رادونغيتش.. برلسكوني البلقان

الزعيم القادم من رحم الإعلام يعتقد أن الاقتصاد طوق النجاة لنهوض بلاده

فخر الدين رادونغيتش («الشرق الأوسط»)
TT

ساد اعتقاد حتى وقت قريب، مفاده أن منطقة البلقان خصوصا ولا سيما دول يوغسلافيا السابقة، لم تنجب بعدُ شخصية فذة مثل الراحل علي عزت بيغوفيتش، الذي كان يبحث عن المشترك في زمن يبحث فيه الكثيرون عن المختلف حوله.

في الأجواء الممزوجة بالحزن على ما كان يجري في البوسنة، والإعجاب بأفكار رئيسها الراحل، وصل إلى سراييفو صحافي ناجح، يُدعى فخر الدين رادونغيتش (من مواليد 24 مايو 1957) قادما من بوتغوريتسا، ما لبث أن أصبح حديث الإعلام وقطب الاقتصاد ووجه السياسة الجديد.

بدأ رادونغيتش العمل صحافيا وهو في التاسعة عشرة، وأصبح أصغر رئيس تحرير وعمره 23 عاما. لكن وصول الرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوشيفيتش، للسلطة في بلغراد في ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم اعتماد سياسة طائفية في دولة متعددة الثقافات والإثنيات، قلب له ظهر المجن، وأصبح النجاح كابوسا سرعان ما تحول إلى ما يشبه المأساة، فقد طرد رادونغيتش من عمله عاما 1988 وخضع للمتابعة القضائية، لمناهضته سياسة ميلوشيفيتش، التي لا تزال توصف بالفاشية.

وقبل وصوله إلى البوسنة عمل صحافيا في صحيفة «داناس» الكرواتية. وفي 1990 أصدر كتابه «10 آلاف يوم سجن» أيّد فيه استقلال كوسوفو، حيث كان صديقا حميما للزعيم الألباني الراحل إبراهيم روغوفا وعدد من السياسيين والمثقفين الألبان. وأثار الكتاب ضجة في المنطقة ولا سيما في بلغراد وبيتغوريسا، وذلك على الصعيد السياسي والإعلامي. كما أصدر سلسلة مقالات لدعم استقلال وسيادة البوسنة والجبل الأسود.

لكن درب النجاح العملي، أو المرحلة الحاسمة في حياة رادونغيتش، بدأت عندما أسس صحيفة «دنفيني أفاز» بدعم مادي ومعنوي من الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش.

وفي أثناء الحرب كان رادونغيتش عضوا في الجيش البوسني، فأسس دار «أفاز» عام 1995، وهي تصدر عددا من المطبوعات المتخصصة الناجحة مثل «عزرا» وهي نسائية، ومجلة «غلوبال» وتُعنى بالشأن السياسي والفكري، و«إكسبريس» وهي فنية متنوعة، و«سبورت» وهي رياضية كما يدل على ذلك عنوانها، وعشرات المطبوعات الأخرى المتخصصة. كما يملك قناة تلفزيونية هي قناة منوعات في معظم برامجها أطلق عليها اسم «ألفا».

هذا النجاح الإعلامي والمكاسب الكبيرة أدخلت فخر الدين عالم الأعمال من بابه الكبير، وفي عام 2000 أقام أول مشروعاته المعمارية الكبرى، واتخذه مقرا للصحيفة ثم باعه لأحد البنوك. وبعد عامين بنى برج «رادون بلازا» الذي يضم فندقا من فئة 5 نجوم، ومرافق تجارية متعددة. وفي بداية 2009 افتتح برج «أفاز تويست تويير» الذي يتكون من 40 طابقا في قلب سراييفو، ويبلغ طوله 175 مترا، وفيه يقع مقر صحيفة «دنيفني أفاز»، مما يعني أن رادونغيتش يسعى لتسطير تاريخ جديد، وتدشين حقبة جديدة، على كل المستويات، بما في ذلك السياسية. فمنذ عشرات السنين ولا سيما منذ الاحتلال النمساوي الهنغاري للمنطقة، وحتى انهيار يوغسلافيا، لم يحقق البوسنيون نجاحا إعلاميا كما حققته «أفاز»، ولم يحققوا نجاحا اقتصاديا كما حققه رادونغيتش، ولم يحققوا نجاحا سياسيا كبيرا بعد رحيل علي عزت بيغوفيتش كالذي يسعى إليه رادونغيتش.

