الأزمة الاقتصادية العالمية تلقي بظلالها على المؤسسات الإعلامية اللبنانية

وزير الإعلام دعا إلى تنظيم المهن الإعلامية.. والاتفاق على شرعنة السلوك المهني في غياب الدور النقابي الفاعل

بدأت العديد من المؤسسات الإعلامية اللبنانية في خفض عدد العاملين لديها وفق ضوابط خاصة بكل مؤسسة (أ.ف.ب)
TT

دخلت وسائل الإعلام اللبنانية زمن «ترشيد النفقات» بعد توسع قل نظيره طوال الأشهر الماضية أثناء تغطية الانتخابات النيابية. السمة البارزة لهذا الزمن جاءت عبر الاستغناء عن خدمات العاملين في إحدى المؤسسات العريقة وبالجملة، وذلك عندما أعلنت صحيفة «النهار» عن صرف 80 شخصا بين إعلاميين وفنيين ومصورين وإداريين، بغية الحد من الهدر وتحديث فريق العمل، الذي يضم عددا كبيرا من كبار السن. وقد نفذ القرار بحق خمسين شخصا على أن تستكمل العملية في فترة مقبلة. بعد ذلك كان دور محطة (إم تي في) التي عاودت العمل في مارس (آذار) الماضي بعد توقيف قسري استمر لسنوات، وذلك بسبب تخلي مجموعة «روتانا» عن استئجار استوديوهات تعود إلى المؤسسة لقاء 500 ألف دولار شهريا، وانتقالها إلى القاهرة. فتم صرف 30 عاملا، كما تم اقتطاع رواتب 20 آخرين. إلا أن الحصة الكبرى من الصرف قد تكون للمؤسسة اللبنانية للإرسال (إل بي سي) مع شائعات عن صرف نحو 40 في المائة من العاملين لديها، بالإضافة إلى استمرار تعليق عدد من البرامج التي كانت قد توقفت خلال شهر رمضان المبارك. وفي حين يبدو تأثير قضية إقفال مكاتب (إل بي سي) في السعودية، إثر المشاكل التي وقعت على خلفية برنامج «أحمر... بالخط العريض»، هو الأبرز مع توقف الإعلانات السعودية عن المؤسسة، يتكرر الحديث عن قرارات صرف بحق عدد كبير من الموظفين، من دون أن يتبلغ أحد بقرار صرفه.

وتشير مصادر مطلعة إلى أن مجموعة تقاطعات تتحكم بالوضع في مؤسسة (إل بي سي) التي تعد من كبريات المحطات اللبنانية والفضائية، وقد بدت ملامح هذه التقاطعات تظهر مع استقالة رؤساء أقسام منذ نحو العام، ولم يتم استبدالهم، ومع تفاقم المشاكل القضائية بين حزب «القوات اللبنانية» والمؤسسة، ومع عدم وضوح مدى نجاح عملية الدمج بين المؤسسة اللبنانية للإرسال و«روتانا». إلا أن أوساطا مطلعة في المؤسسة أوضحت لـ«الشرق الأوسط» أن «لا صحة لكل ما يتردد بشأن عدم نجاح الدمج مع روتانا، لأن العكس هو الصحيح. واعتبرت أنه من الطبيعي أن يصار إلى تجديد الجسم الإعلامي في المؤسسة وإعادة تقويم الإنتاج، فهذا عمل صحي وطبيعي». ونفت المصادر أن «تكون الإعلانات السعودية قد توقفت، لتشير إلى أن التداول الإعلامي بشأن المحطة غاص في تفاصيل كثيرة لا وجود لها».

وفي حين كانت قد ترددت بعض الأخبار عن خطة للتقشف في تلفزيون «المستقبل» نفى أكثر من مصدر مطلع هذه الأخبار جملة وتفصيلا.

الناشر مالك مروة، وخلال اجتماع لمؤسسة «سكايز» للدفاع عن الحريات الإعلامية، حذر من أن ما يحصل لا يقتصر على أزمة عابرة. وأشار إلى أن «الإعلام اللبناني في خطر، إيراداته المنظورة وغير المنظورة لم تعد متوفرة. والمطلوب تنظيم ورش عمل لمعالجة الموضوع».

