«تاتلر».. و300 عام من سرد الحكايات

مجلة القيل والقال التي أصبحت قاموسا اجتماعيا ترفض التعامل مع الإنترنت وتعتبره بدعة زائلة

مجلة «تاتلر» المتخصصة في أخبار المجتمع («تاتلر»)
TT

تحتفل مجلة «تاتلر» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بمرور 300 عام على تأسيسها. مدة زمنية تدعو للكثير من الإعجاب، لأنها نجحت فيما لم تنجح فيه العديد من المجلات المماثلة، التي تأسست على «القيل والقال» وأخبار المجتمع، وحازت على احترام معظم الطبقات الاجتماعية، إن لم نقل كلها. ومع ذلك فإن مسيرتها لم تكن دائما مفروشة بالورود، حيث تعرضت مرارا للإفلاس وهددت بالإغلاق، لكنها مثل طائر الفينيق تعود دائما للواجهة صامدة.

ومثلما يلتزم أي نبيل بريطاني عنيد بارتداء التويد، يبدو أن مجلة «تاتلر» قد قررت أن تتعامل مع الإنترنت باعتباره بدعة زائلة؛ فهي لا تنشر محتويات المجلة على الموقع الإلكتروني المختصر؛ فهي لا تنشر سوى بعض المواد المنشورة في الملحقات التي تتعلق بموضوعات مثل السفر، وجراحات التجميل، والتعليم الخاص. تقول باتريشيا ستيفنسون، مدير النشر بـ«تاتلر»: «أشعر بالضجر تجاه كل تلك الأعمال المتعلقة بالإنترنت. فالحصول على المجلة وحملها هو أمر رائع. أعتقد أن (تاتلر) سوف تستمر لـ300 عام أخرى».

وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من المجلات تشعر بأنها مهددة إلكترونيا، فهناك البعض الآخر الذي لا يبدو منزعجا على الإطلاق؛ مثل مجلة «تاتلر» دائمة الوجود على المناضد في غرف المعيشة في منازل المضاربين في البورصة في سري وغيرها من المناطق في جميع أنحاء العالم التي يختلط فيها الوارثون بالعصاميين.

الاحتفال الذي نظمته المجلة الأسبوع الماضي جاء بحجم تاريخها، فقد أقيم في «لانكستر هاوس» الذي يعتبر قصرا من القصور البريطانية بفخامة معمارها الجيورجي وديكوراتها وسلالمها الواسعة المطلية بالذهب، وبحضور لفيف من نجوم المجتمع والطبقة الارستقراطية ونجوم السينما والموسيقى والادب. ولم تكن فتاة غلاف عددها الأخير، سوى ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية في صورة تعود إلى عام 1966، تداخلت فيها تقنيات الكمبيوتر لتضيف العلم البريطاني فوقها من دون أن تغطيها بالكامل. ويعتبر هذا العدد الأكبر في تاريخها، بصفحاته الـ408، نحو 224 منها عبارة عن إعلانات.

وكما أن للغلاف رموزا كثيرة اهمها أن اسم «تاتلر» أصبح يرتبط ببريطانيا، تماما مثلما يرتبط بها اسم الملكة وقماش التويد، لا سيما إذا اخذنا بعين الاعتبار أن المجلة ليست لها نسخ بلغات أخرى، باستثناء نسخة روسية، وبالتالي كان عدد كبير من النخب الروسية وزوجاتهم أو أصدقائهم يتباهون بامتلاكهم للنسخة الأصلية من خلال حضورهم للأمسيات الاجتماعية في لندن. وقد وزع العدد الروسي نحو 70 ألف نسخة، فهو أيضا تحية للعائلة المالكة والطبقات الارستقراطية التي ألهمت صدورها منذ ثلاثة قرون وظلت تغذيها إلى اليوم.

فكرة المجلة كانت لاثنين من الصحافيين البريطانيين، هما جوزيف اديسون وريتشارد ستيل، وانبثقت في مقهى قريب جدا من «لانكستر هاوس» في عهد الملكة آن. فقد شعرا أن التوقيت موائم لإصدار مجلة تجمع بين الخبر الصحافي و«القيل والقال»، تدخل كل البيوت والمكاتب، لا سيما أن الأخبار الاجتماعية والسياسية كانت دسمة ومتوفرة آنذاك.