وقد تحدث رادونغيتش لـ«الشرق الأوسط» عن إنجازاته ومشروعاته وأفكاره، بعد أن أعلن في 24 سبتمبر (أيلول) الماضي، عن تكوين حزب سياسي أطلق عليه اسم «الاتحاد من أجل مستقبل أفضل للبوسنة» بعدها أطلق عليه الإعلام الإيطالي «برلسكوني البلقان»، وإن كان رادونغيتش لا يريد التعليق كثيرا على هذا الوصف، فما يجمعه ببرلسكوني يتمثل في أن كلا منهما «قَدِم للسياسة من عالم الإعلام والمال والأعمال». لكنه يؤكد أنه قام في فترة زمنية وجيزة لا تزيد عن 15 عاما بإنجاز ما يمكن وصفه بالمعجزة، وهو «أكبر إنجاز إعلامي في تاريخ البوشناق بالبلقان» وتسمى «دار أفاز»، ويُعتبر ذلك نتيجة لسمعته كأحد أكبر الصحافيين المعروفين في المنطقة.

ويشبّه رادونغيتش نفسه بـ«طبيب ناجح أقام عيادة خاصة»، ويصف نجاحاته الاقتصادية تبعا لذلك بأنها «أكبر فرصة للبوشناق للدخول في المنافسة الاقتصادية»، ويقدم الدليل على أنه حقق «إنجازا كبيرا على هذا الصعيد لصالحه وصالح شعبه». نجاحه الإعلامي، كما قال لـ«الشرق الأوسط»، تحقق بانتقاء أفضل الصحافيين والمراسلين: «جمعنا أفضل الصحافيين والمراسلين العاملين في الصحف الأخرى آنذاك، وكانت الانطلاقة كبيرة، واليوم نسيطر على 82% من مبيعات المطبوعات في الفيدرالية و68% على مستوى الدولة، وشعارنا المنافسة وفق أعلى المعايير، ومشروعاتنا المعمارية من أجمل التصاميم في أوروبا».

وعن ولوجه عالم السياسة، ومن ثم إطلاق لقب «برلسكوني البلقان» عليه، يشير رادونغيتش إلى أن أوضاع بلاده وشعوره بأن له القدرة على تقديم حلول أفضل هما دافعه لخوض غمار السياسة، إلى جانب وجود حالات مشابهة في دول أخرى دخل فيها رجال الأعمال دنيا البوليتيك: «في الكثير من الدول ومن بينها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية، نجد أن الكثير من الأغنياء يمارسون العمل السياسي ولكنهم قليلون جدا بالمقارنة مع رجال الأعمال الذين يريدون التمتع بممتلكاتهم ويعيشون غِناهم بعيدا عن صداع السياسة، ولكني أشعر بالمسؤولية تجاه بلدي وشعبي، ولا بد أن أعيش أتراحه كما أعيش أفراحه».

ويرى أنه بدأ مشروعاته الإعلامية والتجارية كبيرا، ويأمل في تحقيق النجاح سياسيا بنفس الحجم عند دخوله الاختبار في أكتوبر 2010، موعد الانتخابات البرلمانية: «خلال 7 أيام فقط من إعلاننا عن تكوين حزب سياسي، وصلتنا آلاف الطلبات للانضمام إلينا، وحتى من أعضاء وقيادات الأحزاب الأخرى، فمنذ رحيل علي عزت بيغوفيتش (رحمه الله)، لم يعرب مثل هذا العدد كما وكيفا عن رغبته في دخول حزب سياسي كما هو الحال مع حزبنا الجديد، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق عدنان تارزيتش».

أما مخاوف الزواج بين المال والسياسة فيعتبرها رادونغيتش، غير منطبقة عليه: «(أفاز) أكبر صحيفة، وتاريخنا يثبت أننا ضد الفساد واستغلال المناصب والجريمة، وليست لنا خصومات شخصية مع سياسيين دفعتنا لولوج ميدان السياسة، ولكن لدينا اعتراضات على من يريد بيع ثروتنا القومية بالجملة للأجانب، ومن ذلك يكون الانهيار».