وفي هذا الإطار يقول وزير الإعلام اللبناني طارق متري إن «الحوار هو السبيل الوحيد لاستباق مشكلة المؤسسات الإعلامية والتخفيف منها». ويذكر الوزير أن «القرارات التي اتخذتها بعض المؤسسات الإعلامية صعبة ومؤلمة، وإن كانت تبررها الظروف الاقتصادية». وإذ ذكّر بأن «هذه المؤسسات التزمت حقوق العاملين فيها وفق ما تنص عليه القوانين اللبنانية»، أبدى قلقه «لما تسببت به هذه الإجراءات التي ترتب على الجميع الابتعاد عن الإثارة أو الاستهانة أو الشماتة أو التهويل». وقال الوزير اللبناني «مسائل جدية كهذه يجب أن تشكل دعوة إلى التشاور الواسع في مسألة تنظيم المهن الإعلامية وتوفير الأمان الاجتماعي للإعلاميين والمسارعة إلى الاتفاق على شرعنة للسلوك المهني تشمل كيفية التعامل بين المؤسسات ومتخذي القرارات فيها وبين الإعلاميين. هذا ما يوجد في كل بلاد العالم، حيث بالإضافة إلى القوانين هناك شرعنة للشراكة تخفف آثار القرارات وتستدرك الضرر الناجم عنها».

وأشار متري إلى أن «نقابتي الصحافة والمحررين لم تعودا تكفيان متطلبات قطاعات الإعلام بحسب تكوينهما، فحاجات المهن الإعلامية أصبحت تحتاج إلى تنظيم من نوع آخر وإلى رعاية تضمن الأمان الاجتماعي للصحافيين، لذا كان ندائي المتكرر للعمل على إصدار قانون للمهن الإعلامية». وشدد الوزير على أن «المعالجات تتجاوز الصعوبات الاقتصادية إلى المشكلات البنيوية التي تكشف عنها هذه الصعوبات، على أن يكون ذلك في إطار حرص دائم على حرية وسائل الإعلام ووسائلها والعاملين فيها، وذلك للحفاظ عن نوع من الريادة اللبنانية في قطاع الإعلام».

ويقول غسان حجار، مدير تحرير صحيفة «النهار» لـ«الشرق الأوسط»: «منذ عام 2004 كان هناك بحث في إعادة هيكلة المؤسسة وتحديثها وتجديدها. لذا نظمت ورش تدريب لفريق العمل. ولم يتمكن الكبار في السن من مواكبة التطور المطلوب. بعد ذلك تم الاتصال بشركة استشارات عالمية هي «بوز اند هملتون» التي أرسلت اختصاصيين لدراسة أوضاع المؤسسة وهيكلتها وكفاءاتها وإنتاج العاملين. وقابل هؤلاء الاختصاصيون الصحافيين والإداريين والفنيين ووضعوا تقريرهم وتوصياتهم بوقف الهدر عبر صرف 80 من أصل 330 شخصا يشكلون الفائض في الصحيفة».

وأضاف حجار «مجلس الإدارة وافق على الدراسة وتم الطلب من رؤساء الأقسام تحديد الفائض لديهم ليصار إلى تخفيض 15 في المائة من قيمة الموازنة. وبالتالي الجميع اطلع على واقع الحال منذ مطلع العام الحالي».

