الوقت مخيفا، حيث كان من المقرر أن لا يتم طرح الرواية في الأسواق قبل شهرين ونصف الشهر. ولو نفذت «نيويورك تايمز كو»، على سبيل المثال، تهديدها الذي أطلقته في أبريل (نيسان) بوقف الدعم المادي عن «بوسطن غلوب» ـ وهو سيناريو كارثي لم يغب عن ذهن مكفوي ـ فإنه لن يكون باستطاعة الروائي فعل أي شيء حينها.

يبلغ كونيلي من العمر حاليا 52 عاما وقد بدأ الشيب يزحف على شعره، لكنه ما زال يبدي ميلا أكبر تجاه الملابس المريحة. والواضح أنه لا يزال يبدو على نفس درجة النشاط التي تميز بها داخل صالة التحرير منذ 14 عاما ماضية.

لكن من الصعب التعرف، في ما وراء هذا المظهر المبالغ في حيويته وشبابه، على حقيقة الكاتب الذي نظر منذ البداية إلى الصحافة كخطوة تعينه على الوصول إلى هدف أكبر.

وُلد كونيلي في فيلادلفيا، لكنه انتقل إلى فلوريدا في سن الحادية عشرة، ويعتبر فورت لودرديل بلدته الأصلية. وبعد خمس سنوات، في أثناء قيادته سيارته في طريق العودة من عمله في غسل الصحون في ساعة متأخرة من الليل، دخل كونيلي في مواجهة خاطفة من جريمة غيرت مجرى حياته.

في مقدمة كتابه «ضربات الجريمة»، وهو عبارة عن تجميع لعدد من القصص الصحافية، تساءل كونيلي: «ماذا كان سيحدث لو لم أغلق زجاج نافذة سيارتي تلك الليلة عندما كنت في السادسة عشرة من عمري؟»، من يدري؟ ربما كان سيحذو حذو والده بالعمل في مجال التشييد والبناء.

عندما كان في السيارة، نظر كونيلي إلى الخارج وشاهد رجلا ذا لحية يرتدي حذاء عالي الرقبة «يعدو بأقصى سرعة باتجاه الشاطئ». خلع الرجل قميصه ولفه حول «شيء كان يقبض عليه بيديه» ودس الشيء في سياج من الشجيرات.

وتوقف كونيلي وسحب الحزمة الملفوفة وعثر بداخلها على بندقية.

وسرعان ما أخبر مخبرين شرطيين بالأمر. في وقت لاحق من تلك الليلة، ألقت الشرطة القبض على عدد من المشتبه بهم، وطلبت منه التعرف على الشخص الذي كان يعدو. لكنه عجز عن ذلك، ولم تتمكن الشرطة من إلقاء القبض على هذا الشخص، ما أثار ضيق مسؤولي الشرطة. إلا أن كونيلي كان قد ارتبط بالفعل بهذا المجال.

وعليه، شرع كونيلي في قراءة الصحف، ثم كتب تتناول جرائم حقيقية، ثم روايات عن الجريمة. وعلق على الأمر بقوله: «عشت داخل هذا العالم الخيالي الغريب حيث أصبحت مثل هؤلاء الضباط الذين قضيت الليل معهم». عندما كان يدرس في جامعة فلوريدا، وقع كونيلي في غرام فيلم «الوداع الطويل» (ذي لونغ غودباي) للمخرج روبرت ألتمان، وشرع في قراءة كتب رايموند تشاندلر.

وأخيرا، أخبر كونيلي والديه، وقد تملكه بعض الخوف، أنه سيترك دراسته لهندسة المعمار من أجل التفرغ لكتابة أعمال روائية عن الجريمة، الأمر الذي وصفه بأنه «ليس أمامه سوى فرصة ضئيلة للنجاح على أفضل تقدير».

أما رد الفعل فكان «واحدة من أكبر المفاجآت التي قابلتها في حياتي»، حسبما أكد كونيلي، حيث اكتشف أن والده كان يحلم بأن يصبح رسّاما، والتحق بمعهد فيلادلفيا للفنون، لكنه اضطُرّ إلى تغيير مسار حياته المهنية كي يتمكن من عول أسرته. وكان السؤال الوحيد الذي طرحه والده عمليا، وهو «كيف تستعد لخوض هذه المهنة؟»، وقد طرح بنفسه الإجابة على السؤال بقوله: «لماذا لا تعمل مراسلا صحافيا وتمر عبر بوابة الصحافة؟». وبدا اقتراحه خطة جيدة.