وسرعان ما تبوأت المجلة مكانة متميزة وغريبة، لأنه بالرغم من أن كل ما فيها يشير إلى أنها مجلة نسائية، فإنها أيضا جذبت ولا تزال شريحة كبيرة من الرجال ونساء من أجيال مختلفة. ويكمن سر جاذبيتها في خلطتها المتنوعة التي جعلتها بمثابة قاموس اجتماعي يغذي حاجة القراء إلى معرفة أخبار الآخر، خاصة من الطبقات المخملية: كيف يعيشون؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ وكيف يفرحون ويحزنون؟ وماذا يلبسون؟ وهلم جرا من الأمور التي تبدو سطحية، لكنها تثير الفضول وتزيد المبيعات، خصوصا أن «تاتلر» تناولتها بطريقة ذكية، فيها نوع من الاحترام البعيد عن الابتذال لهذه الطبقة مقارنة بمجلات أخرى تعتمد على النميمة والبريق أو الصحف الصفراء.

توالى على رئاسة تحرير مجلة «تاتلر» العديد من رؤساء التحرير، لسبب أو لآخر، لكن استراتيجيتها لم تتغير ولم تتأثر. وحتى تغيرات العصر لم تؤثر سوى على ملامحها وشكلها، بينما بقي المضمون على حاله، ووصل تشبثها بهذه الاستراتيجية إلى رفضها دخول عالم الإنترنت، احتذاء بالعديد من المجلات البراقة سواء الاجتماعية أو المتخصصة بالموضة، انطلاقا من قناعتها بأنها مجلة تقرأ على الورق للاستمتاع بها مع فنجان قهوة أو في رحلة سفر. وهذا ما يجعلها من المجلات الحاضرة دائما في مكاتب رجال وسيدات الأعمال، كما في قاعات انتظار الأطباء، خصوصا في المناطق الراقية.

والحقيقة أن بلوغ أي مجلة عمر 300 عام، يبدو للوهلة الأولى مهولا، لكنه رقم على الورق فحسب، لأن المجلة التي تأسست في عام 1709 على يدي ستيل وأديسون، توقفت بعد عامين فقط من صدورها ولم تظهر في الأسواق مرة ثانية إلا في عام 1901. لكن فكرتها ظلت حية طوال الوقت، كذلك اسمها، لأنها ألهمت صدور العديد من المجلات التي حملت اسمها «دي تاتلر» ما بين عامي 1711 و1901.

والطريف أن عدد مالكيها يقدر بـ50 مالكا، العديد منهم تعرض للإفلاس بسببها، ومع ذلك ظل اسمها مثل المغناطيس الذي يتوقف على جذب مالكين جدد، كما يقول نيكولاس كوليرديج، المدير الإداري لمجموعة «كوندي ناست» التي تملك المجلة. أما المجلة كما نعرفها اليوم، ببريقها وشهرتها العالمية، فقد تبلور شكلها وأهميتها العالمية في عام 1979 عندما تسلمت رئاسة تحريرها تينا براون، وهذا النجاح هو ما شجع مجموعة «كوندي ناست» على شرائها وضمها لعشرات المجلات التي تملكها، من ضمنها مجلة «فوغ».

ورغم أن المجموعة تتبع أخيرا سياسة تقشفية، شملت مقرها الرئيسي في نيويورك، بما في ذلك تقليص ميزانية «فوغ» الأميركية، مما أشعل فتيل التكهنات باحتمال الاستغناء عن عرابة الموضة نفسها أنا وينتور، إلى جانب تسريح بعض الموظفين وإغلاق 3 مجلات، إلا أن «تاتلر» لم تشملها هذه السياسة. فهي لم تكن يوما الدجاجة التي تبيض، لكنها حافظت دائما على نسبة معقولة من الإعلانات لم تتأثر بالأزمة العالمية. والفضل يعود إلى أنها تتوجه إلى شريحة معينة من القراء، مما يجعل المعلن مطمئنا على نفسه بين صفحاتها، مع العلم أن مبيعاتها لا تزيد على 90.000 نسخة في أحسن الأحوال. وهذا ما تحاول رئيسة تحريرها الجديدة كاثرين أوسلر، المحافظة عليها أو تغييره للأفضل.

كاثرين أوسلر، التي تسلمت مقاليد المجلة من جوردي كريغ، منذ بضعة أشهر فقط. وكان هذا الأخير قد انتقل إلى صحيفة «ذي إيفنينغ ستاندرد» بعد أن انتقلت ملكيتها إلى الملياردير الروسي ألكسندر واي. ليبيديف. ورغم أن المدة قصيرة جدا للحكم عليها، إلا أن المجلة في عهدها أصبحت تحتوي على مواد وتحقيقات إخبارية بالإضافة إلى تركيزها على صور الطبقات المخملية في الحفلات العامة والخاصة، فضلا عن قصص عن المشاهير والطبقات المالكة.

وتشرح كاثرين بقولها «صحيح أن محتوى المجلة يركز على الحياة الاجتماعية، لكن في الوقت ذاته تحاول أن تسلط الضوء على احداث المجتمع، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية» في دلالة واضحة على النهج الذي تريد السير عليه هو الجمع بين الجدية والبريق وإشباع الفضول في الوقت ذاته.