ويرى رادونغيتش إن الإعلام له رسالة وصفها بالمعركة كما لو أن الإعلاميين نواب للشعب بالتطوع: «الإعلام يخوض معركة في الدول الديمقراطية، معركة من أجل التنمية، ومعركة التقدم، وهذا ما نقوم به»، مؤكدا على أن تكوينه لحزب سياسي كان قرارا شخصيا وبطلب من وطنيين ولا علاقة له بأي مشروعات خارجية: «منذ وفاة الرئيس الراحل علي عزت تقود البوسنة 3 أحزاب كبرى عبر تحالفات وتكتلات قادها «تيهيتش، وسيلاغيتش، لوجومجيا»، وخلال هذه السنوات الماضية، ظلت البوسنة واحدة من أفقر دولتين في أوربا بعد ألبانيا، وإذا استمروا 5 سنوات أخرى سننتهي كعامل سياسي مؤثر في البلاد التي قدمنا من أجل سيادتها 200 ألف شهيد».

ويدعو رادونغيتش لمكافحة لوبي عرقلة تقدم البوسنة، ولوبي منع جلب الاستثمارات من خلال القوانين السيئة، والحوافز الضعيفة مقارنة بالدول الأخرى، لأن التخلف والتقدم الاقتصادي من شأنه التأثير سلبا وإيجابا على مصير أي دولة: «بعض من يقود لا يعرف معنى التجارة ولا رأس المال، ولذلك لا بد من تغيير القوانين، وتغيير نظرة العالم إلى البوسنة بهذا الخصوص».

ويشترط رادونغيتش «إحداث نقلة اقتصادية في سباق البناء والتنمية لمساعدتنا على حل المشكلات الأخرى بدل الخلافات، وحتى تكون طريقتنا في المنافسة أجدى، لا طريقتنا في الخصومة».

ورادونغيتش خلاف الكثير من السياسيين الذين لا يتمتعون بعلاقات جيدة مع المشيخة الإسلامية أو يرغبون في تهميشها وإبقائها في الظل، فهو يعتبرها ركيزة للبقاء.

ويرى الوجه الإعلامي والاقتصادي وهو على أعتاب السياسة أن «مستقبل المسلمين في أوروبا يكمن في الحفاظ على الهوية الدينية والقومية، ونحن بقينا مسلمين هنا لمدة 600 عام لأنه لدينا مشيخة إسلامية قوية، وسندافع عن حق المشيخة الإسلامية في التعبير وفي أداء دورها الديني والوطني ولا نعيدها للوضع الذي كانت عليه في العهد الشيوعي».

وعندما يحيل رادونغيتش ما يختلف حوله بين الإثنيات إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كقوى ضامنة لاتفاقية دايتون، لا تخفى عليه الصراعات الداخلية في الاتحاد الأوروبي: «هناك قوى متعددة في الاتحاد الأوروبي لها مواقف مختلفة حيال البوسنة، والأمم المتحدة لا تقوم بدورها الذي كنا نأمله، في حين للولايات المتحدة موقف جيد ويجب أن نراهن على الولايات المتحدة كدولة لا كديمقراطيين وجمهوريين». كما يلوم رادونغيتش المجتمع الدولي على عدم جديته في حل قضايا البوسنة التي تحتاج إلى دعم المجتمع الدولي من أجل الاندماج في الشراكة الأوروأطلسية: «ضغطوا من أجل إقالة وزير الاستخبارات طارق صادوفيتش، ولم يضغطوا على رئيس الوزراء شبيريتش (صربي)» من أجل القبول بمن تم تعيينه خلفا للوزير السابق، لكني أعيد القول إن كلمتنا ستكون مسموعة عندما نكون أقوياء اقتصاديا».

بقي القول إن عوامل نجاح رادونغيتش على المستوى السياسي متوفرة بشكل يضمن له النجاح مستقبلا، ومن ذلك تاريخه المناهض لمشروع صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى، ودفاعه عن استقلال وسيادة البوسنة، وانخراطه في الجيش البوسني، وتأسيسه لإعلام وطني غير مُعادٍ للذات، وفي نفس الوقت يحارب الفساد والمحسوبية ويعتبر الحرية الإعلامية وحرية التعبير عموما أكبر ضامن للتنمية المستدامة وللاقتصاد المتعافي من الأزمات وأمراض تكدس المال في جهة والفقر في الجهة المقابلة.

وهو من المدافعين الأشداء على انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وكان له دور في توحيد الجيش، وتوحيد العملة، ومحاربة الفقر عن طريق توطين التنمية، ومحاربة الفساد، واستغلال النفوذ، وهو يعتبر ذلك أكبر خطر يتهدد الرغبة في مستقبل أفضل على درب التقدم والتنمية.