بعد التخرج عمل كونيلي لمدة عام لدى «دايتونا بيتش نيوز جورنال»، ثم انتقل إلى «ساوث فلوريدا صن سنتينيل»، حيث تناول عددا من الجرائم معتمدا على عناوين مثل: «جرائم البريد» و«بيلي اللص» و«جريمة قتل في لودرديل»...

من جهته، قال سكوت أندرسون، أحد أصدقاء كونيلي القدامى، وكان زميلا له في أثناء عمله مراسلا لـ«ساوث فلوريدا صن سنتينيل»، متحدثا عن كونيلي: «إن الأمر الذي سرعان ما أدركه الناس بشأن مايك قدرته على الإلمام بالتفاصيل».

أما الأمر الذي لم يدركه الآخرون حينها فهو أن كونيلي كان يعكف على كتابة أعمال أدبية عن الجريمة على هامش عمله. في هذا الصدد، اعترف كونيلي: «ألفت كتابين دارت أحداثهما في فورت لودرديل، ولم يقرأهما سواي».

وفاز كونيلي بعقد مقابلات معه من جانب كل من «شيكاغو تريبيون» و«روكي ماونتن نيوز» و«لوس أنجليس تايمز» لكتابته قصة إخبارية صحافية حظيت باهتمام واسع. في عام 1988، انتقل للعمل لدى «لوس أنجليس تايمز»، وهي صحيفة تميزت بثرائها الشديد وقربها من القراء لدرجة أنها اشتهرت باسم «التابوت المخملي». وبمجرد التحاق شخص بالعمل هناك، يسود الاعتقاد بأنه سيبقى بها ما تبقى من عمره.

بعد قضاءه ست سنوات ونصف في كتابة قصص صحافية إخبارية تدور في معظمها حول الجريمة ـ مثل «الموت بالموت» و«مقتل زوجة ينهي الحياة المزدوجة لرجل» و«من أطلق الرصاص على فيك ويس؟» ـ كان كونيلي نشر ثلاث روايات وانتهى من كتابة الرابعة، يقوم بدور البطولة فيها مخبر بشرطة لوس أنجليس، يدعى هيرونيمس هاري بوش.

والآن، بدأ الاعتقاد يساوره بأنه لم يعد بحاجة إلى مهنة الصحافة. لكنه لم يتخذ قرارا نهائيا بهذا الشأن، ذلك أنه رغم إحراز سلسلة القصص الدائرة حول البطل بوش نجاحا في أوساط النقاد، فإنها لم تحقق مبيعات كبرى. كما انتابت كونيلي مشاعر متضاربة حيال قطع صلته بمجال الصحافة.

في هذا السياق قال كونيلي: «ربما قضيت عامين إضافيين بمهنة الصحافة عن الوقت اللازم. راودني الاعتقاد بأن عملي الصحافي يمنحني القدرة على الوصول إلى ما أحتاجه من أجل الكتب التي أقوم بتأليفها. لكن كنت أعي أيضا أنني أشكل جزءا من كيان جيد للغاية. كنت جزءا من صحيفة يمكنك الشعور بالفخر بها كل يوم».

بعد بضعة أسابيع من رحيل كونيلي عن «لوس أنجليس تايمز»، ضرب زلزال مروّع الصحيفة، وشعر بالدهشة من أنه لم يسارع إلى سيارته كي يكتب تقريرا صحافيا عن الأمر. افتقد كونيلي أصدقاءه داخل صالة التحرير، بل ومستوى الضوضاء الذي كان محيطا به هناك. ووجد نفسه يمارس الكتابة بينما نوافذ غرفته مفتوحة من أجل السماح بدخول ضوضاء الطريق السريع إليها.

ولكن بحلول وقت تفجر أنباء قضية «أو جيه سيمبسون»، وذلك بعد خمسة شهور، كان كونيلي قد مضى قدما في حياته الجديدة.

وعندما أدار جهاز التلفزيون وشاهد مراسل «لوس أنجليس تايمز» الذي حل محله بين الحشد المجتمع خارج منزل سيمبسون، كان رد فعله على النحو التالي: «كان يمكن أن أكون أنا بهذا الموقف. أنا سعيد بأن ذلك لم يحدث».

في الوقت الحاضر، لا بد وأنه سعيد بعدم بقائه في الصحيفة ليلقى مصير جاك مكفوي، الذي ـ حسب بداية رواية «الفزّاعة» ـ يتم إخطاره بأن أمامه أسبوعين لتدريب بديل له أصغر سنا وأقل راتبا قبل أن يتم الاستغناء عنه.

يحمل بديل مكفوي اسم «أنجيلا كوك». ووصفها كونيلي بأنها «كانت ما يصفه البعض بالتعويذة، فهي صحافية كثيرة الحركة قادرة على نقل أي معلومات من الميدان بذكاء عبر أي وسيلة إلكترونية».