تجدر الإشارة إلى أن أوسلر لم تأت من خلفية صحافية في مجلة براقة بل من خلفية الصحف الإخبارية والسياسية. فقد كانت المحررة المشرفة على مجلة «إيفنينغ ستاندرد» (إي.إس) الأسبوعية التي توزع مع الصحيفة وتحظى باحترام كبير في السوق. وبهذا تكون فقط قد تبادلت الكراسي مع جورد كريغ، رئيس التحرير السابق لـ«تاتلر» الذي التحق بصحيفة «إيفنينغ ستاندرد». ومما لا شك فيه أن رئاسة تحرير مجلة عمرها 300 عام، من شأنه أن يثير الرعب بداخل أي صحافي، مهما كان متمكنا، وهذا ما عبرت عنه كاثرين بقولها إنها في الأسابيع الأولى من توليها رئاسة المجلة، واقتراب موعد ميلادها المديد، واختيار ملكة بريطانيا لتصدر غلافها، شعرت بثقل المسؤولية، لكنها سرعان ما شعرت بأن المهمة مقدور عليها، شريطة أن تحترم ثلاثة عناصر أساسية، وهي علاقة المجلة بالطبقة الارستقراطية إلى جانب الاهتمام بالترف والأخبار الاجتماعية الخاصة لشخصيات تحت الأضواء. فحسب رأيها، تختار المجلة منذ تأسيسها شخصيات بارزة لمواضيع أغلفتها، بمعنى أنها تكون في الحدث. ففي الثلاثينات مثلا لجأت المجلة إلى تالولا بانكهيد، النجمة السينمائية التي تنحدر من أسرة ثرية ومؤثرة سياسيا في الولايات المتحدة الأميركية، وفي الأربعينات استعانت بالنجمة فيفيان لي، وفي السنوات الأخيرة كل من العارضة ليز هيرلي والنجمة كيرا نايتلي إلى جانب أخريات. وتضيف أوسلر أن الملكة هي الوحيدة التي تكررت بشكل منتظم، منذ أن كانت طفلة صغيرة تلعب مع كلبها في حديقة القصر إلى اليوم.

عددها التاريخي، الصادر بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يتضمن صورة حميمة للملكة منذ طفولتها وزواجها إلى اليوم، بالإضافة إلى مقابلة مع رئيستها السابقة تينا براون التي تروي كيف أثرت الأميرة الراحلة دايانا على شكل المجلة في بداية الثمانينات. كما يشمل العدد مقابلة مع عمدة لندن، بوريس جونسون، الذي تماشيا مع روح المجلة لا يحكي عن سياسته اللندنية والتغييرات التي يحلم بتحقيقها، بل يحكي عن تجربته الخاصة ويجيب عن سؤال محدد، كما تقول أوسلر، وهو «هل تحب فعلا ما تقوم به؟».

نوعية المواضيع وطريقة تناولها وعرضها، تشير إلى أن أوسلر تحاول وضع لمساتها الخاصة عليها، وهو ما يظهر على شخصية المجلة حاليا وجريها وراء السبق الصحافي كيفما كان، وإن كانت توجهاتها أكثر ميلا إلى السياسة، بدليل أنها قررت الاستعانة بالناطق حول شؤون الثقافة في حزب المحافظين، إيد فايزي، ليكتب عمودا ثابتا في المجلة. والأهم من هذا فهي كما تقول تريد أن تعيد المجلة لجذورها الصحافية، كما تصورها مؤسساها أديسون وستيل اللذان أسسا أيضا «ذي سبيكتايتور» في عام 1711. اختيار كاثرين أوسلر للمجلة في وقت مهم جدا لم يكن بسبب قدراتها الصحافية فحسب، بل أيضا لأنها بدأت عملها الصحافي في المجلة، في قسم المنوعات، مباشرة بعد تخرجها في جامعة أوكسفورد بأسبوعين فقط. بعد ثمانية أشهر، انتقلت للعمل في صحيفة «ذي مايل أون صانداي» ثم «دي دايلي إكسبريس» و«ذي تايمز» و«دايلي مايل» ثم «إي.إس» لمدة ست سنوات. وحتى في بداية سنواتها كصحافية متدربة مع «تاتلر» حققت العديد من الخبطات الصحافية، مثل لقاء مع الارستقراطية صوفي وينكلمان، قبل زواجها، خصوصا أن هذه الأخيرة رفضت عرضا مغريا من مجلة «هالو» يقدر بـ600.000 جنيه إسترليني وفضلت أن تعطي اللقاء لأوسلر لأن المجلة كانت تتماشى مع جذورها الأرستقراطية أكثر.