ويوضح حجار أن «عدة عوامل اعتمدت لتحديد من سيتم الاستغناء عن خدماته، منها عامل العمر والإنتاجية ووجود مصادر دخل أخرى». ويشير إلى أن «أسباب العجز في المؤسسة، إضافة إلى الفائض من العاملين، تعود إلى أننا محكومون بالسوق الإعلامية، فرفع قيمة رأس المال لا يمكن أن يتم كل عام. نحن مرغمون على مراعاة الوضع الاقتصادي وبالتالي إعادة تقويم الأداء مع تراجع مبيعات الصحف وتراجع الإعلانات جراء الأزمة الاقتصادية العالمية». ويضيف: «كل المؤسسات في العالم تعيد النظر في هيكليتها لتضمن استمراريتها وتضطر إلى الاستغناء عن خدمات بعض العاملين. وغالبا ما تكون قراراتها مؤلمة، لكن لا بد من اتخاذها. ومن حق المتضررين أن يعترضوا وأن يدخلوا في مواجهات أو يذهبوا إلى القضاء المختص، لكن في النهاية هناك قانون يحسم الأمور. ولا لزوم لافتعال ضجة لا مبرر لها، لا سيما أننا كمؤسسة أعطينا المصروفين حقوقهم بالكامل ولم نعمد إلى الصرف التعسفي. كما أننا كصحف لو وجدنا من يدعمنا ربما كنا استغنينا عن هذا الإجراء المؤلم لنا قبل غيرنا». الكاتب والروائي الياس خوري الذي كان يتولى رئاسة تحرير ملحق «النهار» الثقافي والذي كان من عداد المصروفين، تحدث عن آلية الصرف عبر تسليم «رسائل الطرد إلى المطرودين» عند مدخل مبنى الصحيفة. وقال: «قبل ذلك لم يتحدث أحد إلى الصحافيين ويبلغهم أن هناك أزمة. وهذه إهانة للمؤسسة التي نفتخر أنها تدافع عن الديمقراطية. إلا أنهم مارسوا أسلوبا بوليسيا. وهي طريقة مستنكرة». ويضيف «أحد الزملاء وصل إلى الصحيفة بعد ربع ساعة من تسليم عامل البريد رسائل الصرف، وعمل يومين متتاليين ليقرأ في اليوم الثالث أنه مصروف من العمل في خبر نشرته إحدى الصحف. هناك إذلال وإهانة لكرامة الصحافيين وكرامة المهنة. لا أحد منا اطلع على تقرير مؤسسة بوز اند هملتون. ربما لو دعت الإدارة إلى اجتماع وناقشت معنا الأمر لتوصلنا إلى أن الهدر لا يقتصر فقط على العاملين. قالوا إن هناك معايير اعتمدت للصرف إلا أنهم تجاوزوها. لذا مطلبنا الأول يتعلق بالكرامة. نحن نطالب الصحيفة بالاعتذار عن طريقة الصرف لأن بعض المصروفين هم شركاء فيها ويعملون منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولا يجوز صرفهم في الشارع كما حصل. أما المطلب الثاني فموجه إلى نقابة المحررين التي تعجز عن اتخاذ موقف يحمي حقوقنا كصحافيين. وهذا هو لب الموضوع. فالصحافي الذي يصنع الخبر لا يجد من يتولى قضيته عندما يصبح هو الخبر». وأشار خوري إلى أن المؤسسات الإعلامية في لبنان هي مؤسسات خاصة، وذكّر بأن الصحافة هي شأن عام وقضية الصحافيين تبقى جوهرية.

عضو نقابة المحررين الإعلامي طانيوس قال لـ«الشرق الأوسط»: «النقابة مقصرة، وكذلك المؤسسات الإعلامية. ولا يكفي أن يقال إنه تم تطبيق القانون. هذا القانون لا يوفر إلا الحد الأدنى وهو جائر. لا حماية للجسم الإعلامي في لبنان. النقابة مقصرة ولا تضطلع بدور يحمي الإعلاميين. المطلوب إقرار عقد جماعي يؤمن هذه الحماية. ولا يكفي أن يصدر بيان لا يتضمن موقفا واضحا عندما تصرف المؤسسة الإعلامية عددا من العاملين فيها لأنها تشكو من أزمة اقتصادية. يجب البحث عن معالجات، إذ لا يحق لأحد التحكم بحياة البشر في البقاء في أعمالهم من دون إعطاء مهل لهم أو من دون دعوتهم إلى نقاش مفتوح بشأن الحلول المقترحة. قد يمكن تدارك الأمور بإعادة جدولة الرواتب واقتطاع نسبة منها وليس من خلال الصرف والتهديد بالصرف لعلاج الأزمة. فهؤلاء المصروفون لديهم التزامات على أساس رواتبهم. ماذا يفعلون بهذا الشأن؟ صحيح أن قطاع الإعلام هو من أولى ضحايا الأزمة الاقتصادية، فقد ألغيت موازنات أو تم اقتطاع نسبة كبيرة منها. وصحيح أن سوق الإعلانات توقف، ولكن لماذا يدفع الإعلامي الثمن وليس صاحب العمل؟».

هذا وكانت نقابة المحررين في لبنان قد ذكرت بأنها «دعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تساعد المؤسسات الصحافية والإعلامية على مواجهة الأعباء المتزايدة التي تجعل استمرارها في العمل أمرا مستحيلا من دون هذه المساعدة، لكنها لم تلق أي تجاوب». كما أوضحت أن «صرف الصحافيين هو انعكاس لأزمة مالية حقيقية تواجهها الصحافة اللبنانية وسائر القطاعات الإعلامية بفعل الأزمة المالية العالمية، وشح الموارد الإعلانية». وأشار بيان النقابة إلى أنها «كانت قد دعت إلى إقرار عقد عمل جماعي بين أصحاب الصحف والمحررين العاملين فيها». وهي تجدد الدعوة إلى «جولة مفاوضات بين الطرفين من أجل تثبيت هذا العقد الذي ينظم العلاقة بين طرفي العمل، وذلك ضمانا لحقوق الجميع».