رغم أن كوك لا تتسم بالغباء أو التهرب من مسؤولياتها، فإنها «ساذجة تماما». ومن الصعب تحديد كمّ القصص الإخبارية التي ستفقدها بسبب افتقارها إلى مصادر موثوق بها، والخبرة اللازمة للتعرف على اللحظات التي تكذب خلالها المصادر الموثوق بها.

تقع كوك في مواجهة شخص شرير يستغل شبكة الإنترنت في تعقب الأفراد واستهدافهم، ما يضعها في مأزق حقيقي.

بصورة عامة، أوضح كونيلي أن شخصية مكفوي كان من السهل كتابتها، وذلك «لأنني كنت أكتب عن نفسي».

وشرح كونيلي أن التشابه بينه وبين الشخصية الخيالية لا ينطلق من التشابه في خلفيتهما، ذلك أن ماضي مكفوي أكثر ظلاما عن ماضي مؤلفه. لكن عندما يكتب كونيلي عن شخصية مثل بوش، المخبر المعنيّ بالتحقيق في جرائم القتل، دائما ما يتعين عليه التوقف والتساؤل: «ما الذي ينبغي أن يفعله هذا الرجل هنا؟ في المقابل، في ما يتعلق بروايتَي «الشاعر» و«الفزّاعة»، وجدت نفسي أكتب ما كنت سأفعله وما كنت سأقوله وما كنت سأفكر به. وتُعتبر هاتان الروايتان أسرع كتابين ألفتهما».

يُذكر أن كتابة «الشاعر»، استغرقت ثلاثة شهور، بينما استغرقت كتابة «الفزّاعة» ستة شهور، لكن طول هذه المدة يرجع فقط إلى اضطرار كونيلي إلى العودة إلى الرواية مجددا وتحديث الجو العام بها.

قدم كونيلي النسخة الأولى من الرواية إلى عدد من أصدقائه لتدقيقه، بينهم أندرسون زميله القديم في «ساوث فلوريدا صن سنتينيل»، الذي كان من أوائل العناصر الصحافية التي تكيفت مع الصحافة على شبكة الإنترنت. كان أندرسون قد انتقل إلى شيكاغو وخسر وظيفته بشركة «تريبيون كو»، بعد 27 عاما قضاها بها.

وعلق أندرسون على رواية كونيلي الأخيرة بقوله: «بعثت إليه ملحوظة تقول: قصة رائعة وقراءتها ممتعة، لكنها توحي بأنه مر بعض الوقت منذ آخر مرة عملت فيها داخل صالة تحرير».

من بين الأمثلة التي أوردها أندرسون: مَن المراسل الصحافي المعاصر الذي يحضر مؤتمرا صحافيا تعقده الشرطة ثم يتجه إلى صالة التحرير لإجراء محادثات هاتفية ووضع قصة صحافية من أجل عدد اليوم التالي من الصحيفة؟

الأقرب إلى الواقع أن يستكشف المراسل المعلومات الواردة على شبكة الإنترنت في أثناء حضوره المؤتمر الصحافي ـ مثلما فعلت كوك في النسخة المعدلة من «الفزّاعة» ـ ولن يكون لديه وقت للتأكد من الرؤية التي طرحها مسؤولو الشرطة التي لا ترمي إلا إلى خدمة أهدافهم.

من العسير القول كيف تحسم رواية «الفزّاعة» الصراع بين الجيل الجديد من المراسلين والحرس القديم. بفضل أنجيلا كوك، يحصل جاك مكفوي على فرصة أخيرة للانضمام مجددا إلى فريق العمل بالصحيفة، لكن عليك قراءة الرواية للتعرف ما إذا كان قد استغلها أم لا.

بالنسبة إلى كونيلي، فإنه لا ينظر إلى الوراء. وتأتي روايته الجديدة على رأس أكثر الكتب مبيعا، ولا يزال يحظى بإشادة النقاد. على سبيل المثال، كتب جوناثان ياردلي في «واشنطن بوست» أن كونيلي «يتمتع بمهارة هائلة في التسلية، واكتسب براعة كبيرة في إدراك المتطلبات والتوقعات المتعلقة بنوع الروايات التي يكتبها، لكنه في بعض الأحيان يتفوق عليها أيضا».

لكن عليك أن لا تنتظر منه أن يحل قضية سفّاح يجوب الصحف الأميركية، حيث قال كونيلي: «عندما أكتب رواية مثيرة، لا أفكر كروائي عليه إيجاد حلول».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»